شرح المنظومة البيقونية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قال البيقوني رحمه الله تعالى: [ بسم الله الرحمن الرحيم.

أبدأ بالحمد مصلياً على محمد خير نبي أرسلا ].

ففي عدة مجالس بإذن الله عز وجل نتكلم على شيء من قواعد الحديث وضوابطه، وشيء من مسائله وأحكامه، وتعريفاته وذلك على ضوء كلام المصنف رحمه الله في هذه المنظومة الميسرة، وهي المشتهرة بمنظومة البيقوني، أو المنظومة البيقونية، وهذه الرسالة تنم عن علم صاحبها، وإن كانت كتب التاريخ والتراجم تشح عن التعريف به؛ وذلك لأنه قليل التصنيف، أو لم يكن معروفاً في زمنه فينقل عنه أهل العلم في تلك الفترة، والمصنف رحمه الله -وهو عمر بن محمد البيقوني- هو شامي على الأظهر، وشافعي المذهب، وهو في القرن الحادي عشر الهجري، وقد صنف هذه الرسالة اختصاراً لمسائل علوم الحديث وقواعده، وجمع فيها بأسلوب النظم وطريقته ما ظهر من مسائل علوم الحديث وقواعده واشتهر، وما يكون بوابة لطالب العلم أن يلج إلى علم الحديث، ومعرفة مسائله وقواعده الظاهرة.

علم الحديث، وعلم الآلة الموصل إليه بحر لا حد له، ولن يستوعبه كله أحد، وذلك لسعة أبوابه، وكثرة مسائله، وأجناسه، وأصنافه، وأنواعه، وتقاسيمه، فالتصانيف التي يكتبها العلماء في هذا الباب كثيرة جداً لا يستطيع الإنسان أن يتناولها جمعاً فضلاً أن يتناولها قراءة وحفظاً، سواء كانت ما يتعلق بأبواب العلل، أو ما يتعلق أمور بمصطلح الحديث وسواء كانت المصنفات في ذلك متقدمة أو متأخرة.

فقد صنف العلماء في هذا الباب ونوعوا، فمنهم من صنف في المنثور، ومنهم من صنف في المنظوم، ومنهم من صنف مختصرات، ومنهم من صنف مطولات، ومنهم من تكلم على القواعد والمصطلحات، ومنهم من تكلم على أبواب العلل الدقيقة، ومنهم من تكلم على تقاسيم الحديث وأنواعه وأجناسه وصنوفه، ومنهم من تكلم على رجاله ومتونه، ومنهم من جمع المتون، ومنهم من جمع الرجال، ومنهم من جمع ألفاظ الجرح والتعديل، وغير ذلك.

طريقة التمكن من آلة علوم الحديث

وهذه المصنفات كثيرة جداً على ما تقدم الكلام عليه، وأعظم طريقة يصل فيها طالب العلم إلى حاجته ونهمه، ويتمكن من الآلة تمكناً لا بأس به في أبواب علوم الحديث، فيحكم عن علم وبينة وبصيرة بدقة وعناية هو أن يكثر من الممارسة لعلم الحديث، وهي على أنواع: ممارسة بالقراءة والنظر، وممارسة بالبحث وممارسة بالحفظ، بأن يديم الإنسان المحفوظات بمعرفة الرجال ومعرفة متون الحديث وأنواعه، وغير ذلك، فإن هذا مما يعين طالب العلم، ويعطيه ملكة قوية في هذا الباب.

هذه الرسالة التي بين أيدينا تعتني بما يسمى بمصطلح الحديث، ويعبر عنه بقواعد الحديث أو مسائله أو أحكامه، وهذه عبارات في الغالب أنها مترادفة من جهة المعنى، وإن كان بين بعضها عموم وخصوص، إلا أنها من جهة الإجمال متقاربة، فمنهم من يسمي الكتب المصنفة في علوم الحديث بقواعد الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث أو مسائل الحديث أو ضوابط الحديث، وغير ذلك من المصطلحات التي تجري على ألسنة وأقلام العلماء عليهم رحمة الله.

