شرح السنة [13]


الحلقة مفرغة

قال الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى: [ واعلم أن من قال لفظه بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن سكت فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق فهو جهمي، هكذا قال أحمد بن حنبل .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ) ].

بدأ في أول هذه الفقرة عن مسألة متفرعة عن أصل من أصول العقيدة عند السلف، وهي ما يتعلق بالقرآن، فأولاً نحن نعرف أن الله عز وجل موصوف بأنه متكلم، وكلامه على ما يليق بجلاله عز وجل، وأن القرآن الكريم كلام الله منزّل غير مخلوق، وأن هذا مما أجمع عليه سلف الأمة؛ لأنه اقتضته النصوص وقواعد العقيدة ولم يخالف في ذلك إلا الجهمية ومن سلك سبيلهم، من المعتزلة وبعض أهل الكلام والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة وغيرهم، فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، وبذلك كفّرهم السلف لأنهم أقاموا عليهم الحجة، وبيّنوا لهم الآيات البينات من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف.

فالقرآن كلام الله منزّل غير مخلوق، فلما قالت الجهمية بأنه مخلوق وحاورها السلف وأقاموا عليها الحجّة، تبيّن عنادها، وأنها حكّمت العقل فيما لا طاقة له به، وحكّمت أصول الفلاسفة وقواعد المتكلمين فزعمت أن القرآن مخلوق، فمن هنا حكم السلف بكفرية هذا القول، فتفرع عن هذا مسائل أخرى منها: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق.

والأصل أن الناس في عافية من هذا الأمر، وكذلك يجب أن يكونوا، ومن هنا فهذه المسألة ينبغي ألا تثار عند الناس إذا لم يكن الكلام فيها مشتهراً.

فمنذ عهد الإمام أحمد وقبله من منتصف القرن الثاني الهجري إلى نهاية القرن الثالث تقريباً أو قبل نهايته بقليل والجهمية يرفعون شعارهم بذلك، خاصة في عهد المأمون في بداية القرن الثالث الهجري إلى منتصفه فإنهم زعموا أن القرآن مخلوق، ورفعوا ذلك على المنابر وأشهروه في المناظرات والكتب، وفتنوا الناس به، فاضطر السلف إلى أن يتكلموا في هذه المسائل، ثم حينما انهزمت الجهمية والمعتزلة على يد الإمام أحمد وتبين الحق وانجلت الفتنة ولم يبق إلا المعاند ظهر بعض ضعاف الجهمية بقول يظنون أنهم يرضون به السلف، وقالوا: نحن لا نقول: القرآن مخلوق، لكن نقول: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة! ويقصدون بذلك القرآن، فهي حيلة على البدعة.

فلما تفطن السلف لهذه الحيلة بدّعوا من قال بهذا القول سواء بنفي أو إثبات؛ لأنه أولاً: ذريعة إلى الخوض في هذه المسألة الخطيرة، وثانياً: مدخل للجهمية بأن يتأولوا من خلاله لقولهم المبتدع الكفري، وثالثاً: لأن الناس قد تتفاوت مفاهيمهم ومداركهم لهذه الكلمة.

فالقول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق فيه شبهة، فبدّع السلف من قال به، ولذلك وجد من السلف من قال بهذا القول على مقصد صحيح، وهو قوله بأن ألفاظنا وأصواتنا بالقرآن التي خرجت عن ألسنتنا وحلوقنا وشفاهنا مخلوقة، وهذا صحيح، لكن المبتدع لا يقف عند هذا الحد فيقصد اللفظ والمعنى، وإن قال لفظي بالقرآن مخلوق فإنه ربما يقصد القرآن أيضاً ويتأوّل.

فمن هنا أقول: إن هذه المسألة محل نزاع بين السلف، لكن أئمة السلف كرهوها وبدّعوا من قال بها لأنها ذريعة إلى القول بالبدعة، سواء بالنفي أو الإثبات.

