شرح المنظومة البيقونية [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا ورسولنا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

قال الإمام البيقوني عليه رحمة الله:

[ ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط ]

تكلم هنا على معنى الإرسال، وشيء من أحواله، وقلنا: إننا نتكلم على شيء من حكم العلماء عليه، والعلماء عليهم رحمة الله تعالى جعلوا المرسل من قسم الضعيف؛ وذلك للعلة الظاهرة في إسناده، وهي سقوط الراوي بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام: إما أن يكون تابعياً، وإما أن يكون تابعياً وصحابياً، والعلة في كونه من قسم الضعيف ليس هو سقوط الصحابي؛ لأنه لو سقط الصحابي ما ضرت الجهالة بالصحابي، وإنما العلة في ذلك أنه قد يكون بين التابعي والصحابي تابعي آخر، فالعلماء عليهم رحمة الله يجعلون المرسل من قسم الحديث الضعيف، وجهالة الصحابي لا تضر، والعلماء يتفقون على أن الصحابة عدول، وأما ورود بعض الجهالات في ذكر الصحابي في بعض الأسانيد، كأن يقال: كان رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن رجل صحب رسول الله، أو أن رجلاً قال لرسول الله، ونحو ذلك من الروايات، فعامة العلماء على أن هذا لا يضر، وهناك بعض المتكلمين وبعض أهل الظاهر يقولون برد الحديث بجهالة الصحابي، وهذا القول قال به أبو إسحاق الإسفراييني و ابن حزم الأندلسي فإنهم يقولون برد الحديث بجهالة الصحابي، وردهم في ذلك ليس طعناً في الصحابة عليهم رضوان الله، وإنما لاحتمال يظنونه وهو: أنه قد يقول التابعي إن هذا صحابي ولو سماه لنا لكان غير صحابي.

وهذا من الوجوه التي يرد بها بعض الفقهاء الحديث المرسل، وكذلك أيضاً يردون بها جهالة الصحابي، وذلك مثلاً كحديث حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: حدثني رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين، هذا نص بالصحبة، وأما إذا روى التابعي عن رجل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره باسمه، فهذا اختلف العلماء عليهم رحمة الله في هذا على ما تقدم، عامة العلماء على قبوله، باعتبار أن الراوي التابعي هو أعلم بطبقة الصحابة منا، وأن مثل هذه الأحاديث وهذا الجزم من التابعي لا يرد بالظن.

ومن العلل التي يردون بها الحديث لجهالة الصحابي قولهم: قد يكون من المنافقين ويظن أنه من الصحابة، ولو سمي لنا لعرفنا ذلك وأدركناه، وهذا أيضاً ظن، ونقول: إن الأصل في الصحابة العدالة، والتابعون هم أعلم الناس بالصحابة عليهم رضوان الله، كما أن الصحابة هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد بينه وبينهم قرون متعددة أن يأتي ثم يقول: إني أدرك ما لا يدركون من معرفة الطبقة التي أدركوها.

والمرسل على ما تقدم الأصل فيه أنه في حكم الضعيف، وهذا ظاهر صنيع الأئمة عليهم رحمة الله، وأما ما يذكره بعض الفقهاء وبعض المحدثين عن الإمام الشافعي رحمه الله من الاحتجاج بالحديث المرسل، الذي يرويه تابعي كبير، أو تابعي من الثقات المأمونين الذين لا يروون إلا عن ثقة، وذلك كـسعيد بن المسيب .

وهنا نقول: إن ما جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله فهو احتجاج وليس تصحيحاً، وذلك لأن الأئمة عليهم رحمة الله ربما يطلقون الاحتجاج ولا يريدون به التصحيح، وربما أرادوا به التصحيح والحكم في ذلك العمل، يعني: ما يجرون عليه من جهة الاحتجاج، ونعرف مذهب الشافعي بطريقته من جهة الاحتجاج بالمراسيل، نجد أنه يخرج جملة من المراسيل في كتابه الأم عن سعيد بن المسيب خاصة، ولا يحتج بها ويردها، ومن ذلك ما رواه أبو داود في كتابه المراسيل عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ضرب أباه فاقتلوه )، لا يحتج به الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك لإرساله، فهم يحتجون به إذا لم يوجد ما يخالفه، أو وجدوا ما يعضده، وخاصة إذا وافق أصلاً من الأصول، إما القياس أو البراءة الأصلية، أو عمل الصحابة، أو عضد بمرسلٍ من المراسيل.

