شرح العقيدة الطحاوية [72]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!.

ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلَّم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط ].

يقصد بذلك أن الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وهم طائفة من الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص، هذا من جانب، ومن جانب آخر أيضاً هو قول المعتزلة والخوارج، ليس فقط قول طوائف بعض المرجئة، فالذين قالوا: إن كونه يلزم من زوال جزئه زواله كله هم بعض المرجئة، وهم أيضاً الخوارج والمعتزلة، والخوارج والمعتزلة هم عكس المرجئة في كثير من الأمور، ومع ذلك يلتقون في بعض المستلزمات وبعض الأقوال.

وهو هنا يريد أن يرد على الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وإنه إذا زال جزء منه زال كله، يريد أن يرد عليهم بأن هذا الكلام كلام مجمل، يقول: إذا قلتم: إن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه؛ فهذا لا يصح.

وقوله: [فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية] يقصد كل أفراد الإيمان، فهو يقول: إنه لا يصح أن الإيمان يزول كله بزوال الجزء، أما إذا أرادوا أن الإيمان إذا زال شيء منه لم يبق مجتمعاً فهذا صحيح، فنحن نعرف أن الإيمان بمجموعه إذا زال جزء منه لم يبق سليماً في الجملة، فيختل شيء منه بقدر خلل هذا العمل، ولا يبقى كاملاً أيضاً، فإنه ينقص بقدر نقص هذا العمل، لكن لا يصح أن نقول: إنه إذا اختل منه شيء أو زال جزؤه أو ذهب بعضه فقد ذهب مسمى الإيمان عن المؤمن أو زال كله، بمعنى أنه لا ينعدم بزوال جزء منه، بل يبقى أصله حتى ولو كثر النقص فيه، فلو افترضنا أن النقص في أكثر أجزاء الإيمان فإنه يبقى أصله، هذا جانب.

والجانب الآخر: أننا لو افترضنا أن النقص جاء من شيء عظيم في الدين -كارتكاب بعض الكبائر- فإنه مع ذلك قد يختل خللاً عظيماً، لكن يبقى أصله، وقد يرتفع معنى الإيمان عن المسلم في لحظة ما، لكنه مع ذلك لا ينفك عنه مسمى الإسلام ولا مسمى الإيمان، إنما قد يرتفع في تلك اللحظة التي حدث للمسلم فيها عارض، كأن يشك في شيء من الدين أو يضطرب اعتقاده أو يحصل له شيء من النزغات العظيمة التي تستوجب زوال الإيمان في لحظة ما، لكنه لا يلبث أن يعود، بل ربما يرتكب من الكبائر والفواحش العظام ما يمكن أن نقول: إنه بذلك لم يكن مؤمناً في تلك اللحظة التي حصل منه فيها ذلك الفعل، بمعنى أنه لا يستحق أن يكون ممن وفى بالإيمان، لكن يبقى أصل الإيمان ثابتاً.

فعلى هذا فإن قول الذين يقولون: إن الإيمان يزول كله بزوال جزئه لا يصح، وإذا كان قصدهم أنه يزول كماله فنعم، لكن هذا لا يسمى زوالاً، بل يسمى نقصاً، ويسمى تقصيراً، ويسمى خللاً، ويسمى عدم كمال .. إلى آخر ذلك من الألفاظ التي يعبر بها أهل العلم، والآن سيبدأ في الاستدلال على تقرير زيادة الإيمان أو نقصانه.

أدلة الكتاب على زيادة الإيمان ونقصانه

قال رحمه الله تعالى: [ والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً، منها: قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] ].

هنا صرح تعالى بزيادة الإيمان، فزيادة الإيمان بسبب الجمع بين العمل والمعرفة، أو العمل والتطبيق، أو تلاوة آيات الله، زادتهم إيماناً، ولا شك أنه يلزم منها أنها زادتهم يقيناً وزادتهم عملاً؛ لأن من زاد يقينه زاد عمله.

قال رحمه الله تعالى: [ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ].

هذه خمسة أدلة من كتاب الله عز وجل كلها صريحة صراحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض في أن الإيمان يزيد، وعلى أنه يزيد بمجموعة من الأمور القلبية والعملية، وليس في الأمور القلبية التصديقية فقط.

قال رحمه الله تعالى: [ وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟! فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! ].

هنا أشار إلى اعتراض قال به المرجئة، وهو أنهم قالوا في الزيادة المذكورة في هذه الآيات وفي غيرها: إن هذه الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به، أي: بزيادة الشرائع، فقالوا: إن زيادة الإيمان للمؤمنين بزيادة ما يرد إليهم من الله عز وجل من أوامر ونواه وأخبار، فكلما زادت الأخبار عندهم -بزعمهم- وصدقوا بها زاد إيمانهم بذلك، وكلما زادت الأعمال وصدقوا بها زاد إيمانهم، فكأنهم أعادوا الزيادة إلى مجرد التصديق بالقلب، ثم أجابوا على هذا: بأن قولهم هذا لا يصح وإن كان ضمن الزيادة الواردة في النصوص الشرعية، فلا شك أن زيادة المؤمن به واقعة، بمعنى أن الشرائع تزيد في وقت تنزل الوحي، وفي وقت نزول هذه الآيات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه أشياء من الأعمال والاعتقادات تزيد في مسمى الإسلام، وفي شرائعه، هذا معنى صحيح، لكن ليس هذا فقط هو معنى الزيادة.