قال رحمه الله تعالى: [ واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم فكروا في الرب عز وجل، فأدخلوا لم وكيف، وتركوا الأثر ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاءوا بالكفر عياناً لا يخفى أنه كفر، وكفّروا الخلق، واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل ].

كيفية نشأة أصول الجهمية

الكلام هنا في أصول الجهمية، وأصول الجهمية كثيرة وسيوردها الشيخ بعد قليل فيما أورده الإمام أحمد وغيره من الأئمة، لكنه هنا ذكر مجمل أصول الجهمية التي خالفوا فيها السنة والتي تفردوا بها وعارضوا بها الحق، وأول ذلك أنهم فكّروا في الرب عز وجل، أي: أخضعوا ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لأفكارهم، وجعلوا للعقول سلطاناً على الخوض في الجوانب الغيبية من ذلك.

والتفكير في الرب عز وجل لا طاقة للبشر فيه ولا للمخلوقات، والتفكر إنما هو في مخلوقات الله وفي آلائه ونعمه، وفي حكمه وخلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.

ويجب على المسلم أن يقف عند ألفاظ الشرع ومعانيها ولا يتجاوز ذلك إلى الكيفيات، أو إلى الحقائق الغيبية، فإن الحقائق الغيبية غير معلومة، هذا هو الأصل، والجهمية تجاوزت هذا الأصل وفكّرت في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله على الحقيقة الغيبية، أو فكّرت في الحقيقة الغيبية بالكيفيات، فمن هنا وقعت فيما وقعت فيه بعد ذلك، حيث أعملوا عقولهم فيما لا طاقة لها به من أمور الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالله عز وجل، فنشأ عن ذلك الأصل الباطل الثاني عند الجهمية، وهو أنهم لما أعملوا عقولهم وردت عليهم أسئلة وشبهات لِم وكيف؟ يعني: لِم فعل الله كذا؟ لِم وصف الله نفسه بكذا؟ لِم لم يصف الله نفسه كذا؟ وكيف كان كذا؟ وكيف تكون صفته؟ وكيف يكون اسمه؟ إلى آخره..

ثم نشأ عن ذلك أصل ثالث، وهو أنهم حينما وجدت عندهم هذه الشبهات لم يعالجوها بالأثر، والأثر هو الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف.

وكأن الشيخ يقول: لما فكّروا في الرب عز وجل وأخطئوا في ذلك ثم دخلوا في الشبهات بكيف ولِم، كان المفروض أن يزيلوا هذه الشبهات والشكوك بالرجوع إلى الكتاب والسنة الذي هو الأثر، والرجوع إلى آثار السلف الصالح، لكنهم لم يفعلوا فتركوا الأثر، فنتج عن ذلك أصل رابع، وهو أنهم حينما خاضوا وفكّروا في الرب عز وجل وأدخلوا لِم وكيف، ولم يحكّموا الكتاب والسنة اضطروا لوضع أصول من عندهم على القياس.. أي: قياس الغائب على الشاهد، وأعظم الغيب وأوله وأعلاه وأجله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، فقاسوا الغيب على عالم الشهادة فقالوا: لا يكون موجود إلا جسماً، ولا يكون جسم إلا مركّباً من أجزاء، ولا يكون مركّب من أجزاء إلا مفتقراً إلى أجزائه، ثم قالوا: هذه الأمور لا تليق بالله عز وجل، فنفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال..

ولما وضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم، نتج عن هذا نتيجة وهي الأصل الخامس، وهو أن جاءوا بالكفر عياناً، فأنكروا ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إنكاراً صريحاً، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا الوجود المطلق أو مطلق الوجود، أو الوجود المجرد، أو الوجود الذهني، أو الوجود العقلي.. على اختلاف بينهم.

فنتج عن ذلك أن خالفوا الأمة، فلما خالفوها وقالوا بالكفر اضطروا لنتيجة وهي الأصل السادس، وهي تكفير من خالفهم.

فالجهمية تكفّر من خالفها من المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة.

