خطب ومحاضرات
شرح المنظومة البيقونية [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
تقدم الكلام معنا على أقسام الحديث، والاعتبارات التي لأجلها يقسم العلماء أنواع الحديث، وذكرنا شيئاً من هذه الاعتبارات.
يقول المصنف رحمه الله:
(وذي من أقسام الحديث عدة وكل واحد أتى وحده)
أراد المصنف بذلك أن يسوق جملة من الأحاديث على اعتبار سلكه بعض العلماء فيها، وهو ما يذكرونه باعتبار صحة الحديث وضعفه، أو باعتبار ناقله، أو باعتبار قائله.
والمصنف رحمه الله يذكر أيضاً أنواعاً أخرى في مصنفات الحديث، وطرائقه من اللطائف الإسنادية: كالمعنعن، والمسلسل، والمدبج، وغيرها مما يتعلق برواية الحديث، ويأتي الكلام على هذه الأنواع.
والمصنف بطبيعة الحال لم يستوعب الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً، وإنما ذكر شيئاً من الأصول العامة، أو غالب تلك الأنواع التي يشتهر دوران الحديث عليها، ولهذا اكتفى بذكر عدة منها، قال: (وذي من أقسام الحديث عدة).
وقوله: (الحديث) ، يريد بذلك المرفوع والموقوف، ولا يريد بذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وتقدم معنا الإشارة إلى هذا.
قال: (وكل واحد أتى وحده).
والمراد بحده: بضبطه وتعريفه، والحد هو التعريف، وتعريفات المصنف لمقتضى النظم واختصاره مقتضبة، وربما لا تكون جامعة ومانعة، وأدق التعريفات هي ما كان جامعا ًمانعاً: جامعاً لمعانيه، مانعاً لدخول غيره فيه؛ حتى لا يلتبس المعنى.
قال الإمام البيقوني عليه رحمة الله:
[ أولها الصحيح وهو ما اتصل إسناده ولم يشذ أو يعل ]
الصحيح من الصحة، وهي ضد المرض، ويقابل الصحيح المريض، والصحيح السليم من العلل، والمريض ما به علة أو علل، ويقابلهما الميت؛ لأنهما أحياء فيقابلهما الميت؛، وإنما ذكر المصنف رحمه الله الصحيح وقدمه على غيره؛ لأن المقصود من العناية بهذا العلم هو البحث عن سلامة الحديث من العلل ودفعها، وذلك لحفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الدخيل فيها، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عدة من الصحابة: ( من كذب عليّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار )، والنبي عليه الصلاة والسلام دعا -كما في المسند- لمن حفظ سنته، ووعاها، وبلغها، بقوله: ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها ) ، فوعاها يعني: وعى ما بلغه من سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسمعه ووعاه في نفسه، ثم بلغه لغيره.
ولهذا نقول: إن الخطأ يرد على الإنسان في ثلاثة مواضع: في سماعه، ووعيه، وتبليغه، في سماعه يعني: في سماعه الحديث لا بد أن يكون يقظاً، وفي ضبطه له أن يكون مستديماً للمحافظة على ما ضبط من مسموعه، وفي تبليغه بأن يكون متحرياً؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام، كما عند مسلم في المقدمة وعند أبي داود : ( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ؛ وذلك لأنه حدث بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام بالظن، فيجب أن يتحرى المحدث في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب على الله، ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]، يعني: أعظم الظلم هو الافتراء على الله، الكذب بالتشريع، بالتحليل والتحريم؛ ولهذا ذهب غير واحد من العلماء إلى أن من كذب على رسول الله متعمداً فقد كفر، كما ذهب إليه إمام الحرمين، وخالفه في ذلك عامة العلماء، ومنهم ابنه، وهذا فيه دلالة على تعظيم الكذب على الله سبحانه وتعالى، فالكذب على رسول الله كذب على الله؛ ولهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد )، والكذب على رسول الله غاية إبليس؛ لأنه تشريع، والتشريع يؤخذ تديناً، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، يعني: أن يتكلم الإنسان بغير علم في دين الله، وهذا خطر عظيم، وقد حرمه الله عز وجل، وقرنه بالفواحش، والإثم، والبغي، والإشراك مع الله عز وجل بغير سلطان، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، فهذه محرمات يجب على الإنسان أن يجتنبها، فأشركت مع المحرمات المغلظة، والافتراء على الله سبحانه وتعالى.
وإنما قدم المصنف رحمه الله الصحيح؛ لأنه هو المقصود من هذا العلم، والوصول للصحة، ولهذا العلماء لا يلتفتون للضعيف إلا إذا خشوا من وصوله إلى آذان الناس، وأما إذا أمنوا منه فإنهم يَدَعونه، ولهذا المتروك من الضعيف أكثر من المحفوظ والمضبوط، والناس يكذبون ولا يلتفت إلى كذبهم، وإذا حدثوا وصدقوا أخذ ما حدثوا به وصدقوا؛ لأنه ديانة، ويعظم أيضاً الحديث الصحيح؛ لأنه دين، ويرد غيره من الضعيف والموضوع؛ لأنه ليس بدين.