معنى قول العلماء: أصح المراسيل

وأما قول العلماء: مراسيل فلان أصح المراسيل، فهذا يوجد كثيراً، ونقول: إن مرادهم بذلك ليس الصحة الاصطلاحية، وإنما يريدون بذلك صحة نسبية، وذلك بالنسبة للمراسيل، هي صحيحة بالنسبة لما هو ضعيف من المراسيل، فيطلقون على مراسيل بعضهم كمراسيل سعيد بن المسيب، بأنها صحيحة، أو قول بعضهم عن الحسن، كما جاء عن أبي زرعة يقول: نظرت في مراسيل الحسن البصري فوجدت لها أصلاً إلا أربعة أحاديث، إذاً: هذا دليل على أنهم يبحثون في الطرق، ولا ينظرون للمرسل مجرداً، فمرادهم بمراسيل فلان صحيحة، أو مراسيل فلان أصح المراسيل يعني: بالنسبة لهذه المراسيل، وليس المراد بذلك هي الصحة الاصطلاحية.

إذاً: فهي داخلة عندهم من جهة الأصل في الحديث الضعيف.

المرسل بين الاحتجاج وعدمه

كيف نعرف المرسل الذي يحتج به، والمرسل الذي لا يحتج به؟

يعرف هذا بجملة من القرائن:

القرينة الأولى: أن يكون الذي أرسل من التابعين الكبار، وذكرنا أنه كلما تقدم طبقة فهو أقوى وأمتن وأدق وأحوط ممن روى بعد ذلك، فمن أدرك النبي عليه الصلاة والسلام زمناً ولم يره، هو أقوى من جهة الرواية ممن جاء بعده، ومن أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة فإنه أيضاً أقوى إرسالاً ممن أدرك الثلاثة، ومن أدرك الثلاثة أقوى وأحوط ممن أدرك الاثنين، وهكذا ينزل في ذلك بحسب الطبقة.

القرينة الثانية مما يعرف به صحة الإرسال: هو تعدد المخارج، فالمرسل قد يروى من وجه، ويروى من وجه آخر، أو يروى من ثلاثة أوجه أو أربعة، ولو اختلف في ذلك اللفظ، فتعدد المخارج قرينة على تعدد الطرق، ولكن في النظر في تحديد المخارج ينبغي لطالب العلم أن يتأمل، بأن يكون المرسلون للحديث أرسلوا الحديث من مخارج لا تلتقي بضعيف، وذلك أن يكون مثلاً مخرج الحديث ليس في بلد واحد، كأن يكون حديث مرسل بصري ويماني وحجازي وشامي ونحو ذلك، فيكون ثمة طرق متعددة في الغالب أنها لا تلتقي من جهة الشيوخ، بخلاف الذي يروى مثلاً من مدرسة واحدة، أو في بلد واحد وشيخهم واحد، فتجد مراسيل الكوفيين تتعدد، يرسل مثلاً علقمة، ويرسل إبراهيم، ويرسل أيضاً ممن حولهم مثلاً من أهل البصرة كـالحسن و قتادة، هذه في الغالب تجد أن شيوخهم في ذلك يتقاربون، وكلما يتسع تتباعد مخارج الرواية؛ فإن هذا قرينة على تعدد الطرق، وأنها لم تلتقِ براوٍ ضعيف.

وثمة أيضاً أمر آخر من جهة معرفة تعدد المخارج: أن يسبر طالب العلم شيوخ التابعين الذين أرسلوا، يسبر المخارج، ينظر في الحسن البصري، هل يلتقي مثلاً مع ابن سيرين، ويلتقي مع الشعبي، أو يلتقي مثلاً في بعض الذين يرسلون بالمدينة في الزهري، أو مثلاً سليمان بن يسار وغيرهم، هل يلتقون بشيوخ ضعفاء أو لا يلتقون؟ وكلما كان طالب العلم في ذلك أكثر سبراً للشيوخ والطبقات، فإنه حينئذٍ يكون أعرف بصحة المرسل من عدمه، ولهذا الأئمة يتابعون ويتتبعون مخارج المراسيل، ولهذا يقول بعضهم في مراسيل الحسن البصري : تتبعت مراسيل الحسن البصري فوجدتها صحيحة إلا أربعة، يعني: لها أصول صحيحة إلا أربعة، وهذا إشارة إلى أنه يتتبع ويجد ما يعضده من المخارج.