وكما قلت: إنه في مثل هذا المقام إذا تكلمنا عن الجهمية نقصد بهم العموم إلا إذا دلّت القرينة على أن المقصود طائفة منهم، فالجهمية هم كل من أنكر الصفات أو أوّلها، فعلى هذا فالجهمية الخالصة جهمية، والمعتزلة جهمية، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية جهمية، ومتكلمة الكلابية جهمية.. وهكذا، لكن الذين وقعوا في الكفر هم الجهمية الأصلية، وطوائف من المعتزلة.

ثم وقعوا في الأصل السابع عندهم وهو القول بالتعطيل..

خلاصة أصول الجهمية

هذه خلاصة أصول الجهمية:

أولاً: أنهم أعملوا العقول في الغيب في الله عز وجل وفكّروا في الله ولم يفكّروا في خلقه وآلائه.

ثانياً: أدخلوا الشبهات لِم وكيف.

ثالثاً: أعرضوا عن الأثر ليحلوا مشكلاتهم بقولهم ولم يوفقوا لتحكيم الكتاب والسنة فنتجت النتيجة الرابعة.

رابعاً: وضعوا القياس وقاسوا الغائب بالشاهد، فترتب على هذا النتيجة الخامسة.

خامساً: جاءوا بالكفر عياناً، ثم بعد ذلك ترتب عليها القاعدة السادسة أو الأصل السادس وهو..

سادساً: أنهم كفّروا المخالفين، ثم انتهى بهم الأمر إلى..

سابعاً: التعطيل المطلق.

الكلام هنا في أصول الجهمية، وأصول الجهمية كثيرة وسيوردها الشيخ بعد قليل فيما أورده الإمام أحمد وغيره من الأئمة، لكنه هنا ذكر مجمل أصول الجهمية التي خالفوا فيها السنة والتي تفردوا بها وعارضوا بها الحق، وأول ذلك أنهم فكّروا في الرب عز وجل، أي: أخضعوا ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لأفكارهم، وجعلوا للعقول سلطاناً على الخوض في الجوانب الغيبية من ذلك.

والتفكير في الرب عز وجل لا طاقة للبشر فيه ولا للمخلوقات، والتفكر إنما هو في مخلوقات الله وفي آلائه ونعمه، وفي حكمه وخلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته وأفعاله.

ويجب على المسلم أن يقف عند ألفاظ الشرع ومعانيها ولا يتجاوز ذلك إلى الكيفيات، أو إلى الحقائق الغيبية، فإن الحقائق الغيبية غير معلومة، هذا هو الأصل، والجهمية تجاوزت هذا الأصل وفكّرت في ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله على الحقيقة الغيبية، أو فكّرت في الحقيقة الغيبية بالكيفيات، فمن هنا وقعت فيما وقعت فيه بعد ذلك، حيث أعملوا عقولهم فيما لا طاقة لها به من أمور الغيب، وبخاصة ما يتعلق بالله عز وجل، فنشأ عن ذلك الأصل الباطل الثاني عند الجهمية، وهو أنهم لما أعملوا عقولهم وردت عليهم أسئلة وشبهات لِم وكيف؟ يعني: لِم فعل الله كذا؟ لِم وصف الله نفسه بكذا؟ لِم لم يصف الله نفسه كذا؟ وكيف كان كذا؟ وكيف تكون صفته؟ وكيف يكون اسمه؟ إلى آخره..

ثم نشأ عن ذلك أصل ثالث، وهو أنهم حينما وجدت عندهم هذه الشبهات لم يعالجوها بالأثر، والأثر هو الكتاب والسنة وما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف.