يقول: (أولها الصحيح وهو ما اتصل) ، هنا ذكر تعريف الحديث الصحيح في الاصطلاح، وذكر أول وجوه هذا التعريف وألفاظه، وكذلك أيضاً شروطه وهو الاتصال، فقال: (وهو ما اتصل) ، الاتصال: هو ضد الانقطاع؛ وذلك أن الاتصال المراد به هو اتصال سلسلة الإسناد ورواته، بأن يحدث الراوي عمن سمع منه، أو يحدث عنه بواسطة تحمل على السماع ولو لم يسمع منه مباشرة، كالإجازة، أو المكاتبة، أو يروي عن صحيفة ونسخة صحيحة، ولو لم يسمع منه؛ لأن المكتوب هو كالمسموع إذا كان صحيحاً؛ ولما كان بمعرفة الشيء يعرف ضده، ولهذا يقال: وبضدها تتبين الأشياء، فإذا عرفنا شروط الصحيح عرفنا شروط الضعيف في وجودها فيه، وعلى هذا نقول: إن الانقطاع ضعف في الإسناد، والاتصال علامة وقرينة على الصحة، وليس دليلاً قطعياً، قد ينقطع الإسناد ويكون صحيحاً وهو نادر، وقد يتصل الإسناد ويكون ضعيفاً؛ لضعف بعض رواته، ولهذا نقول: ليس هو شرطاً دائماً يلزم منه الصحة بكل حال، أو يلزم من عدمه الضعف.
والإسناد في اللغة: هو المعتمد، أو ما يعتمد عليه، وفي الاصطلاح: هو سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن، سواء كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن غيره.
اشتراط السلامة من الشذوذ والعلة القادحة
قال: (ولم يشذ أو يعل) .
الشاذ: هو المخالف لغيره، فما خرج عن الجماعة فهو شاذ، ولهذا جاء في الخبر قال: ( ومن شذ شذ في النار ) ، يعني: ومن خالف وتفرد، ويسمى الشذوذ، ويسمى الغرابة، ويسمى التفرد.
والشذوذ إما أن يكون عن لفظ، وإما أن يكون عن معنى، فالشذوذ عن اللفظ: هو أن يأتي بلفظ لم يأتِ به غيره، ولو وافق المعنى فيعتبر شاذاً وأمارة على الضعف، وأما الشذوذ عن المعنى فهو أن يأتي بمعنى لم يأتِ به غيره، ولو تفرد بأصل الحديث فلم يأتِ به إلا هو، فمن العلماء من يقول: إن الشاذ في الحديث المراد به: الغريب أو الفرد، ويجعلون التفرد والشذوذ بمعنى واحد، ومنهم من يجعل الشاذ من خالف غيره، والتفرد من جاء بأصل لم يأتِ به إلا هو، وهذا من الاصطلاحات التي تتباين فيها استعمالات العلماء.
العلة هي العاهة، أو المرض الذي يصيب الإنسان، والعلة على نوعين: علة قادحة وعلة ليست بقادحة، وكلها تسمى علة، والعلة القادحة هي التي يرد بها الحديث، والعلة التي ليست بقادحة هي إما قرينة على عدم الضبط، أو قرينة على وجود العلة القادحة، فيتحرى الإنسان فيها، فربما يضعف الحديث بها، وربما لا يضعف.
اشتراط العدالة في صحة الرواية
قال عليه رحمة الله:
[ يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله ].
هنا يذكر ما يتم به التعريف، فبعد ذكر اتصال الإسناد، ونفى وجود الشذوذ وكذلك العلة، وذكر هنا ما يتعلق بأفراد الرواة، فقال: (يرويه عدل ضابط عن مثله) ، يعني: يروي الحديث الصحيح العدل الضابط.
والمراد بالعدالة في الإنسان: السلامة من مواضع الفسق وأعلى شروط العدالة هي الإسلام، وبهذا نعلم أن رواية الكافر لا تقبل، وهذا محل اتفاق عند العلماء.
وأما رواية المبتدع فينبغي أن نعلم أن العلماء عليهم رحمة الله يحذرون من الرواية عنه، وذلك تحذيراً من تكثير سواده، أو ربما من دسائس المبتدعة في رواياتهم، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الرواية عن المبتدع على عدة أقوال: فذهب قوم إلى عدم الرواية عن المبتدع، وحكي هذا القول قولاً لجمهور العلماء، وقالوا: إن المبتدع الذي وقع في بدعة لا يؤمن عليه من إدخال الحديث المكذوب بما يؤيد قوله.
القول الثاني: يقبل حديث المبتدع ما لم يكن داعية إلى بدعته، فإذا لم يكن داعية فتقبل روايته في ذلك إذا كان ثقة صادقاً، وهذا القول ذهب إليه جماعة من العلماء، والمعروف في صنيع الأئمة عليهم رحمة الله في ذلك أنهم يحذرون من الداعية إلى البدعة خشية من تكثير سواده، أو ربما يروي الحديث بالمعنى من غير قصد ولو كان صادقاً؛ لأن المذاهب لها أثر على الأقوال والآراء، وكذلك الحجج، ولهذا كثير من الناس ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة ويستنبط منها معنى شاذاً لا يستقيم مع فهم السلف، ولهذا يحذرون من ذلك، ولكن ينبغي أن نقول: إن المبتدع الداعية وغير الداعية أثر الحديث عليه واحد في ذاته، أما الداعية وإن وجد فيه شراهة في الدعوة إلى قوله، ونقل الحديث ونحو ذلك، فالتأثير من جهة البدعة، فقد يوجد مبتدع متحمس لبدعته أعظم من مبتدع يدعو إلى بدعته، وذلك لشدة تعصبه، لكنه لم يؤتَ طريقة في الدعوة إلى بدعته.
القول الثالث: جواز الرواية عن المبتدع بكل حالٍ إذا كان ثقة في ذاته، سواءً كان داعية أو ليس بداعية، وهذا هو الأرجح؛ لأن الراوي المبتدع إذا كان صادقاً، ويرى تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المقصود والمحتاج إليه؛ لأن من المبتدعة من يرى أن الكذب على رسول الله أخطر وأشد مما يعتقده أهل السنة، كالخوارج، فإنهم قطعاً يكفرون الذي يكذب على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يكفرون بالكبيرة.