أقسام علم الحديث إجمالاً

فمسائل الحديث وأنواعه كثيرة جداً، ووفرتها وكثرتها ربما تحير طالب العلم في البداءة بذلك، ولكن ينبغي أن نقول: إن علم الحديث ينقسم بمجمله إلى قسمين:

القسم الأول: علم الرواية.

والقسم الثاني: علم الدراية.

وعلم الرواية: هي النقولات التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما كان من علم الأسانيد من علم الرجال، ويتفرع عن ذلك ألفاظ الجرح والتعديل، والعلل الإسنادية، وبلدان الرواة، وكذلك تخصصاتهم، وصلة بعضهم ببعض من الشيوخ والتلاميذ، وطبقاتهم، ومواليدهم، ووفياتهم، وأعمارهم، وكثرة سماعهم، وغير ذلك، وما يتعلق أيضاً بالمرويات وأجناسها، وذلك كالمرفوع والموقوف والمقطوع، وكذلك أنواع المرفوعات سواء ما كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما كان حديثاً قدسياً منسوباً ومروياً إلى الله سبحانه وتعالى، وهي أيضاً على أجناس وأنواع متباينة وأما ما يتعلق بعلم الدراية، فهو باب واسع، يعتني بمعرفة ما يتعلق بعلم الرواية من أحكام، ويدخل في هذا المسائل الفقهية، ويدخل في الأحكام التعاريف التي يطلقها العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا، ويدخل أيضاً على تفصيل بعض العلماء أبواب العلل ودقائقه وغير ذلك، باعتبار أنها شيء من المعاني التي يغلب عليها النظر المعنوي، بعيداً عن التقعيد، أو الضرب في ذلك، والمصنفات في كل باب من الأبواب كثيرة جداً لا عد لها ولا حصر.

بيان أغلبية قواعد علوم الحديث وأهمية ضبط مستثنياتها

والقواعد في علوم الحديث، وكذلك مصطلحه، وضوابطه، هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة كسائر العلوم، فلدينا علوم كثيرة منها علوم التفسير، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة، وغير ذلك، ولكل باب من هذه الأبواب قواعد، وهذه القواعد إنما هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة، ومعنى مطردة: أنها لا تنخرم بشيء يستثنى، ولكن هذه القواعد أغلبية وهي تتباين من جهة الاستثناء، فمنها ما استثناؤها ضعيف وضئيل، ومنها ما استثناؤها أكثر من ذلك، كأن يوصف بالكثرة، ولكنه ليس هو الأكثر، وهذا يعرفه طالب العلم بمعرفة الجزئيات؛ لأن طالب العلم إذا عرف الجزئيات تمكن من سبرها، ثم بعد ذلك يستطيع أن يحكم على الكليات، يعني: يحكم على القواعد، فإذا عرف علل الأفراد استطاع أن يوجد العلل العامة التي يشتركون فيها، والصحة العامة التي يسلمون معها.

كذلك أيضاً من مسائل الحديث: أنه إذا سبر الأفراد استطاع أن يعطي في ذلك حكماً عاماً، فالعلماء عليهم رحمة الله أرادوا أن ييسروا علوم الحديث بما يسمى بقواعده بعد سبرهم للأفراد والجزئيات، فصنفوا هذه المصنفات المعروفة بين أيدينا بمصطلح الحديث، ومنها على ما تقدم منظوم ومنها منثور، ومنها مطول ومنها مختصر، ومنها متقدم، ومنها متأخر، فهي متباينة في هذا الباب من جهة قيمتها ومنزلتها، ومنها ما يصنفها عالم محقق محرر، ومنها ما يصنفها عالم مقلد، يعني: يحكي هذه المسائل عن غيره، ربما لا يحرر كثيراً منها.