وكأن الشيخ يقول: لما فكّروا في الرب عز وجل وأخطئوا في ذلك ثم دخلوا في الشبهات بكيف ولِم، كان المفروض أن يزيلوا هذه الشبهات والشكوك بالرجوع إلى الكتاب والسنة الذي هو الأثر، والرجوع إلى آثار السلف الصالح، لكنهم لم يفعلوا فتركوا الأثر، فنتج عن ذلك أصل رابع، وهو أنهم حينما خاضوا وفكّروا في الرب عز وجل وأدخلوا لِم وكيف، ولم يحكّموا الكتاب والسنة اضطروا لوضع أصول من عندهم على القياس.. أي: قياس الغائب على الشاهد، وأعظم الغيب وأوله وأعلاه وأجله ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته، فقاسوا الغيب على عالم الشهادة فقالوا: لا يكون موجود إلا جسماً، ولا يكون جسم إلا مركّباً من أجزاء، ولا يكون مركّب من أجزاء إلا مفتقراً إلى أجزائه، ثم قالوا: هذه الأمور لا تليق بالله عز وجل، فنفوا عن الله الأسماء والصفات والأفعال..

ولما وضعوا القياس وقاسوا الدين على رأيهم، نتج عن هذا نتيجة وهي الأصل الخامس، وهو أن جاءوا بالكفر عياناً، فأنكروا ذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته وأفعاله إنكاراً صريحاً، حتى أنهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا الوجود المطلق أو مطلق الوجود، أو الوجود المجرد، أو الوجود الذهني، أو الوجود العقلي.. على اختلاف بينهم.

فنتج عن ذلك أن خالفوا الأمة، فلما خالفوها وقالوا بالكفر اضطروا لنتيجة وهي الأصل السادس، وهي تكفير من خالفهم.

فالجهمية تكفّر من خالفها من المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة.

وكما قلت: إنه في مثل هذا المقام إذا تكلمنا عن الجهمية نقصد بهم العموم إلا إذا دلّت القرينة على أن المقصود طائفة منهم، فالجهمية هم كل من أنكر الصفات أو أوّلها، فعلى هذا فالجهمية الخالصة جهمية، والمعتزلة جهمية، ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية جهمية، ومتكلمة الكلابية جهمية.. وهكذا، لكن الذين وقعوا في الكفر هم الجهمية الأصلية، وطوائف من المعتزلة.

ثم وقعوا في الأصل السابع عندهم وهو القول بالتعطيل..

هذه خلاصة أصول الجهمية:

أولاً: أنهم أعملوا العقول في الغيب في الله عز وجل وفكّروا في الله ولم يفكّروا في خلقه وآلائه.

ثانياً: أدخلوا الشبهات لِم وكيف.

ثالثاً: أعرضوا عن الأثر ليحلوا مشكلاتهم بقولهم ولم يوفقوا لتحكيم الكتاب والسنة فنتجت النتيجة الرابعة.

رابعاً: وضعوا القياس وقاسوا الغائب بالشاهد، فترتب على هذا النتيجة الخامسة.

خامساً: جاءوا بالكفر عياناً، ثم بعد ذلك ترتب عليها القاعدة السادسة أو الأصل السادس وهو..

سادساً: أنهم كفّروا المخالفين، ثم انتهى بهم الأمر إلى..

سابعاً: التعطيل المطلق.

قال رحمه الله تعالى: [ وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم لا يرث ولا يورث؛ لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة، وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وخالفوا من كان قبلهم، وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطّلوا الجهاد، وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار، وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة، والجنة والنار لم تخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه؛ لأنه من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة، وأوهنوهما وصارتا مكتومتين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس، وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرياسة، فكانت فتنة عظيمة لم ينج منها إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم أن يشك في دينه أو يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على حق أو على الباطل، فصار شاكاً، فهلك الخلق، حتى كانت أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل ، فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا.

والرسم وأعلام الضلالة قد بقي منهم قوم يعملون بها ويدعون إليها، لا مانع يمنعهم، ولا حاجز يحجزهم عما يقولون ويعملون ].