الأمر الثالث مما يعرف به قوة المرسل من عدمه: أن يكون المرسل أقرب إلى مواضع الوحي من الحجاز كمكة والمدينة، فمراسيل المدنيين أقوى من مراسيل غيرهم من العراقيين والشاميين واليمانيين والمصريين؛ لأن المدنيين لا يأخذون إلا من شيوخ المدينة غالباً؛ لأن المدرسة عندهم، فالأحاديث التي تدور في البلدان خرجت من عندهم، فهم يأخذون منها، حتى أورث بعض الرواة نوعاً من الأنفة أن المدني لا يأخذ من البعيد؛ لدخول العجمة عند الأبعدين، عجمة اللسان، كذلك ضعف الرواية والتدليس والابتداع، الذي انتشر في الناس، فأصبحت المدينة هي أكثر المدن أو بقاع معاقل العلم نقاوة وصفاء من جهة الصدق والكذب، ومن جهة البدعة، فإنهم أصدق الناس وأكثرهم اتباعاً للسنة وأبعدهم عن العجمة، ولهذا نقول: إن البلدان التي تأخرت فيها العجمة أفضل من غيرها وأدق، كذلك أيضاً فإن شيوخهم في ذلك لو سقطوا فإنهم أولى من غيرهم.

الرابع مما يعرف به صحة الحديث المرسل: أن يعضده حديث مرفوع ضعيف، هو مرسل في ذاته، لكن ثمة حديث موصول ضعيف يعضد ذلك المرسل، أو موقوف مروي عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله، فإذا وجد حديث مرسل، وعضده مرفوع ضعيف، أو عضده موقوف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا قرينة على قوته والأخذ به، وأعلى ذلك ما جاء عن صحابي ولا يعرف له مخالف، أو كان في المسألة إجماع، وجاء في هذا مرسل، ولهذا نجد في كلام بعض العلماء إذا حكموا على مسألة من المسائل بحكم يأتون بحديث مرسل، وليس الاعتماد منهم على هذا الحديث المرسل، وإنما يعتمدون على الإجماع، ولكن عند العلماء أن النص المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أقوى وأولى بالذكر من الإجماع؛ وذلك لأن النص يظهر منه الوحي، فضلاً عما دون الإجماع من قرائن الاحتجاج.

الخامس: أن يعضده أصل من الأصول من غير النصوص، وذلك كالقياس، أو يجري عليه العمل، فهذا أيضاً مما يعضد القول بالحديث المرسل ويرجحه، وهذا أيضاً نسبي، فإذا وجدت مراسيل فلان من الناس كبعض الرواة مثلاً كـالحسن أو ابن شهاب أو غيرهم، تجد أن هذه الروايات التي يرسلونها عن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سبرتها ووجدت أن لهم عشرين أو ثلاثين مرسلاً، فقمت بالنظر فيها، وجدت أن أكثرها توافق الأصول، هذا تستطيع به أن تحكم حكماً على هذه الأحاديث إما بالقبول وإما بالرد.

السادس في هذا: أن يكون على هذا فتيا التابعين، فيجري عليه العمل إذا لم يوجد نص عن الصحابة، ولم يوجد حديث ضعيف، وكان عمل التابعين على ذلك، فهذا يعضد القول بالحديث المرسل؛ ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يقدمون الحديث المرسل على قول التابعي، مع أنهم عضدوا الحديث المرسل عند تقوية الحديث بقول التابعي وذلك لأن هذا يعضد هذا، ولكن المرسل أولى بالذكر؛ لأنه أقرب إلى القوة، وأقرب إلى قول المشرع.

والأصل -على ما تقدم- في المراسيل الرد ما لم تجتمع في ذلك القرائن، ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله حتى من التابعين يردون المراسيل كـسعيد بن المسيب رحمه الله، وكذلك ابن شهاب الزهري، فإنهما كانا يقولان: يحدثوننا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة، يعني: يروون بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذين يروون هؤلاء يسقطون وهم من طبقة التابعين، فيردون بذلك روايتهم، وهذا هو الأصل.

مظان وجود المرسل

المراسيل لها مظانها في كتب المراسيل ككتاب المراسيل لـأبي داود، وأيضاً من مظانها: المصنفات كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي وغيرها، فإنها تورد من المراسيل شيئاً كثيراً.