إذاً: فالذين قالوا بأن الزيادة زيادة المؤمن به يقصدون به زيادة الأعمال المشروعة، فرد عليهم بقوله: فهل في قول الناس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] زيادة مشروع؟! يعني: هل جاء فيه تشريع جديد؟! نعم إن الله عز وجل أمرهم بأن يثبتوا في الإيمان، لكن لا يعني ذلك أنه جاءهم أمر جديد في الدين، إنما أمرهم الله عز وجل بأن يثبتوا على ما هم عليه، فكذلك بقية الآيات، فليس فيها زيادة عمل مشروع، إنما فيها إشارة إلى أن المؤمنين الذين حصل لهم ذلك زاد إيمانهم، وزاد يقينهم، وزاد عملهم، وزاد أخذهم بالأسباب، وكل مستلزمات الزيادة معروفة، وأقل ذلك أنهم لما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم؛ قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا دليل على أنهم جمعوا بين يقين القلب وبين العمل، وهو نطق اللسان في الاحتساب وفي مسألة اللجوء إلى الله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]].

الآيات التي تتنزل ويزداد بها المؤمنون إيماناً تتضمن العقائد والأمور القلبية، وتتضمن الأعمال، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن الله عز وجل نسب الزيادة إلى الإيمان نسبة صريحة لا لبس فيها كما ذكرت، إذاً: فمحاولة تأول هذا الأمر فيه نوع تناقض وتكلف.

بيان حال حديث أبي هريرة في امتناع زيادة الإيمان ونقصانه

قال رحمه الله تعالى: [ وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا الفقيه، قال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيي بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: (لا، الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر) ].

هذا الحديث لا يصح كما قال أهل العلم.

قال رحمه الله تعالى: [ فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعمرو بن علي الفلاس ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، والعقيلي ، وابن عدي ، والدارقطني وغيرهم، وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة -وقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان - فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً! ].

إذاً: الحديث لا دليل فيه، ولا يصح الاستدلال به، ولا تكون به حجة للمرجئة، ومتنه تظهر عليه علامة الوضع، فالمتن مركب تماماً على عقيدة المرجئة التي ما ظهرت إلا في آخر القرن الأول، فهو مركب تركيباً يناسب عقيدة المرجئة في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وقول طائفة منهم ومن المتكلمين بأن نقص الإيمان يعني الكفر، يعني: إذا نقص اختل كله، وهذا لا يستقيم مع النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولا مع ما أجمع عليه السلف، ولا مع قواعد الشرع المعروفة في مسائل التكفير.

إذاً: فعلامات الوضع على متن الحديث واضحة جداً، وقد كفينا في موضوعه والحديث عنه من قبل أهل العلم؛ لأن السند لا يصح أبداً.

الأدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه

قال رحمه الله تعالى: [ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين ].

هذا الدليل السادس؛ لأن الأدلة متفرقة نوعاً ما، فالشيخ استأنف الاستدلال على زيادة الإيمان ونقصانه عند أهل السنة والجماعة، وهذا هو الدليل السادس.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخر غير الإيمان؟! ].

الإشارة إلى حديث شعب الإيمان هو الدليل السابع، وحديث الشفاعة الدليل الثامن، والشاهد أن حديث شعب الإيمان معروف، وسبق إيراده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، وفي بعض الروايات: بضع وستون، ثم ذكر أعلاها وأدناها، وهي من الأعمال، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدنها إماطة الأذى عن الطريق، وهي كلها أعمال، فعلى هذا فإن الإيمان يشمل الأعمال، ويزيد وينقص؛ لأن ذكر الأعلى إشارة إلى الزيادة والأدنى إشارة إلى النقص.

وكذلك حديث الشفاعة، ذكر فيه أنه يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال ذرة، وفي سياق الحديث ثلاث مرات، أي: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؛ لأن الحديث ورد متدرجاً، فذكر فيه أدنى مرة، ثم أدنى مرتين، ثم أدنى ثلاثاً، فذكر الثالثة يدل على المقصود بشكل أوضح، فدل على أن الإيمان له أدنى وأدنى من أدنى، الأمر الذي يدل على أن الإيمان فيه زيادة ونقص، لا سيما أنه مثل الإيمان بالحبة وبنصفها وبالذرة، وهي تتفاوت فيها الزيادة والنقص، وعلى هذا فإن هذا يعتبر أيضاً دليلاً صريحاً على زيادة الإيمان ونقصانه.

آثار السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

قال رحمه الله تعالى: [ وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً ].

هنا بدأ يستدل بأقوال السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، فذكر الدليل الأول قول أبي الدرداء.