هذا كلام عظيم، ويمثل خلاصة وصف الجهمية المعتزلة على وجه الخصوص، ووصف أهل الأهواء على وجه العموم وسماتهم في كل زمان، وهذا أشبه بكلمات الإمام أحمد وإن لم يجزم أنه من كلامه، لكنه فيه عبارات هي من كلام الإمام أحمد ؛ لأن الإمام أحمد يتميّز منهجه بالتأصيل وانتخاب العبارات الجامعة المانعة في التعبير عن أصول الاعتقاد وأصول المخالفين، ولا يحب الحشو من الكلام ولا الاستطراد.

وهنا أشار الشيخ إلى سبعة عشر أصلاً من أصول الجهمية ثم عرّج على سمات الجهمية التي كانت تتميز بها في ذلك العصر، بل وفي كل عصر، وهذا الكلام الذي سأذكره وهو قواعد الجهمية يشمل الجهمية والمعتزلة في ذلك الوقت؛ لأن الجهمية في ذلك الوقت تتمثّل بالمعتزلة، وانطوت تحت لوائها، وصارت المعتزلة هي التي رفعت لواء التجهّم في القرن الثالث، فلا فرق بينهما في هذه الفترة التي عبّر عنها الإمام أحمد والأئمة من بعدهم، والتمييز الفني أو التمييز التخصصي بين الجهمية والمعتزلة إنما يأتي عند الكلام المفصّل عنهما، أما عند الكلام عن مفردات مقولاتهما فإنه لا فرق بينهما إلا في أمور قليلة، لا سيما في الأصول، فإن أصول الجهمية والمعتزلة واحدة، إنما الاختلاف في بعض التفريعات والتفصيلات، فمن هنا الكلام عن الجهمية يشمل المعتزلة ويشمل الفرق التي أخذت بأصول التجهم والاعتزال في ذلك الوقت، وهي الرافضة والخوارج.

فإن الرافضة والخوارج في ذلك الوقت أخذوا بأصول التجهّم والاعتزال، حتى أنه من المشهور الذي ينبغي أن يعلمه أيضاً كل طالب علم، أن الذين رفعوا لواء الفتنة من المعتزلة الجهمية في القرن الثالث كان أغلبهم رافضة لكن شعار التجهّم غلب عليهم، ومنهم شيعة غير رافضة.

فعلى هذا نقول: إن الكلام هنا يشمل جميع أهل الأهواء في ذلك الوقت، وإن كان موجهاً إلى الجهمية والمعتزلة.

قال الشيخ: (وقال بعض العلماء منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه: الجهمي كافر)، يقصد بذلك الجهمي الخالص، أو الجهمي الذي أصر في ذلك الوقت على القول بخلق القرآن؛ لأنها قضية الساعة في ذلك الوقت.

ومن هنا نستفيد فائدة في منهج تقرير الدين والدفاع عنه، وهو أنه كلما اشتهرت مسألة من المسائل التي تخالف الحق سواء كانت من بدع العقائد أو بدع العادات أو بدع العبادات أو بدع الأعياد أو بدع الأحوال.. أو غيرها، فإنه يسع طلاب العلم أن يكثروا من الكلام عنها، ولا يكون ذلك مخالفاً للمنهج؛ لأن كل شيء له مناسبته، فإذا بُلي الناس ببلية من البلايا فلا بد من كثرة الكلام عنها، فإذا ابتلي الناس مثلاً بالطعن في العلماء فلا بد من التركيز على هذه القضية، ولا يعتبر ذلك خروجاً أو مبالغة.. وإذا ابتلي الناس بعدم النصح للولاة، فلا بد من التركيز على هذه القضية؛ لأنها قضية خطيرة إذا تُركت فتكت بالأمة، وإذا ابتلي الناس بالكلام عن إنكار الشفاعة مثل ما ظهر في الآونة الأخيرة عن بعض المفتونين، فيسع طلاب العلم أن يشهروا القضية ويتكلموا فيها، وإذا ابتلي الناس بأعياد بدعية فيسع طلاب العلم أن يتكلموا عن هذه الأمور ويحذّروا منها، أو مسايرة أهل الكتاب في أعيادهم كما يحصل في مثل هذه الأيام وما بعدها، فينبغي التركيز على هذه القضية لأنها فتنة الساعة وهكذا..