وهذا القول الثالث مذهب جماعة من العلماء، كـعلي بن المديني عليه رحمة الله، وهو ظاهر صنيع البخاري ، وكذلك الإمام مسلم عليهما رحمة الله، ولهذا يقول البخاري : إذا تركت حديث أهل البصرة للقدر، وحديث أهل الكوفة للتشيع خربت الكتب، يعني: أنهم يروون حديثاً كثيراً، وابتلوا بشيء من البدعة في هذا الباب.
وهذا الأظهر من مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله، فقد روى في كتابه المسند عن بعض من وصف بالبدعة بالإرجاء أو بالتشيع، فروى عن جماعة منهم، وهذا هو الأظهر، وعليه يحمل ما يصنعه الأئمة عليهم رحمة الله من الرواية عن المبتدعة، ولهذا جاء في الصحيح الرواية عن عدي بن ثابت حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، قال: ( عهد النبي عليه الصلاة والسلام إليّ أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق )، وهذا حديث عدي بن ثابت ، ولهذا نقول: إن ما يأتي في الروايات ولو كان يوافق بدعته، فإنه إذا كان صدوقاً في ذاته، فإن حديثه في ذلك صحيح إذا كان يرى تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: إن البدعة على نوعين: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، البدعة المكفرة تلحق برواية الكافر، وغير مكفرة تدخل في هذه الدائرة، والبدعة المكفرة يدخل فيها من يقول بقول غلاة الجهمية، وأضرابهم.
ومن شروط العدالة وهو الشرط الثاني: السلامة من الفسق، ذكرنا الكفر وذكرنا البدعة، وهنا أيضاً الفسق ألا يكون فاسقاً، والفسق في اللغة: هو الخروج، فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الرطبة إذا خرجت من التمرة، وفسق الإنسان إذا خرج من الطاعة، (( ففسق عن أمر ربه )) خرج عنه، ويسمى الإنسان فاسقاً إذا أكثر من الخروج عن الطاعة، ويفسق بالخروج ولو مرة، وبعض العلماء يجعل الفاسق هو من فعل كبيرة أو أصر على صغيرة واستدامها، قالوا: لأنه لا يؤمن لضعف إيمانه من الكذب، أو الزيادة والنقصان في الرواية في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لازم لعدالة الراوي.
الشرط الثالث: الصدق، وهو أن يكون الراوي صدوقاً، أي: لا يعرف عنه الكذب، إما على الناس أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كذب وعرف بالكذب على الناس فلا تقبل روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يظن فيه أن يجسر على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فهل تقبل توبته أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك، وليس المراد بقبول توبته في كلام العلماء في هذا الباب قبول توبته عند الله من جهة غفران الذنب، ولكن المراد بذلك قبول توبته عندنا، هل نقبل روايته فيما بعد ذلك أم لا؟ لا نعلم باطنه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
منهم من قال: تقبل توبته، قالوا: وذلك لعموم الأحاديث في قبول التوبة، فقد جاء أن الله عز وجل يتوب على المشرك مهما كان، وفي المشركين من يكذب على الله، ويفتري على الله سبحانه وتعالى، فتقبل توبته.
ومن العلماء من يقول: إنه لا تقبل توبته، وهذا هو الأظهر، لا تقبل توبته عندنا يعني: من جهة قبول حديثه، وذلك لأن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبه في توبته عظيم ككذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، فلا يؤمن أن يكذب في التوبة كما كذب بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يؤتمن، وربما يتسلسل ويدور في دائرة الكذب في ذلك، وأما عند الله فأمره إلى الله، وأما من يقول: توبة المشرك، نقول: توبة المشرك هو تجرد من كل شيء، والكذب على الله وعلى رسول الله جاء تبعاً، فهو تاب من كل شيء، بخلاف من كذب على رسول الله فهو إنما كذب في هذا الشيء، وكان زاعماً للإسلام فلا يؤمن من الرجوع إلى الشيء الواحد، أما من دخل الإسلام جملة فقد دخل الإسلام بشعبه وأعماله وأقواله، فأراد أن يلتزم بها، فرجوعه في ذلك الكفر بين.
الشرط الرابع: البلوغ، وذلك أن الصغير ليس بعدل؛ لعدم كمال الأهلية فيه، و للبلوغ علامات يذكرها الفقهاء، وليس هذا محل بسطها، فمن بلغ فهو عدل إذا توفرت باقي الشروط فيه، وما كان دون ذلك فليس من أهل التكليف، وليس من أهل العدالة في ذلك، ورواية الصغير ليست رواية عدل، ولكن إذا سمع الصغير في صغره وحدث في زمن كبره صح منه ذلك، ولهذا نقول: إن شرط البلوغ في العدالة، أن يكون ذلك في زمن الأداء لا في زمن التحمل، واختلف العلماء عليهم رحمة الله في سماع الصغير وتحمله، هل يصح أم لا؟ على قولين، وظاهر صنيع البخاري رحمه الله أنه يرى جواز وصحة سماع الصغير، وذلك أنه ترجم في كتاب العلم قال: باب متى يصح سماع الصغير، ثم أسند فيه حديث عبد الله بن عباس و محمود بن الربيع قال: ( عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، -يعني: محمود بن الربيع - وأنا ابن سبع سنين )، وحديث عبد الله بن عباس قال: ( مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في منى إلى غير جدار وأنا على حمار أتان، وقد ناهزت الاحتلام، فمررت بين يدي الصف، وصففت مع الناس وتركت الأتان ترتع بين يدي الصف )، ففي هذا الحديث إشارة إلى أنه سمع وتحمل في زمن صغره، وحدث به في زمن بلوغه، فنقول: إن شرط البلوغ هو شرط للأداء لا شرط للتحمل، فإذا حدث الراوي بحديث سمعه في صغره فحديثه صحيح، شريطة أن يحدث بعد بلوغه وحينئذٍ نقول بأن روايته صحيحة.