والنوع الذي يتبناه المحررون المحققون أهل الدقة والدراية والتحقيق في ذلك هي مصنفات لا بأس بها من جهة الوفرة، وهي في متناول الجميع، وكلما كان التصنيف أقدم فإنه أكثر تحقيقاً، وذلك لقربه من الزمن الأول، وهو زمن الدراية، والحفظ، وسعة العلم، وقوة الملكة، وسلامة اللغة، بخلاف المصنفات المتأخرة في هذا الباب.

هذه المسائل لا تعطي طالب العلم ملكة على أن يحكم على الجزئيات، ولكن يحكم على الأغلب والكليات، فالجزئيات بمعنى: أن الإنسان إذا درس هذه القواعد لا يستطيع أن يحكم على أجزاء الأحاديث كلها بحكم صحيح، ولكن يستطيع أن يحكم على أغلبها، ولا يحكم على أفرادها، ويكون في ذلك حكمه صحيحاً.

واجب طالب الحديث لضبط كليات قواعد علم الحديث وجزئيات مسائله معاً

إذاً: ما الواجب على طالب العلم في هذا؟

الواجب على طالب العلم أن يعلم قيمة المصنفات في علوم الحديث وأنها مفاتيح تفتح لطالب العلم أبواباً يلج إلى مسائل الحديث الدقيقة في علوم الرواية وعلوم الدراية، ولهذا الذي يعتني بعلوم المصطلح لا يكون طالباً متمكناً، وإنما يكون طالباً أخذ مفاتيح العلم، وما عرف دواخله، لأن لكل بناءٍ أبواب، ولكل أبوابٍ مفاتيح، فهو أخذ هذه المفاتيح حتى يستطيع أن يلج إليها ويميز هذه من هذه، فيعرف الدور، ويعرف ساحاتها، وغير ذلك، فإذا ولج إليها استطاع أن يأخذ منها، لكنه ما استطاع أن يحكم عما في داخلها، وكيف يستطيع طالب العلم أن يصل إلى هذا؟ يستطيع طالب العلم ذلك إذا ولج إلى هذا العلم وتتبع المسائل الفردية واستوعبها، فأخذ تلك القواعد حتى يتيسر لديه الحكم على الجزئيات، فحينئذٍ يكون بعد ذلك من أهل التمكن والدراية في هذا الباب، فكلما استوعب, واستكثر من الأخذ بأمثال هذه الجزئيات، وهذه القواعد التي بين أيدينا أو غيرها مما يصنف فيها العلماء من مختصرات علوم الحديث وقواعده على ما تقدم كلما تفقه وتبصر طالب العلم بأغلب الأحكام لا بجميعها، والأغلب المراد به: الكليات.

فلدينا كليات وجزئيات، ولدينا أصول وفروع، فالأصول العامة والقواعد هذه تعطي طالب العلم الحكم على الأغلب، لكنه لا يحسن الحكم على الاستثناءات، فإذا حكم على الاستثناءات، وحكم على القواعد، فإنه حينئذٍ يكون من أهل الملكة والتحقيق، وهؤلاء هم المحققون، وكما أنه في علم الحديث، كذلك أيضاً في علم الفقه وعلم التفسير وغير ذلك.

إذاً: الواجب على طالب العلم أن يأخذ هذه القواعد، وأن يلج بها إلى أبواب العلم، وأن يعلم أن هذه القواعد ليست هذه العلم بذاتها، وإنما هي مفاتيح توصل إلى تلك العلوم، وتلك العلوم لها مباحثها، وإذا أخذ طالب العلم هذه القواعد كيف يلج إلى ما بعدها؟ نقول: يلج إلى ما بعدها من كتب العلماء، وأقوى ما يلج إليه طالب العلم مما يحرره هذا الباب ما يسمى بكتب العلل، وكتب العلل في ذلك كثيرة جداً، وذلك كعلل الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله، كعلل يحيى بن معين، وعلل علي بن المديني، وعلل أبي حاتم، وكذلك التاريخ الكبير للبخاري، والجرح والتعديل لـابن أبي حاتم، كذلك أيضاً التمييز للإمام مسلم، والعلل للإمام أحمد عليه رحمة الله، والعلل للدارقطني، ومسائل الإمام أحمد المنثورة، أيضاً ما يأتي في الكتب التي تصنف على الرجال وتتضمن جملة من المسائل في علل الحديث، وذلك كالكامل لـابن عدي، والضعفاء للعقيلي، والضعفاء للبخاري، والضعفاء للنسائي عليهم رحمة الله، وغير ذلك من هذا الباب، وكذلك السؤالات التي تتعلق بالرجال كسؤالات الدارقطني، وسؤالات الإمام أحمد عليهم رحمة الله، وكذلك أيضاً سؤالات الآجري لـأبي داود وغيرها من هذه السؤالات التي تتضمن شيئاً من مسائل العلل.

