ذلك الدين القيم (2)
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
ذلك الدين القيم (2)في المقالة السابِقة قلنا: إنَّ التوازن يشمل أمرين:
1- التوازن في التفكير.
2- التوازن في السُّلوك والعمَل.
وقلنا: إنَّ التفكير والفِكر محلُّه: العقل والقلْب.
أمَّا العقل، فلأنَّه محلُّ التعقُّل والتفكر.
والقرآن الكريم زاخِرٌ بالدعوة إلى التعقُّل والتفكُّر وإلى ما في معناهما؛ مِثل: التدبُّر، والنظر، والاعتبار، والتذكُّر، والتفقُّه...
وهكذا كما في الآيات الكريمة الآتية: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الحديد: 17]، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 4].
وقد وردتْ مادة "عقل" في القرآن الكريم حوالي خمسين مرَّة، كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [الروم: 8]، وقوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13].
وقد وردتْ مادة "فكر" في القرآن حوالي 18 مرةً في المعاني المقصودة هنا، ومثلها مادة "فقه"، أمَّا المادة "عبر"، فقد وردتْ حوالي سبع مرَّات كما هو مرادٌ هنا.
ومادة "التدبُّر" أربع مرَّات.
ومادة "التذكُّر" حوالي 45 مرة.
أمَّا مادة "النظر"، فقد وردت عشرات المرَّات.
وهذا كلُّه يُشير إشارةً بليغةً إلى أهمية التعقُّل والتبصُّر والتدبُّر والتأمُّل في كلِّ التصورات الذهنيَّة، وأنها لا بدَّ أن تقومَ على البرهان الصحيح، لا على الخَرْص والتخمين والتخيُّل.
وهذا المنهج الإسلامي فريدٌ بيْن المناهج الأخرى، وهو متَّزن معتدل، والناظِر في المناهِج البشريَّة الدينيَّة والفلسفيَّة يراها أطرافًا، حيث المنهج الدِّيني التقليدي الأعْمى الذي يفكِّر ولا ينظُر ولا يتأمَّل، بل يعتقد اعتقاداتٍ متناقضةً لا يُطيقها عقل الطفل، فضلاً عن عقولِ الكبار، كما في عقيدة النصرانيَّة القائمة على التثليث، وعقائد البوذيَّة والهندوس وغيرهما، وقد تأثَّر بهذا المنهج معظمُ المناهج الطرقيَّة الصوفيَّة في العالَم الإسلامي، فقد جاؤوا بسلوكياتٍ مبتدعة متطرِّفة.
وبإزاءِ ذلك هناك المنهجُ العقلاني الصِّرف الذي يعتمد على العقلِ اعتمادًا كليًّا، فيحتكِم إليه في عالَم الغيب والشهادة، أو ما وراءَ الطبيعة وما دونها وما فيها.
وهذا منهجُ فلاسفة اليونان ومَن اندرج في سلكهم مِن فلاسفة العرَب، أو مَن سَمَّوا أنفسهم بالفلاسفة الإسلاميِّين، كابن سينا والفارابي، ثم تأثَّر بهذا المنهج فئامٌ من المسلمين كالمعتزلة، والمتكلِّمين عمومًا.
وهناك منهجٌ ثالث خلَط بين المنهجين العقلاني والدِّيني الأعْمَى، وهو منهجُ الصوفية الإشراقيَّة القائلين بالحلولِ والاتحاد وتناسُخ الأرواح، وقد مثَّل هذا المنهج جمهرةٌ من المتصوِّفة الكبار؛ كابن سبعين، والسهروردي، والحلاَّج، وابن عربي، وابن الرومي.
أمَّا منهج الإسلام، فهو التوازُن في هذا، فالعقل يكون محيط الدائرة المحدَّدة.
والقلْب مشحونٌ بالإيمان الذي قد يَزيد بالطاعة وينقص بسببِ المعصية، ولكنَّه لا يخرُج عن دائرة الإسلام أو الإيمان.
وبالتزامِ هذا التوازن لا يَطغَى أيٌّ من العقل أو القلْب على الآخر.