والشرط الخامس: السلامة من خوارم المروءة، والمروءة هي ملكة تدعو الإنسان إلى ملازمة التقوى، وأصل المروءة الحياء، فإذا نزع الحياء من الإنسان، جسر على المحرم؛ لأنه باب لفعل المحرمات، فأول ما يسقط من الإنسان إذا وقع في الكبائر مروءته، فتسقط المروءة ثم تتبعها الكبيرة، فلا تسقط ولا يأتي الكبيرة إلا ولدى الإنسان شيء من ضعف مروءته، ولهذا يجعل العلماء هذا الباب باباً من أمور العدل.
الشرط السادس: العقل، أي: لا بد أن يكون عاقلاً، وذلك لأن المجنون مرفوع عنه القلم، كما جاء في حديث عائشة : ( رفع القلم عن ثلاثة )، وجاء أيضاً في حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله عند الترمذي : ( رفع القلم عن ثلاثة )، فليس من أهل التكليف، وهو شرط للأداء وشرط للتحمل، فإذا روى حديثاً سمعه في زمن سفه أو جنون، فحدث به في زمن عقل، لا يقبل منه ذلك، وإذا كان كذلك أيضاً حدث به في زمن صغر مع وجود شيء من العقل في ذلك، ثم حدث به بعد عقله، أو كان عاقلاً ثم حدث، فسمع شيئاً ثم حدث به بعد جنونه لا يقبل به بالحالين، بل هو شرط قائم في كل حال؛ لأن المجنون ليس من أهل التكليف.
اشتراط الضبط في الصحيح
يقول: (يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله)
ذكر المصنف الضبط بعد عدالة الراوي، وجعله مستقلاً عنه فقال: (يرويه عدل ضابط عن مثله).
الضبط على نوعين: ضبط صدر، وضبط كتاب، وضبط الكتاب أدق وأقوى من ضبط الصدر، إذا كان الإنسان عالماً بكتابه، حافظاً له من الدخيل فيه، صائناً له مما يرد عليه من: إدخال الكتبة، أو الأقلام، أو من الضياع، أو دس الأوراق، أو الكتابة فيه ولو بالنقط مما يغير المعنى، فهذا أدق من حفظ الصدر؛ لأنه يعتري الصدر ما لا يعتري الكتاب، فالصدر يعتريه النسيان والوهم والغلط والزيادة والنقصان وغير ذلك، بخلاف الكتاب إذا كان الإنسان عارفاً فيه، ولهذا العلماء يستوثقون بنقل الأمور بالكتاب، ولا يستوثقونها بالحفظ، ولهذا أمر الله عز وجل بكتابة الدين، ولم يكتفِ بالإشهاد عليه، إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]؛ وذلك لأنه أعظم من ضبط الصدر؛ لأن الصدر صاحبه ينسى، ويغفل عنه، فنقول: إن الكتابة في ذلك أقوى.
والضبط على مراتب: منهم من هو حافظ ودقيق، كالأئمة الكبار من الرواة، سواءً كانوا من طبقة الصحابة فإنهم أهل ضبط، لكونهم أمة أمية لا يعتمدون على الكتابة، وكلما اعتمد الإنسان على مسموعه، فهو أضبط لمسموعه من مكتوبه، وإذا أشرك الإنسان مسموعه مكتوباً، فإنه يضعف قدرته على الحفظ والضبط؛ وذلك لأنه قسم ذاكرته بين مسموع ومكتوب، ولهذا الأمي يحفظ من القول ما لا يحفظه الشخص الذي يعتمد على الكتابة، فالعرب كانت شديدة الحفظ قبل تعلم الكتابة، فلما تعلمت الكتابة شارك القلم الذهن، فسلبه نصيباً وافراً من ذلك، ولهذا يقال: إذا أردت أن تحفظ فاكسر القلم، الكثير من الناس يعتمد على القلم في كتابة أدنى شيء، فإذا قلت له: رقم سبعة، أخرج القلم والورقة، وكتب سبعة، ثم وضعها في جيبه، وهذا مشاهد إذاً: أفرغ ذهنه، فعطل في هذا، ولهذا ضعف الحفظ.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا أراد أن يعتاد في جانب الحفظ، أن يعتاد على التقليل من القلم وألا يدون إلا ما احتاج إليه، فإنه يعتاد فسينس، ويتحسر على ما فاته، لكن لو استدام على مثل هذا تمرس وضبط، وإذا اعتمد على مكتوبه ولو الشيء اليسير ضعف لديه الحفظ، ولهذا كان الصدر الأول لديهم ملكة جبلية، كالصحابة، مع وجود الوازع الديني لديهم، فهم خير الخلق بعد الأنبياء عليهم رضوان الله تعالى، فاجتمع فيهم ذلك الأمر، وكانوا أعظم الناس ضبطاً، وذلك للجانب الفطري والجانب الديني في ذلك وهو الوازع، ولهذا كلما تقدمت الطبقة فهم أحفظ من غيرهم، مثل طبقة التابعين الكبار العليا، كقيس بن حازم و أبي عثمان النهدي و سعيد بن المسيب وغيرهم، وكلما نزلنا نجد أنهم أوثق وأقوى ضبطاً ممن جاء بعدهم.
والبلدان التي تأخرت فيها الأمية، وتأخر فيها القلم، كمكة والمدينة، فإن هذه أضبط من غيرها، والبلدان التي ينتشر فيها القلم كالعراق والشام وغير ذلك، فإن هذه يقل فيها الحفظ، ويكثر فيها الرواية بالمعنى.