تتمة

تقييد المصنف رحمه الله بأن المرسل هو ما سقط منه الصحابي، هذا في الصورة الظاهرة، وأما من جهة الحقيقة فقد يسقط صحابي، وقد يسقط منه معه تابعي، وقد يسقط أكثر من تابعي مع صحابي، وقد يسقط أكثر من صحابي مع تابعي، أو أكثر من تابعي، أو يسقط أكثر من صحابي، وذلك كأن يروي تابعي عن صحابيين فيسقطهما جميعاً، وقد يروي تابعي عن تابعي عن صحابيين، وهكذا، ولكن ذكر الصحابي هنا باعتبار أن الصورة الظاهرة هي سقوط وخلو حلقة الصحابي من الإسناد.

وأما قول العلماء: مراسيل فلان أصح المراسيل، فهذا يوجد كثيراً، ونقول: إن مرادهم بذلك ليس الصحة الاصطلاحية، وإنما يريدون بذلك صحة نسبية، وذلك بالنسبة للمراسيل، هي صحيحة بالنسبة لما هو ضعيف من المراسيل، فيطلقون على مراسيل بعضهم كمراسيل سعيد بن المسيب، بأنها صحيحة، أو قول بعضهم عن الحسن، كما جاء عن أبي زرعة يقول: نظرت في مراسيل الحسن البصري فوجدت لها أصلاً إلا أربعة أحاديث، إذاً: هذا دليل على أنهم يبحثون في الطرق، ولا ينظرون للمرسل مجرداً، فمرادهم بمراسيل فلان صحيحة، أو مراسيل فلان أصح المراسيل يعني: بالنسبة لهذه المراسيل، وليس المراد بذلك هي الصحة الاصطلاحية.

إذاً: فهي داخلة عندهم من جهة الأصل في الحديث الضعيف.

كيف نعرف المرسل الذي يحتج به، والمرسل الذي لا يحتج به؟

يعرف هذا بجملة من القرائن:

القرينة الأولى: أن يكون الذي أرسل من التابعين الكبار، وذكرنا أنه كلما تقدم طبقة فهو أقوى وأمتن وأدق وأحوط ممن روى بعد ذلك، فمن أدرك النبي عليه الصلاة والسلام زمناً ولم يره، هو أقوى من جهة الرواية ممن جاء بعده، ومن أدرك الخلفاء الراشدين الأربعة فإنه أيضاً أقوى إرسالاً ممن أدرك الثلاثة، ومن أدرك الثلاثة أقوى وأحوط ممن أدرك الاثنين، وهكذا ينزل في ذلك بحسب الطبقة.

القرينة الثانية مما يعرف به صحة الإرسال: هو تعدد المخارج، فالمرسل قد يروى من وجه، ويروى من وجه آخر، أو يروى من ثلاثة أوجه أو أربعة، ولو اختلف في ذلك اللفظ، فتعدد المخارج قرينة على تعدد الطرق، ولكن في النظر في تحديد المخارج ينبغي لطالب العلم أن يتأمل، بأن يكون المرسلون للحديث أرسلوا الحديث من مخارج لا تلتقي بضعيف، وذلك أن يكون مثلاً مخرج الحديث ليس في بلد واحد، كأن يكون حديث مرسل بصري ويماني وحجازي وشامي ونحو ذلك، فيكون ثمة طرق متعددة في الغالب أنها لا تلتقي من جهة الشيوخ، بخلاف الذي يروى مثلاً من مدرسة واحدة، أو في بلد واحد وشيخهم واحد، فتجد مراسيل الكوفيين تتعدد، يرسل مثلاً علقمة، ويرسل إبراهيم، ويرسل أيضاً ممن حولهم مثلاً من أهل البصرة كـالحسن و قتادة، هذه في الغالب تجد أن شيوخهم في ذلك يتقاربون، وكلما يتسع تتباعد مخارج الرواية؛ فإن هذا قرينة على تعدد الطرق، وأنها لم تلتقِ براوٍ ضعيف.