الأمر الثاني مما يصل به طالب العلم: هو أن يكون بصيراً بالمتون، فعلم المتون من الأمور المهمة التي تعطي طالب العلم ملكة وقدرة على معرفة الجزئيات، والحكم عليها، فكلما كان طالب العلم أكثر استيعاباً للمتون، والإكثار من الأخذ منها، فإنه حينئذٍ يؤتى ملكة جبلية فطرية يستطيع بها أن يميز كثيراً من الأحاديث إذا وقف عليها مع ما لديه من قواعد ولج بها إلى هذا العلم.

ومتون الحديث التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها في علم الحديث أن يبدأ بالكليات؛ لأن الشريعة جاءت بالكليات قبل الجزئيات والفرعيات، فالكليات: هي المعاني العامة التي تدل على معنى عام يدخل تحته جملة من التطبيقات أو الفروع، ولهذا جاءت الشريعة بالتوحيد بالمعنى العام، وإفراد الله عز وجل بالعبادة، وما جاءت بأنواع العبادة التي يوحد الإنسان بها ربه على وجه التفصيل، ولهذا الصيام لا يجوز أن تصوم لغير الله، وإنما الصيام لله، ولكن جاء الصيام بعد ذلك من جهة أجناس العبادة التي تصرف لله، جاءت بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، وجاءت بالنهي عن الشرك، وهذه هي الكليات والأصول العامة في الشريعة، ولكن كيف توحد الله؟ توحده بالعبادة، ما هي هذه العبادة؟ جاءت على سبيل التدرج، جاءت بالذكر، والصلاة، والصدقة، والحج، والعمرة، وجاءت أيضاً بأنواع العبادة من جهة أنواع الصدقة، وصلة الأرحام، وغير ذلك مما دل عليه الدليل من هذه الأنواع.

أهمية معرفة كليات العلوم قبل جزئياتها

الكليات في القواعد في علوم الحديث تعطي طالب العلم الولوج إلى هذه الجزئيات والدخول إلى تفاصيلها، فينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يلج إلى الشريعة أن يلج إليها من كلياتها لا من جزئياتها؛ لأنه إذا دخل إلى الكليات وصل إلى الجزئيات وعرف قيمتها، بخلاف لو دخل إلى الجزئيات؛ لأنه إذا دخل إلى الجزئيات ظن أنه قد حوى من الشريعة، وتكبر، فيصل إلى علم يسير جداً من بعض الأبواب، ويظن أنه قد استوعب العلم، بخلاف البدء من الكليات، فإذا بدأ من الكليات، فإنه يجد تشعبات الشريعة لديه، فمثلاً إذا بدأ من الأصول بدأ من أركان الإسلام، وجد طريق الصلاة، ووجد طريق الصيام، ووجد طريق الزكاة، ووجد طريق الحج، فإذا دخل إلى الصيام وجد فروعاً كثيرة جداً من جهة الصيام الفرض والنافلة والكفارة وغير ذلك، وإذا دخل إلى الزكاة وجد الزكاة بأنواعها، زكاة النقدين الزروع والثمار وغير ذلك، بخلاف لو جاء من الفرعيات، فإنه يبدأ من الفرع، كأن يعتني مثلاً: بمسائل الصيام النافلة، ويبدأ بصيام يوم عاشوراء ثم يرجع إلى صيام الفرض، ثم يرجع إلى الكليات وما مر بغيرها من الفروع الأخرى، وظن أنه قد أخذ شيئاً من الشريعة، وهذا يورث طالب العلم ضعفاً، وربما كبراً.