وكما تقدم الضبط على مراتب: منهم الحافظ، ومنهم الثقة، فالذي يروي الحديث ويدخل في دائرة دون مرتبة الثقات العليا، وما من طبقة من طبقات الرواة إلا وفيهم حافظ ضابط، وفيهم ثقة عدل، وفيهم ثقة متوسط، وفيهم صدوق، وفيهم خفيف الضبط قليل الغلط، وفيهم خفيف الضبط كثير الغلط، وفيهم كثير الغلط وفاحشه، وفيهم ضعيف، وفيهم منكر ومتروك ووضاع، إلا الطبقة الأولى من التابعين وما فوقها، وعلى ما تقدم أن الطبقة الأولى يقل فيها الضعف، ويقل بالمدينة ومكة الكذب، لأن العرب كانت لا تكذب حتى في الجاهلية، فلذلك حتى لما سئلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام صدقوا بالإخبار عنه؛ لأنهم لا يعتادون على الكذب، ولكن يعتادون على التأويل والنفي، وغير ذلك، أما حقائق يشاهدونها فلا ينفونها في الأعم الأغلب.
والضبط شرط في الراوي الذي تقبل روايته، وعلى الضبط يتردد الحديث بين الصحة والحسن والضعف، يقول: (يرويه عن مثله) يعني: من أول السند إلى منتهاه، أن يكون عدلاً ضابطاً، فإذا اختلف الضبط في ذلك، فإنه لا يسمى صحيحاً فينزل إلى مرتبة دونها.
قال: (معتمد في ضبطه ونقله).
طرق معرفة ضبط الرواة
ومسألة الاعتماد في ضبطه ونقله يعرف الراوي بأنه ضابط بأحوال:
الحالة الأولى: بكلام العلماء فيه ممن أدركه، وذلك كالرواة من المتقدمين إذا حكموا على راوٍ معاصر بأنه ضابط أو ليس بضابط، وأئمة الجرح والتعديل من التابعين كثر، كـسعيد بن المسيب ، و ابن شهاب الزهري ، و ابن سيرين ، و عامر بن شراحيل الشعبي ، هؤلاء من طبقة التابعين، وعرف عنهم الجرح والتعديل، فربما جرحوا بعض الرواة ممن عاصروه، وكل طبقة من الطبقات تكلموا على بعض الرواة إما بالثقة والضبط، وإما بعدم الثقة وعدم الضبط، ولهذا نقول: يعرف بكلام الأئمة الذين عاصروهم، وأقوى كلام الأئمة من كان مخالطاً لذلك الراوي معاصراً له، فكلام المدنيين أقوى من كلام غيرهم في المدني، والمكي في المكيين، والبغدادي في البغداديين، والبصري في البصريين وهكذا، وإذا انفصل الزمان فإنه يؤخر على من تقدم زمنه، بمعنى: أنه إذا لم يكن معاصراً له فتكلم فيه من غير معاصرة، فكلامه فيه إما أن يكون أخذه بواسطة أو أخذه بسبر مروياته والحكم عليها.
الحالة الثانية: معرفة ضبط الراوي وحاله بسبر مروياته، ومعنى السبر: هو تتبعها حتى يخرج الإنسان بحكم واحد فيها، والسبر في الاصطلاح: هو النظر في المجموع للحكم على واحد، كالذي يسبر النجوم ليحكم على نجم بالبعد أو القرب، أو يسبر جماعة من الناس ليحكم على واحد منهم بالصحة والمرض، هذا يسمى سبراً، فسبر المرويات يعرف بها الراوي من جهة موافقته للرواة وعدم موافقته لهم، فيتميز حينئذٍ الخطأ من غيره، والأئمة عليهم رحمة الله تعالى لهم مدونات في أبواب معرفة ضبط الراوي وعدمه، ومصنفاتهم في ذلك كثيرة، والكتب في أبواب الرجال في معرفة الجرح والتعديل أيضاً كثيرة، منها ما هي متقدمة ومنها ما هي متأخرة، ومن الأئمة عليهم رحمة الله من يتكلم في الرواة في أثناء كلامه على الحديث؛ ولهذا في ثنايا مسند الإمام أحمد جرح وتوثيق لبعض الرواة في أثناء المسند، وكذلك أيضاً تجد هذا في بعض المصنفات، كالصحيحين في شيء يسير منها، وكذلك في السنن أيضاً، وأكثرها في ذلك عند الترمذي ، و النسائي ، و أبي داود ، وشيء يسير في ذلك عند ابن ماجه عليهم رحمة الله، وثمة مصنفات معتمدة صنفها العلماء في الرجال، ومن أوائل ذلك كتاب التاريخ للإمام البخاري ، وكذلك كتاب الضعفاء له، وكتاب الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم ، وكتاب التمييز لـمسلم ، وكذلك أيضاً مقدمته فيها كلام على الرواة، والكامل لـابن عدي ، وغيرها من المصنفات التي فيها كلام، كسؤالات الإمام أحمد عليه رحمة الله، وعلله، وكذلك أيضاً سؤالات الآجري لـأبي داود ، وسؤالات الدارقطني ، وغيرها أيضاً، ومن مظانها أيضاً كتب العلل التي تتضمن إعلال الحديث وذكر الرواة تبعاً لمروياتهم بالإعلال، أو بالتوثيق.
شرط تلقي الحديث وشرط نقله
يقول: (معتمد في ضبطه ونقله).