قال رحمه الله تعالى: [ منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص. وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً. فيذكرون الله عز وجل، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة. ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم. ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه، وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق ].

فيما سيأتي سيشير إلى استدلالات المرجئة والرد عليها، وهنا أشار إلى الرد مباشرة، فبدأ بالأول، وهو أنهم زعموا أن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، أي: أن العمل غير الإيمان، وسيرد على ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً، منها: قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] ].

هنا صرح تعالى بزيادة الإيمان، فزيادة الإيمان بسبب الجمع بين العمل والمعرفة، أو العمل والتطبيق، أو تلاوة آيات الله، زادتهم إيماناً، ولا شك أنه يلزم منها أنها زادتهم يقيناً وزادتهم عملاً؛ لأن من زاد يقينه زاد عمله.

قال رحمه الله تعالى: [ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ].

هذه خمسة أدلة من كتاب الله عز وجل كلها صريحة صراحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض في أن الإيمان يزيد، وعلى أنه يزيد بمجموعة من الأمور القلبية والعملية، وليس في الأمور القلبية التصديقية فقط.

قال رحمه الله تعالى: [ وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟! فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! ].

هنا أشار إلى اعتراض قال به المرجئة، وهو أنهم قالوا في الزيادة المذكورة في هذه الآيات وفي غيرها: إن هذه الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به، أي: بزيادة الشرائع، فقالوا: إن زيادة الإيمان للمؤمنين بزيادة ما يرد إليهم من الله عز وجل من أوامر ونواه وأخبار، فكلما زادت الأخبار عندهم -بزعمهم- وصدقوا بها زاد إيمانهم بذلك، وكلما زادت الأعمال وصدقوا بها زاد إيمانهم، فكأنهم أعادوا الزيادة إلى مجرد التصديق بالقلب، ثم أجابوا على هذا: بأن قولهم هذا لا يصح وإن كان ضمن الزيادة الواردة في النصوص الشرعية، فلا شك أن زيادة المؤمن به واقعة، بمعنى أن الشرائع تزيد في وقت تنزل الوحي، وفي وقت نزول هذه الآيات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه أشياء من الأعمال والاعتقادات تزيد في مسمى الإسلام، وفي شرائعه، هذا معنى صحيح، لكن ليس هذا فقط هو معنى الزيادة.

إذاً: فالذين قالوا بأن الزيادة زيادة المؤمن به يقصدون به زيادة الأعمال المشروعة، فرد عليهم بقوله: فهل في قول الناس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173] زيادة مشروع؟! يعني: هل جاء فيه تشريع جديد؟! نعم إن الله عز وجل أمرهم بأن يثبتوا في الإيمان، لكن لا يعني ذلك أنه جاءهم أمر جديد في الدين، إنما أمرهم الله عز وجل بأن يثبتوا على ما هم عليه، فكذلك بقية الآيات، فليس فيها زيادة عمل مشروع، إنما فيها إشارة إلى أن المؤمنين الذين حصل لهم ذلك زاد إيمانهم، وزاد يقينهم، وزاد عملهم، وزاد أخذهم بالأسباب، وكل مستلزمات الزيادة معروفة، وأقل ذلك أنهم لما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم؛ قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا دليل على أنهم جمعوا بين يقين القلب وبين العمل، وهو نطق اللسان في الاحتساب وفي مسألة اللجوء إلى الله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: [ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]].

الآيات التي تتنزل ويزداد بها المؤمنون إيماناً تتضمن العقائد والأمور القلبية، وتتضمن الأعمال، هذا شيء.

الشيء الآخر: أن الله عز وجل نسب الزيادة إلى الإيمان نسبة صريحة لا لبس فيها كما ذكرت، إذاً: فمحاولة تأول هذا الأمر فيه نوع تناقض وتكلف.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا الفقيه، قال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيي بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: (لا، الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر) ].

هذا الحديث لا يصح كما قال أهل العلم.

قال رحمه الله تعالى: [ فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعمرو بن علي الفلاس ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، والعقيلي ، وابن عدي ، والدارقطني وغيرهم، وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة -وقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان - فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً! ].

إذاً: الحديث لا دليل فيه، ولا يصح الاستدلال به، ولا تكون به حجة للمرجئة، ومتنه تظهر عليه علامة الوضع، فالمتن مركب تماماً على عقيدة المرجئة التي ما ظهرت إلا في آخر القرن الأول، فهو مركب تركيباً يناسب عقيدة المرجئة في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وقول طائفة منهم ومن المتكلمين بأن نقص الإيمان يعني الكفر، يعني: إذا نقص اختل كله، وهذا لا يستقيم مع النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولا مع ما أجمع عليه السلف، ولا مع قواعد الشرع المعروفة في مسائل التكفير.

إذاً: فعلامات الوضع على متن الحديث واضحة جداً، وقد كفينا في موضوعه والحديث عنه من قبل أهل العلم؛ لأن السند لا يصح أبداً.