والزمن المتأخر زمن الإيغال في التخصصات، تجد طالب العلم مثلاً يعتني بباب من الأبواب، وربما بحث معين، يجلس عليه سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، يبحث عن أحكام الشعر، أو أحكام الأظافر، أو أحكام النعال، أو غير ذلك، وهذا بدأ من جزئيات هذا الباب، وجهل الجزئيات الأخرى، فضلاً عن الكليات، وهذا خطأ، فهو ليس بفقيه لا في الفقه، ولا أيضاً في غيره وإنما هو فقيه في الشعر، وفقيه في الظفر، أو فقيه في النعال وغير ذلك، وهذا سببه ما يسمى بالدراسات النظامية، أو كذلك أيضاً الإيغال في الجزئيات في البحوث وغير ذلك، فيظن طالب العلم أنه إذا أوغل في جزئية أنه فهم الشريعة.

إذاً: هل أخذ الشريعة بعكسها أم جاء من أصلها؟ أخذها بعكسها، فالواجب على طالب العلم أن يبدأ بالكليات حتى من جهة الحفظ والدراسة، فقد تقدم أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بعلم المتون، وعليه أن يبدأ بالكليات، فما هي الكليات؟ هي الأحاديث الكلية التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيبدأ مثلاً: بالقرآن وهو الأصل الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقيدة وأحكام حلال وحرام، ثم قصص، والقرآن في ذلك أصله أغلبي، فهو عام غائي، يعني: أنه يهتم بالغايات لا يهتم بالتفاصيل والجزئيات، ولهذا لا تجد في القرآن عدد الركعات، والصلوات الخمس وإنما تجد وجوب الصلاة، وما يتعلق بمواقيتها، كذلك بالنسبة للزكاة، جاء بالأمر بالزكاة وكذلك أيضاً مسائل الحول، ولكنه ما جاء بمقادير الزكاة والأموال التي يجب فيها من أمور النصاب وغير ذلك، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بمسائل الصوم، ومسائل الحج، وجزئيات هذه المسائل.

فإذا بدأ بالأخذ بالكليات حتى يصل إلى فرعيات كل مسألة، فإنها تعظم لديه الشريعة ويتهيبها، هذا من جهة القرآن، أما من جهة السنة فيبدأ بالأحاديث الكلية، وثمة رسالة لـابن عساكر رحمه الله، وهي في الأحاديث الكلية، جمع فيها الأحاديث الكلية في نحو ستة وعشرين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه الإمام النووي رحمه الله فأكملها، فسماها الأربعين النووية، فيعتني بها؛ لأنها اعتنت بمجموع ومجمل الأحكام، ولهذا هذه الأحاديث لا تجد فيها التفاصيل، فلا تجد فيها مثلاً ما يتعلق بأحاديث صفة الصلاة، أو بصفة الصيام، أو صفة الزكاة وغير ذلك، لا تجد فيها شيئاً من هذا، وإنما تعتني بالعام.