يعني: في ضبطه للمروي ونقله، ذكر (في ضبطه ونقله)؛ لأن اشتراط الضبط في الحالين أن الإنسان يضبط الحديث في حال تلقيه وكذلك أيضاً يضبطه في حال نقله، فمن أخطأ في تلقيه للحديث فإنه يخطئ في نقله، وربما زاد خطؤه؛ لأن الإنسان لا بد أن يزيد وينقص، فالأحاديث التي بين أيدينا لا نجزم أن النبي عليه الصلاة والسلام قالها بترتيب حروفها كالقرآن، وإنما يكون فيها تقديم حروف أو تقديم كلمة، ولكن لا يتغير في ذلك المعنى، وأما ما يجزم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قاله بحروفه من أوله إلى آخره، فهي بعض الأحاديث المختصرة اليسيرة، وأما الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما، فالأمة تلقتها بالقبول وبمجموع ألفاظها، ولهذا إذا كانت تلك المرويات بحروفها وتناسقها تامة تفوه بها النبي عليه الصلاة والسلام، لكان المنقول في ذلك كالمصحف في نقله عن الله سبحانه وتعالى، ولكن نقول: المراد بذلك هو سلامة المجموع، فقد يقلب الفاء واواً، وقد تقدم كلمة وتؤخر أخرى، ولكن لا يخل هذا بالمعنى؛ لأنهم يعلمون ما يحيل المعنى، ولهذا يشترط الضبط في حال التلقي، ويشترط الضبط كذلك في حال الأداء.
أهمية ضبط المحفوظ
مسألة: الضبط يدخل فيه ضبط الحديث في حال الرواية، وفي حال حفظه له، وفي حال أدائه، وأخطر هذه المراحل هي مرحلة ضبط الحفظ؛ لأنها أطول عمراً من غيرها؛ ولأن الحديث يبقى في نفس الإنسان محفوظاً لسنوات مديدة، أما بالنسبة لأخذه فيأخذه مرة واحدة في يوم أو في ساعة، ولكن يبقى محفوظاً لدى الإنسان لسنوات، فلا بد من تعهد ذلك المحفوظ حتى يبقى، وذلك أيضاً قرينة عند الحفاظ في معرفة الحديث المعلول من غيره، فكيف يكون ذلك قرينة؟ قرينة ذلك أن الراوي إذا سمع حديثاً قديماً، وهذا الحديث يحتاج إليه، فلا بد أن يحدث به الناس في ابتداء جلوسه لهم، وألا ينتظر بعد ذلك طويلاً، بمعنى: أنه يحدث بحديث ثم ينتظر لعشرين سنة، أو ثلاثين سنة، ثم يحدث بعد عشرين سنة، فهذه قرينة عند الحفاظ على الإعلال، فلا بد من المبادرة بالتحديث.
ولهذا الأئمة عليهم رحمة الله أعلوا حديث أبي هريرة عليه رضوان الله الذي يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من استقاء فليقضِ، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه )، هذا الحديث يرويه عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، وهو غريب، وفرد بهذه الطبقة أو بهذا الطريق، ولكن نجد أنه في الطبقة في حديث أبي هريرة لم يحدث به إلا لـمحمد بن سيرين ، و محمد بن سيرين لم يحدث به إلا عن هشام بن حسان ، وفي كل فترة قرابة عشرين إلى أربعين سنة، فبقي الحديث لديه، وربما التلميذ لم يولد ثم حدث به.
ولهذا جعل العلماء عليهم رحمة الله هذه المرحلة المتسعة، وهي مرحلة حفظ الحديث وبقائه فيه زمناً طويلاً ثم لم يحدث به أمارة على نكارة الحديث؛ لأن الأصل في الحديث أنه لا بد أن يحدث به، فإذا طال عليه العهد ولم يحدث به ضعف من جهة ضبط لفظه، ووقع فيه الخطأ وربما يكون أمارة على عدم اليقين به، فالعلماء يكتمون الحديث الذي يشكون فيه، ولهذا الأوزاعي عليه رحمة الله يقول في حديث ( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ): ما زلت أكتمه حتى رأيته اشتهر فحدثت به، يكتمه لأنه منكر، ولهذا ينظر في حال الراوي في زمن الحفظ في .. الحديث متى سمعه؟ ومن الشيخ الذي حدث به؟ ومن هو تليمذه؟ وكم بينهما؟ وهل الحديث في هذه المرحلة لغيرهما أم لا؟ فإذا طال الزمن فهذا علامة على النكارة، وإذا قصر الزمن فعلامة على ضبطه طبعاً، وعلى عدم نكارته معنى، وضبطه لمعنى لطبعه أنه ضبط الحديث، من جهة الطبع والفطرة، فهو ضابط للحديث؛ لأنه حدث به عشرة أو عشرين من الرواة، فهو يستحضره ويستذكره بذلك، وإذا لم يحدث به إلا بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة فهو أمارة على الشك فيه، وعدم حفظه من جهة الطبع، ولهذا قال: (معتمد في ضبطه ونقله)، ضبطه للحديث عند السماع، وفي الحفظ وعند أيضاً نقله لغيره من الرواة.
قال: (ولم يشذ أو يعل) .
الشاذ: هو المخالف لغيره، فما خرج عن الجماعة فهو شاذ، ولهذا جاء في الخبر قال: ( ومن شذ شذ في النار ) ، يعني: ومن خالف وتفرد، ويسمى الشذوذ، ويسمى الغرابة، ويسمى التفرد.
والشذوذ إما أن يكون عن لفظ، وإما أن يكون عن معنى، فالشذوذ عن اللفظ: هو أن يأتي بلفظ لم يأتِ به غيره، ولو وافق المعنى فيعتبر شاذاً وأمارة على الضعف، وأما الشذوذ عن المعنى فهو أن يأتي بمعنى لم يأتِ به غيره، ولو تفرد بأصل الحديث فلم يأتِ به إلا هو، فمن العلماء من يقول: إن الشاذ في الحديث المراد به: الغريب أو الفرد، ويجعلون التفرد والشذوذ بمعنى واحد، ومنهم من يجعل الشاذ من خالف غيره، والتفرد من جاء بأصل لم يأتِ به إلا هو، وهذا من الاصطلاحات التي تتباين فيها استعمالات العلماء.