فأقول: إننا نستشهد على هذا بكلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة في تفصيلات كانت في وقتهم لم توجد في أوقات من قبل، وربما خفّت من بعد.

الأصل الأول: قولهم: لا جمعة ولا جماعة ولا عيدين ولا صدقة

قال: (الجهمي كافر ليس من أهل القبلة، حلال الدم ولا يرث ولا يورث)، ثم علل لذلك، وهذا التعليل هو شرح لأصول الجهمية التي أولها قولهم لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة.. هذا مما لا يعرفه أكثر الناس عن الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج في ذلك الوقت، بل في كل وقت، وهو أن من أصولهم أنهم لا يعتقدون لولاة المسلمين ولاية، ولولا أن المأمون سايرهم ما اعتقدوا له بيعة، فمن هنا كان لا يعتقدون صحة الجمعة ولا الجماعة، ولا العيدين، ولا الصدقة التي هي الزكاة التي تجبيها الدولة، وهذه سمة عامة لجميع أهل الأهواء في كل زمان.

ثم إن أغلب رافع رايات الجهمية في ذلك الوقت إما خوارج وإما رافضة أو شيعة، وهؤلاء كلهم معروف رأيهم في الجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، هذا من جانب.

من جانب آخر يشير والله أعلم إلى أن الجهمية مرجئة خالصة لا ترى للأعمال وزناً، فتستهين بالجمعة والجماعة والعيدين والصدقة، وكلا الاحتمالين وارد، بل أظن الاحتمالين مجتمعين في أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم.

الأصل الثاني: تكفير من لم يقل بخلق القرآن

ثم ذكر الأصل الثاني: (وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق فهو كافر).

ومعنى هذا أنهم كفّروا المسلم، وهذا يقتضي كفرهم هم بناء على الحديث: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما).

هذا كله تبرير لقوله بأنهم كفار ليسوا من أهل القبلة، حلال الدم ولا يرثون ولا يورثون.

الأصل الثالث: استحلال السيف على أمة محمد

ثم ذكر الأصل الثالث قال: (واستحلوا السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم).

واستحلال السيف على الأمة سمة عامة للمبتدعة، وهو الخروج على الولاة، والخروج عن جماعة المسلمين، واستحلال دماء المخالفين، لكن هذه السمة تتفاوت بينهم من مقل أو مكثر، فمنهم من هو صريح يُعلن ذلك ويرفعه كالخوارج، ومنهم من هو جبان منافق كالرافضة، فيرون أن ذلك لا يُعلن إلا إذا ظهر إمامهم الموهوم الخرافة.

ولعل من حظ المسلمين أن الرافضة يعلقون خروجهم على المسلمين بظهور هذه الخرافة التي ينتظرونها، ونعلم أنه لن يظهر إلا إن كان على صورة الدجال ، ولا أستبعد أنهم إذا ظهر الدجال يعتقدون أنه مهديهم؛ لأنا نعرف أن عامة أهل البدع والأهواء يفتنون بـالدجال وأولهم الرافضة، ويخرج من بلادهم أيضاً.

فعلى هذا يظهر أن السلف أجمعوا واتفقوا على أن من سمات أهل الأهواء والجهمية استحلال السيف، ومن استحل السيف على الأمة سواء فعل أو لم يفعل فهو كافر؛ لأن بعض الناس يظن أن استحلال السيف هو رفعه! وليس كذلك، بل المعنى أنهم يستبيحون قتل المسلمين لو تمكنوا، لكن ليس منهم من فعل ذلك إلا الخوارج، وكذلك المعتزلة حينما تمكنت في عهد المأمون .

والدليل على استحلالهم السيف أنهم استحلوا دماء الناس حتى الأئمة، كان ابن أبي دؤاد رأس الجهمية في ذلك الوقت يحرّض أحد الولاة ولا أدري هل هو المأمون أو الواثق أو المعتصم على الإمام أحمد في أثناء المناظرة ويقول: اقتله ودمه في ذمتي، فهذا من استحلال السيف، أما الإمام أحمد فما قال هذه الكلمة، ولا حرّض على الجهمية وقد عايش غلاتهم الذين أعلنوا الزندقة.