وثمة أيضاً أمر آخر من جهة معرفة تعدد المخارج: أن يسبر طالب العلم شيوخ التابعين الذين أرسلوا، يسبر المخارج، ينظر في الحسن البصري، هل يلتقي مثلاً مع ابن سيرين، ويلتقي مع الشعبي، أو يلتقي مثلاً في بعض الذين يرسلون بالمدينة في الزهري، أو مثلاً سليمان بن يسار وغيرهم، هل يلتقون بشيوخ ضعفاء أو لا يلتقون؟ وكلما كان طالب العلم في ذلك أكثر سبراً للشيوخ والطبقات، فإنه حينئذٍ يكون أعرف بصحة المرسل من عدمه، ولهذا الأئمة يتابعون ويتتبعون مخارج المراسيل، ولهذا يقول بعضهم في مراسيل الحسن البصري : تتبعت مراسيل الحسن البصري فوجدتها صحيحة إلا أربعة، يعني: لها أصول صحيحة إلا أربعة، وهذا إشارة إلى أنه يتتبع ويجد ما يعضده من المخارج.

الأمر الثالث مما يعرف به قوة المرسل من عدمه: أن يكون المرسل أقرب إلى مواضع الوحي من الحجاز كمكة والمدينة، فمراسيل المدنيين أقوى من مراسيل غيرهم من العراقيين والشاميين واليمانيين والمصريين؛ لأن المدنيين لا يأخذون إلا من شيوخ المدينة غالباً؛ لأن المدرسة عندهم، فالأحاديث التي تدور في البلدان خرجت من عندهم، فهم يأخذون منها، حتى أورث بعض الرواة نوعاً من الأنفة أن المدني لا يأخذ من البعيد؛ لدخول العجمة عند الأبعدين، عجمة اللسان، كذلك ضعف الرواية والتدليس والابتداع، الذي انتشر في الناس، فأصبحت المدينة هي أكثر المدن أو بقاع معاقل العلم نقاوة وصفاء من جهة الصدق والكذب، ومن جهة البدعة، فإنهم أصدق الناس وأكثرهم اتباعاً للسنة وأبعدهم عن العجمة، ولهذا نقول: إن البلدان التي تأخرت فيها العجمة أفضل من غيرها وأدق، كذلك أيضاً فإن شيوخهم في ذلك لو سقطوا فإنهم أولى من غيرهم.

الرابع مما يعرف به صحة الحديث المرسل: أن يعضده حديث مرفوع ضعيف، هو مرسل في ذاته، لكن ثمة حديث موصول ضعيف يعضد ذلك المرسل، أو موقوف مروي عن بعض الصحابة عليهم رضوان الله، فإذا وجد حديث مرسل، وعضده مرفوع ضعيف، أو عضده موقوف عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا قرينة على قوته والأخذ به، وأعلى ذلك ما جاء عن صحابي ولا يعرف له مخالف، أو كان في المسألة إجماع، وجاء في هذا مرسل، ولهذا نجد في كلام بعض العلماء إذا حكموا على مسألة من المسائل بحكم يأتون بحديث مرسل، وليس الاعتماد منهم على هذا الحديث المرسل، وإنما يعتمدون على الإجماع، ولكن عند العلماء أن النص المرفوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أقوى وأولى بالذكر من الإجماع؛ وذلك لأن النص يظهر منه الوحي، فضلاً عما دون الإجماع من قرائن الاحتجاج.

الخامس: أن يعضده أصل من الأصول من غير النصوص، وذلك كالقياس، أو يجري عليه العمل، فهذا أيضاً مما يعضد القول بالحديث المرسل ويرجحه، وهذا أيضاً نسبي، فإذا وجدت مراسيل فلان من الناس كبعض الرواة مثلاً كـالحسن أو ابن شهاب أو غيرهم، تجد أن هذه الروايات التي يرسلونها عن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سبرتها ووجدت أن لهم عشرين أو ثلاثين مرسلاً، فقمت بالنظر فيها، وجدت أن أكثرها توافق الأصول، هذا تستطيع به أن تحكم حكماً على هذه الأحاديث إما بالقبول وإما بالرد.

السادس في هذا: أن يكون على هذا فتيا التابعين، فيجري عليه العمل إذا لم يوجد نص عن الصحابة، ولم يوجد حديث ضعيف، وكان عمل التابعين على ذلك، فهذا يعضد القول بالحديث المرسل؛ ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يقدمون الحديث المرسل على قول التابعي، مع أنهم عضدوا الحديث المرسل عند تقوية الحديث بقول التابعي وذلك لأن هذا يعضد هذا، ولكن المرسل أولى بالذكر؛ لأنه أقرب إلى القوة، وأقرب إلى قول المشرع.