العلة هي العاهة، أو المرض الذي يصيب الإنسان، والعلة على نوعين: علة قادحة وعلة ليست بقادحة، وكلها تسمى علة، والعلة القادحة هي التي يرد بها الحديث، والعلة التي ليست بقادحة هي إما قرينة على عدم الضبط، أو قرينة على وجود العلة القادحة، فيتحرى الإنسان فيها، فربما يضعف الحديث بها، وربما لا يضعف.
قال عليه رحمة الله:
[ يرويه عدل ضابط عن مثله معتمد في ضبطه ونقله ].
هنا يذكر ما يتم به التعريف، فبعد ذكر اتصال الإسناد، ونفى وجود الشذوذ وكذلك العلة، وذكر هنا ما يتعلق بأفراد الرواة، فقال: (يرويه عدل ضابط عن مثله) ، يعني: يروي الحديث الصحيح العدل الضابط.
والمراد بالعدالة في الإنسان: السلامة من مواضع الفسق وأعلى شروط العدالة هي الإسلام، وبهذا نعلم أن رواية الكافر لا تقبل، وهذا محل اتفاق عند العلماء.
وأما رواية المبتدع فينبغي أن نعلم أن العلماء عليهم رحمة الله يحذرون من الرواية عنه، وذلك تحذيراً من تكثير سواده، أو ربما من دسائس المبتدعة في رواياتهم، وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الرواية عن المبتدع على عدة أقوال: فذهب قوم إلى عدم الرواية عن المبتدع، وحكي هذا القول قولاً لجمهور العلماء، وقالوا: إن المبتدع الذي وقع في بدعة لا يؤمن عليه من إدخال الحديث المكذوب بما يؤيد قوله.
القول الثاني: يقبل حديث المبتدع ما لم يكن داعية إلى بدعته، فإذا لم يكن داعية فتقبل روايته في ذلك إذا كان ثقة صادقاً، وهذا القول ذهب إليه جماعة من العلماء، والمعروف في صنيع الأئمة عليهم رحمة الله في ذلك أنهم يحذرون من الداعية إلى البدعة خشية من تكثير سواده، أو ربما يروي الحديث بالمعنى من غير قصد ولو كان صادقاً؛ لأن المذاهب لها أثر على الأقوال والآراء، وكذلك الحجج، ولهذا كثير من الناس ينظر إلى نصوص الكتاب والسنة ويستنبط منها معنى شاذاً لا يستقيم مع فهم السلف، ولهذا يحذرون من ذلك، ولكن ينبغي أن نقول: إن المبتدع الداعية وغير الداعية أثر الحديث عليه واحد في ذاته، أما الداعية وإن وجد فيه شراهة في الدعوة إلى قوله، ونقل الحديث ونحو ذلك، فالتأثير من جهة البدعة، فقد يوجد مبتدع متحمس لبدعته أعظم من مبتدع يدعو إلى بدعته، وذلك لشدة تعصبه، لكنه لم يؤتَ طريقة في الدعوة إلى بدعته.
القول الثالث: جواز الرواية عن المبتدع بكل حالٍ إذا كان ثقة في ذاته، سواءً كان داعية أو ليس بداعية، وهذا هو الأرجح؛ لأن الراوي المبتدع إذا كان صادقاً، ويرى تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المقصود والمحتاج إليه؛ لأن من المبتدعة من يرى أن الكذب على رسول الله أخطر وأشد مما يعتقده أهل السنة، كالخوارج، فإنهم قطعاً يكفرون الذي يكذب على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يكفرون بالكبيرة.
وهذا القول الثالث مذهب جماعة من العلماء، كـعلي بن المديني عليه رحمة الله، وهو ظاهر صنيع البخاري ، وكذلك الإمام مسلم عليهما رحمة الله، ولهذا يقول البخاري : إذا تركت حديث أهل البصرة للقدر، وحديث أهل الكوفة للتشيع خربت الكتب، يعني: أنهم يروون حديثاً كثيراً، وابتلوا بشيء من البدعة في هذا الباب.
وهذا الأظهر من مذهب الإمام أحمد عليه رحمة الله، فقد روى في كتابه المسند عن بعض من وصف بالبدعة بالإرجاء أو بالتشيع، فروى عن جماعة منهم، وهذا هو الأظهر، وعليه يحمل ما يصنعه الأئمة عليهم رحمة الله من الرواية عن المبتدعة، ولهذا جاء في الصحيح الرواية عن عدي بن ثابت حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، قال: ( عهد النبي عليه الصلاة والسلام إليّ أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق )، وهذا حديث عدي بن ثابت ، ولهذا نقول: إن ما يأتي في الروايات ولو كان يوافق بدعته، فإنه إذا كان صدوقاً في ذاته، فإن حديثه في ذلك صحيح إذا كان يرى تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: إن البدعة على نوعين: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، البدعة المكفرة تلحق برواية الكافر، وغير مكفرة تدخل في هذه الدائرة، والبدعة المكفرة يدخل فيها من يقول بقول غلاة الجهمية، وأضرابهم.
ومن شروط العدالة وهو الشرط الثاني: السلامة من الفسق، ذكرنا الكفر وذكرنا البدعة، وهنا أيضاً الفسق ألا يكون فاسقاً، والفسق في اللغة: هو الخروج، فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الرطبة إذا خرجت من التمرة، وفسق الإنسان إذا خرج من الطاعة، (( ففسق عن أمر ربه )) خرج عنه، ويسمى الإنسان فاسقاً إذا أكثر من الخروج عن الطاعة، ويفسق بالخروج ولو مرة، وبعض العلماء يجعل الفاسق هو من فعل كبيرة أو أصر على صغيرة واستدامها، قالوا: لأنه لا يؤمن لضعف إيمانه من الكذب، أو الزيادة والنقصان في الرواية في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لازم لعدالة الراوي.