الأصل الرابع: مخالفة السلف

رابعاً من أصولهم: (وخالفوا من كان قبلهم)، ما عليه سلف الأمة.

الأصل الخامس: امتحان الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

وخامساً: (وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه).

أوقعوا الناس في حرج في دينهم، وألزموهم بأن يقولوا الكفر، فكانوا لا يولون قاضياً حتى يقول بكفرهم، ولا يولون محتسباً ولا والياً ولا أميراً ولا خطيباً للجمعة حتى يقول بقولهم، حتى قالت بعض كتب التاريخ: إنهم وضعوا المتاريس على الأسواق فلا يعبرها إلا من يقول بكفرهم وإلا يُحبس في بيته ويموت، ووضعوا السياج والحراس في أبواب المساجد فلا يدخل أحد يصلي ولا يخرج حتى يقول بكفرهم، وهذا لم يفعله أهل الحق الذين هم على السنة، فيكون هذا من باب الإكراه الذي لم يأمر الله به، فامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، امتحنوهم بالصفات، وامتحنوهم بالأسماء، وامتحنوهم بالقول بخلق القرآن، وامتحنوهم بأشياء كثيرة.

الأصل السادس: تعطيل المساجد والجوامع

سادساً: (وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع).

ويقصد بذلك أن منهجهم هذا يؤدي إلى تعطيل المساجد والجوامع؛ لأنهم من جانب أعلنوا الجبر والإرجاء الكامل الذي جعل الناس يعرضون عن شرع الله فلا يعتادون المساجد، وجعلوا المعرض عن المسجد والمصلي كليهما كاملي الإيمان، فهذا أدى إلى تساهل الناس في الدين، كما أنهم أرادوا تعطيل المساجد بمنع الناس أن يدخلوها إلا على مذهبهم، وأيضاً لا يرون مشروعية ما عليه السلف من إقامة الجمع والجماعات كما سبق، وهذا راجع إلى ما ذكره في الفقرة الأولى.

الأصل السابع: أوهنوا الإسلام

سابعاً: (وأوهنوا الإسلام) من كل وجه.

أولاً: حطّموا العقيدة في قلوب الناس، وهذا أعظم وهن في الدين، ثم بعد ذلك أشاعوا الزندقة والإلحاد والإعراض عن الدين في السلوك، وأشاعوا الفلسفات والأمراض العقلية والثقافية والعقدية، ثم بعد ذلك أوهنوا المسلمين بما ذكره فيما بعد من تعطيل الجهاد، وشغلوا المسلمين عن مكاسب الحياة وعمارة الأرض بالفلسفة والمناظرات والمجادلات، وهذا من أعظم المشغلات عن الجد في حياتهم.

وأعظم من هذا أشغلوا بعض المسلمين ببعض عن الجهاد جهاد العدو، ولذلك لا أعرف أنه قام جهاد ضد الأمم المشركة والضالة على يد أهل الأهواء والافتراق والبدع، وصلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان قائداً يحترم السنة والجماعة ويحترم السلف، وإن كان ينتسب للأشاعرة لكن ليس أشعرياً خالصاً فيما أعلم، ولو كان من المتكلمين لما استطاع أن يرفع راية الجهاد ولكان جهاده ضد أهل السنة والجماعة، لكن هو ليس بمتكلم وكذلك من كان مثله من الأتراك الأولين، فهؤلاء يرفعون شعار السنة ويوقرون السنة ويوقرون السلف، لكن لا أعرف أنه قامت معركة حاسمة بين المسلمين والكفار على يد رافضي أو خارجي أو نحوهم.