والأصل -على ما تقدم- في المراسيل الرد ما لم تجتمع في ذلك القرائن، ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله حتى من التابعين يردون المراسيل كـسعيد بن المسيب رحمه الله، وكذلك ابن شهاب الزهري، فإنهما كانا يقولان: يحدثوننا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة، يعني: يروون بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذين يروون هؤلاء يسقطون وهم من طبقة التابعين، فيردون بذلك روايتهم، وهذا هو الأصل.

المراسيل لها مظانها في كتب المراسيل ككتاب المراسيل لـأبي داود، وأيضاً من مظانها: المصنفات كمصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي وغيرها، فإنها تورد من المراسيل شيئاً كثيراً.

تقييد المصنف رحمه الله بأن المرسل هو ما سقط منه الصحابي، هذا في الصورة الظاهرة، وأما من جهة الحقيقة فقد يسقط صحابي، وقد يسقط منه معه تابعي، وقد يسقط أكثر من تابعي مع صحابي، وقد يسقط أكثر من صحابي مع تابعي، أو أكثر من تابعي، أو يسقط أكثر من صحابي، وذلك كأن يروي تابعي عن صحابيين فيسقطهما جميعاً، وقد يروي تابعي عن تابعي عن صحابيين، وهكذا، ولكن ذكر الصحابي هنا باعتبار أن الصورة الظاهرة هي سقوط وخلو حلقة الصحابي من الإسناد.

وقوله: (وقل غريب ما روى راوٍ فقط).

الغرابة في الإسناد هي التفرد، فبعض العلماء يجعل الغرابة والتفرد والنكارة بمعنى واحد، وبعضهم يجعل النكارة أشد، والغرابة هي المعنى العام الاصطلاحي في ذلك، وبعضهم يجعلها في حكم المترادف.

والحديث الغريب عند أهل الاصطلاح على نوعين: غريب مطلق، وذلك بأن يكون في جميع الطبقات، في طبقة الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين ومن روى عنهم، فهو في كل طبقة غريب.

وغريب نسبي، وذلك بالنسبة إما إلى صحابي، أو إلى تابعي، أو إلى تابع تابعي، وهكذا، وإن اختل في بعض الطبقات، ولكن لا بد أن يكون في طبقة واحدة أو في طبقتين، أو في ثلاث، ولكن لا بد أن يكون في طبقة أخرى يخالف ذلك العدد، فيكون فيه أكثر من اثنين أو ثلاثة، أو أكثر من هذا.

وأما بالنسبة للغرابة المطلقة كما في حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله عليه في حديثه: ( إنما الأعمال بالنيات )، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب، فهو غريب من هذا الوجه، وغرابته في ذلك في رواته محمد بن إبراهيم و يحيى بن سعيد و علقمة و عمر بن الخطاب، فلا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ إلا من طريقهم.

ولكنه جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ بأسانيد وطرق ضعيفة لا يعتد بها، جاء من حديث جابر وغيره.

وأما الغرابة النسبية، فهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة، منها في حديث أنس بن مالك عليه رضوان الله وغيره ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة وعلى رأسه المغفر ).

مظان وجود الغريب والفرد

ثمة كتب مصنفة في الأحاديث الغريبة، أحاديث الأفراد، صنف في هذا جماعة من العلماء، منها ما هي في أبواب الغرابة التامة ككتاب الأفراد والغرائب للدارقطني، ومنها ما هي كتب في غرائب راوٍ من الرواة، وذلك كغرائب شعبة، وغرائب مالك أيضاً للإمام الدارقطني رحمه الله وغيرها، وأكثر الأئمة عناية بالغرائب هو الإمام الدارقطني رحمه الله، فهو يعتني بها عناية كبيرة، ومصنفاته في ذلك شاهد عدل على هذا.

وأكثر العلماء إطلاقاً للفظ الغريب هو الترمذي رحمه الله في كتابه السنن، وهو من الأئمة المتقدمين، وربما يطلق هذه العبارة وحدها فيقول: حديث غريب، وربما يطلقها ويقرنها مع غيرها، فيقول: حديث حسن غريب، أو حديث صحيح غريب، أو حديث حسن صحيح غريب، أو حديث غريب حسن، وغير ذلك من الألفاظ، وله اصطلاح في ذلك يرجع إليه في مظانه كما تقدم الإشارة إليه.