الشرط الثالث: الصدق، وهو أن يكون الراوي صدوقاً، أي: لا يعرف عنه الكذب، إما على الناس أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كذب وعرف بالكذب على الناس فلا تقبل روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يظن فيه أن يجسر على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فهل تقبل توبته أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك، وليس المراد بقبول توبته في كلام العلماء في هذا الباب قبول توبته عند الله من جهة غفران الذنب، ولكن المراد بذلك قبول توبته عندنا، هل نقبل روايته فيما بعد ذلك أم لا؟ لا نعلم باطنه، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
منهم من قال: تقبل توبته، قالوا: وذلك لعموم الأحاديث في قبول التوبة، فقد جاء أن الله عز وجل يتوب على المشرك مهما كان، وفي المشركين من يكذب على الله، ويفتري على الله سبحانه وتعالى، فتقبل توبته.
ومن العلماء من يقول: إنه لا تقبل توبته، وهذا هو الأظهر، لا تقبل توبته عندنا يعني: من جهة قبول حديثه، وذلك لأن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبه في توبته عظيم ككذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً، فلا يؤمن أن يكذب في التوبة كما كذب بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يؤتمن، وربما يتسلسل ويدور في دائرة الكذب في ذلك، وأما عند الله فأمره إلى الله، وأما من يقول: توبة المشرك، نقول: توبة المشرك هو تجرد من كل شيء، والكذب على الله وعلى رسول الله جاء تبعاً، فهو تاب من كل شيء، بخلاف من كذب على رسول الله فهو إنما كذب في هذا الشيء، وكان زاعماً للإسلام فلا يؤمن من الرجوع إلى الشيء الواحد، أما من دخل الإسلام جملة فقد دخل الإسلام بشعبه وأعماله وأقواله، فأراد أن يلتزم بها، فرجوعه في ذلك الكفر بين.
الشرط الرابع: البلوغ، وذلك أن الصغير ليس بعدل؛ لعدم كمال الأهلية فيه، و للبلوغ علامات يذكرها الفقهاء، وليس هذا محل بسطها، فمن بلغ فهو عدل إذا توفرت باقي الشروط فيه، وما كان دون ذلك فليس من أهل التكليف، وليس من أهل العدالة في ذلك، ورواية الصغير ليست رواية عدل، ولكن إذا سمع الصغير في صغره وحدث في زمن كبره صح منه ذلك، ولهذا نقول: إن شرط البلوغ في العدالة، أن يكون ذلك في زمن الأداء لا في زمن التحمل، واختلف العلماء عليهم رحمة الله في سماع الصغير وتحمله، هل يصح أم لا؟ على قولين، وظاهر صنيع البخاري رحمه الله أنه يرى جواز وصحة سماع الصغير، وذلك أنه ترجم في كتاب العلم قال: باب متى يصح سماع الصغير، ثم أسند فيه حديث عبد الله بن عباس و محمود بن الربيع قال: ( عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي، -يعني: محمود بن الربيع - وأنا ابن سبع سنين )، وحديث عبد الله بن عباس قال: ( مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في منى إلى غير جدار وأنا على حمار أتان، وقد ناهزت الاحتلام، فمررت بين يدي الصف، وصففت مع الناس وتركت الأتان ترتع بين يدي الصف )، ففي هذا الحديث إشارة إلى أنه سمع وتحمل في زمن صغره، وحدث به في زمن بلوغه، فنقول: إن شرط البلوغ هو شرط للأداء لا شرط للتحمل، فإذا حدث الراوي بحديث سمعه في صغره فحديثه صحيح، شريطة أن يحدث بعد بلوغه وحينئذٍ نقول بأن روايته صحيحة.
والشرط الخامس: السلامة من خوارم المروءة، والمروءة هي ملكة تدعو الإنسان إلى ملازمة التقوى، وأصل المروءة الحياء، فإذا نزع الحياء من الإنسان، جسر على المحرم؛ لأنه باب لفعل المحرمات، فأول ما يسقط من الإنسان إذا وقع في الكبائر مروءته، فتسقط المروءة ثم تتبعها الكبيرة، فلا تسقط ولا يأتي الكبيرة إلا ولدى الإنسان شيء من ضعف مروءته، ولهذا يجعل العلماء هذا الباب باباً من أمور العدل.
الشرط السادس: العقل، أي: لا بد أن يكون عاقلاً، وذلك لأن المجنون مرفوع عنه القلم، كما جاء في حديث عائشة : ( رفع القلم عن ثلاثة )، وجاء أيضاً في حديث علي بن أبي طالب عليه رضوان الله عند الترمذي : ( رفع القلم عن ثلاثة )، فليس من أهل التكليف، وهو شرط للأداء وشرط للتحمل، فإذا روى حديثاً سمعه في زمن سفه أو جنون، فحدث به في زمن عقل، لا يقبل منه ذلك، وإذا كان كذلك أيضاً حدث به في زمن صغر مع وجود شيء من العقل في ذلك، ثم حدث به بعد عقله، أو كان عاقلاً ثم حدث، فسمع شيئاً ثم حدث به بعد جنونه لا يقبل به بالحالين، بل هو شرط قائم في كل حال؛ لأن المجنون ليس من أهل التكليف.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح المنظومة البيقونية [4] | 2741 استماع |
شرح المنظومة البيقونية [3] | 2673 استماع |
شرح المنظومة البيقونية [5] | 2155 استماع |
شرح المنظومة البيقونية [1] | 877 استماع |