وينطبق على جميع أهل الأهواء الخارجين عن السنة وصفهم الذي أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدري عن مدى صحته عن الخوارج بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فهم عطّلوا الجهاد فعلاً وجعلوا الجهاد جهاد المسلمين ولم يجاهدوا الكفار، أو صرفوا الجهاد إلى المراء والجدل الذي حرمه الله عز وجل.

الأصل الثامن: عملوا في الفرقة

(وعملوا في الفرقة) وهذا هو الأصل الثامن عندهم، ومن السمات والأصول الطبيعية لأهل الأهواء أنهم يعملون الفرقة لأنهم مفارقون، فالمفارق لا بد أن يكون سعى إلى الفرقة بنفسه أو بغيره.

الأصل التاسع: خالفوا الآثار

ثم تاسعاً: (وخالفوا الآثار).

أي خالفوا ما جاء في الكتاب والسنة وآثار السلف بأصولهم الفاسدة.

الأصل العاشر: تكلموا في المنسوخ

وعاشراً: (وتكلموا في المنسوخ).

وهذا دليل على جهلهم وانحراف مناهجهم، ربما استدلوا بالمنسوخ على الناسخ، فوقعوا في الخلط والخبط في الاستدلال.

الأصل الحادي عشر: احتجوا بالمتشابه

الحادي عشر: (واحتجوا بالمتشابه)، وجعلوه هو الأصل، والمفروض أن المتشابه يرد إلى المحكم.

الأصل الثاني عشر: شككوا الناس في آرائهم وأديانهم

والثاني عشر: (فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم)؛ لأن الناس كانوا على السلامة الأصلية لا يعرفون هذه الحذلقات والفلسفات والمناظرات والجدال والأمور التي لا تظهر أمام العامة، مثل العرض، والجوهر، والمباينة، والمفاصلة، والكلام في الصفات والأسماء والأفعال، والكلام في التشبيه والتجسيم، والقرآن بأنه محدث أو مخلوق وغير مخلوق.. كل هذه الأمور ما كان الناس يعرفها، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم.

الأصل الثالث عشر: اختصموا في ربهم

والثالث عشر: (واختصموا في ربهم) عز وجل.

حقيقة حالهم أنهم اختصموا في الله، والله عز وجل أعفاهم من ذلك، فالله عز وجل قرر لنا ما لا حاجة إلى البشر بعده من ذكر عظمته وجلاله بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على جهة التفصيل، وكل ما يحتاجه البشر مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله جاء في الكتاب والسنة، لكنهم ذهبوا يخاصمون في ربهم، والله عز وجل يقول: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10].

الأصل الرابع عشر: أنكروا السمعيات

الرابع عشر: أنهم (قالوا: ليس عذاب قبر ولا حوض ولا شفاعة).

وهذا يسمى إنكار السمعيات، وهذا يقع من الجهمية الخالصة وبعض المعتزلة.

الأصل الخامس عشر: زعموا أن الجنة والنار لم تخلقا

الخامس عشر: قال: (والجنة والنار لم تخلقا).

هذه عندهم شبه عقلية يقولون: إذا كانت قد خلقت فأين تكون، وهي لا تستوعبها السماء والأرض؟! يعني فقط مجرد عقول، مع أن أحوال الجنة والنار والغيبيات، وأحوال البرزخية وأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا أبداً.

الأصل السادس عشر: أنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

السادس عشر: (أنكروا كثيراً مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه)؛ يعني: حينما ردوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صريح.

الأصل السابع عشر: رد آيات الكتاب

السابع عشر: (لأنه من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله)، يعني أن ردهم للآثار والنصوص جعلهم يقعون في الكفر بالله العظيم.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح السنة [3] 3360 استماع
شرح السنة [8] 3053 استماع
شرح السنة [10] 2673 استماع
شرح السنة [2] 2631 استماع
شرح السنة [19] 2589 استماع
شرح السنة [1] 2467 استماع
شرح السنة [17] 2372 استماع
شرح السنة [5] 2343 استماع
شرح السنة [14] 2283 استماع
شرح السنة [9] 2187 استماع