الغرابة في المتن وفي الإسناد

والغرابة في الحديث قد تكون إسنادية، وقد تكون متنية، ولكن مراد المصنف رحمه الله هنا بالغرابة الإسنادية، ولهذا قال: (وقل غريب ما روى راوٍ فقط).

أما الغرابة المتنية فأن يؤتى بلفظ ولا يوافق عليه الرواة، إما من بلد آخر، أو من مدرسة أخرى، وذلك كأن يكون مثلاً هذا المتن لم يرد إلا من حديث أنس، أو لم يرد مثلاً من حديث فلان، ولو جاء متعدداً من طرق متعددة إلا أنه غريب بالنسبة لهذه المسألة، فتفردوا بروايتها من هذا الوجه، أو بهذه الواقعة.

ولهذا يذكر العلماء أحاديث غرائب يتفرد بها أهل الكوفة، أو أهل البصرة، أو أهل دمشق، أو أهل مصر، أو أهل الحجاز، فيقولون: هذا حديث كوفي، أو هذا أحديث بصري، أو هذا حديث دمشقي وغير ذلك، فيريدون بذلك الأحاديث المفاريد في هذا.

والأصل في هذا أنه نوع علة، ولهذا نجد أن بعض العلماء كـأبي داود رحمه الله في كتابه السنن يذكر بعد إخراجه للأحاديث يقول: هذا حديث خراساني، أو هذا حديث مصري، أو هذا حديث عراقي، يريد بذلك أن رجاله ومخارجه إنما تكون من العراق، فهو غريب من هذا النحو، فجاءوا بمعنى لم يكن موجوداً عند الأئمة، وهذا يوجد في البلدان.

وأصح الأحاديث الغريبة من جهة المعنى وكذلك من جهة الإسناد هي الغرابة الحجازية، وذلك في مفاريد أهل المدينة من جهة الإسناد، وكذلك أيضاً من جهة المعنى؛ والسبب في ذلك أنه معقل العلم، ومهبط الوحي، فالوحي نزل من هناك، فإذا لم يتفردوا بشيء هم فمن يتفرد؛ لأنهم هم محل العلم والرواية، وكلما بعد الناس عن معقل العلم فإن التفرد والغرابة أظهر في الرد؛ للبعد عن معقل الإسلام خاصة في المسائل العظيمة الجليلة القدر.

ولهذا لا يتفردون ويخرجون عن الحجاز في هذا، ويكون حديثهم في ذلك صحيحاً في مسائل الصلاة أو الصيام أو الطهارة أو الحج، أو غير ذلك من المسائل الظاهرة، لكن قد يتفردون ببعض الأعمال، أو ببعض الفضائل التي ليست من الأصول ولا من أعلام المسائل، كتفردهم بالأخبار بأشراط الساعة، أو بأخبار المغازي، أو بالفتن، أو بفضائل البلدان، كأن يتفرد مثلاً أهل اليمن بحديث في فضل اليمن، أو يتفرد أهل الشام بحديث في فضل الشام ونحو ذلك، فهذا يقبله العلماء؛ لأنه لا يتعلق بالأحكام ولو تفردوا به، أو جاءوا بأحاديث الفتن؛ لأن الفتن لا يلزم منها عمل وتشريع، ولهذا يشددون في التشريع ما لا يشددون في غيره.

ثمة كتب مصنفة في الأحاديث الغريبة، أحاديث الأفراد، صنف في هذا جماعة من العلماء، منها ما هي في أبواب الغرابة التامة ككتاب الأفراد والغرائب للدارقطني، ومنها ما هي كتب في غرائب راوٍ من الرواة، وذلك كغرائب شعبة، وغرائب مالك أيضاً للإمام الدارقطني رحمه الله وغيرها، وأكثر الأئمة عناية بالغرائب هو الإمام الدارقطني رحمه الله، فهو يعتني بها عناية كبيرة، ومصنفاته في ذلك شاهد عدل على هذا.

وأكثر العلماء إطلاقاً للفظ الغريب هو الترمذي رحمه الله في كتابه السنن، وهو من الأئمة المتقدمين، وربما يطلق هذه العبارة وحدها فيقول: حديث غريب، وربما يطلقها ويقرنها مع غيرها، فيقول: حديث حسن غريب، أو حديث صحيح غريب، أو حديث حسن صحيح غريب، أو حديث غريب حسن، وغير ذلك من الألفاظ، وله اصطلاح في ذلك يرجع إليه في مظانه كما تقدم الإشارة إليه.