ثم بعد ذلك ينتقل إلى شيء من الأحاديث التي تعتني بتفصيل بعض الكليات، يبدأ بتفصيل المرتبة الأولى، وذلك على نوعين، في أمور العقائد ثمة مصنفات، وفي أمور الأحكام ثمة مصنفات، ويرجع في أمور الأحكام إلى أحاديث الأحكام، فيعتني بها، وثمة مصنفات كثيرة جداً، حولها، وهي عند العلماء على منهجين: منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين، فالمتقدمون يسمون أحاديث الأحكام، ويدخلون فيها العقائد، ويدخلون فيها الفقه، ويدخلون فيها الآداب والسلوك والفتن، وغير ذلك، فيجعلون كل شيء جاء عن الدين فهو من الأحكام، ولهذا تجد من يصنف في هذا الباب، كـالبخاري، و مسلم، و الترمذي، و النسائي، و ابن ماجه، و أبي داود وغيرهم ممن صنف في هذا الباب يدخلونها ويسمونها أحكاماً، ومنهم من جرى على تسميتها بالنص، كالأحكام الصغرى والكبرى والوسطى للإشبيلي، وغيرها من المصنفات في هذا الباب، فالذين يعتنون في باب التوسع في مسائل الدين، يدخلون مسائل الإيمان، ثم مسائل الأحكام، ثم يأتون بعد ذلك بما عداها، والطريقة الثانية: تقسيم مسائل الأحكام، وهي طريقة المتأخرين، جعلوا كتب العقائد منفكة عن كتب الأحكام، فجعلوا الأحكام خاصة بأحكام الفقه الذي يبتدئ بأبواب الطهارة، وينتهي بأبواب الإقرار غالباً، على اختلاف في ترتيب الفقه عند المذاهب الأربعة في هذا الباب، فهم يخصصون الأحكام على هذا المعنى، يأخذ طالب العلم في مسيره في كل باب كتاباً، فإذا كان على طريقة المتقدمين، فإنه قد جمع هذه الأبواب، وإذا كان على طريقة المتأخرين، فلا بد أن ينتبه إذا سار في المسار الفقهي أن ثمة مسار آخر قد تركه، وهو مسار العقائد، فلا بد أن يأخذ كتاباً من هنا وكتاباً من هنا حتى يتلازم معه، فيأخذ كتاباً في العقائد، وكتاباً في الأحكام.

وثمة كتب مصنفة في العقائد عند المتقدمين، وعند المتأخرين يسمونها بكتب الإيمان، ككتاب الإيمان لـابن أبي شيبة، وكتاب الإيمان لابن مندة، وكتاب الإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام وكذلك أيضاً كتب التوحيد، ككتاب التوحيد لـابن خزيمة، وكتاب التوحيد للمقريزي، وغيرها من المصنفات في هذا الباب، وثمة كتب مصنفة في أبواب الأحكام أو ما يسمى بالفقه، وهي مصنفات أيضاً عديدة، ومن أوائلها كتاب عمدة الأحكام للمقدسي رحمه الله، وكتاب المنتقى للمجد ابن تيمية، وكتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، وكتاب المحرر لـابن عبد الهادي، وكتاب فتح الغفار للهندي، جمعوا فيها الأحاديث المتعلقة بأبواب الأحكام.

إذا بدأ بالشريعة من نقطته الأولى من الكليات، فإن الإنسان يعرف ما يفوته من العلم، ويستوعبها كما استوعبها الأوائل وأتقنوها، وأدركوا ما فاتهم من العلوم، ولكن لما كثرت هذه الجزئيات والفرعيات من علوم الشريعة عند المتأخرين، فأصبحت كالخيوط والهدف المترامي، إذا أمسك بهدف من فروعها ظن أنه قد أمسك بالشريعة، ولو بدأ من أعلاها ونظر كثرة ما تفرع منها أيقن أنه ما أخذ إلا شيئاً يسيراً، وأنه قد فاته شيء كثير ينبغي عليه أن يستدركه، ولهذا من بدأ بالجزئيات يزداد إيغالاً فيها حتى ينقضي عمره، ويكتشف أنه قد جهل شيئاً كثيراً، وفاته شيء كثير في هذا الباب.

وهذه المصنفات كثيرة جداً على ما تقدم الكلام عليه، وأعظم طريقة يصل فيها طالب العلم إلى حاجته ونهمه، ويتمكن من الآلة تمكناً لا بأس به في أبواب علوم الحديث، فيحكم عن علم وبينة وبصيرة بدقة وعناية هو أن يكثر من الممارسة لعلم الحديث، وهي على أنواع: ممارسة بالقراءة والنظر، وممارسة بالبحث وممارسة بالحفظ، بأن يديم الإنسان المحفوظات بمعرفة الرجال ومعرفة متون الحديث وأنواعه، وغير ذلك، فإن هذا مما يعين طالب العلم، ويعطيه ملكة قوية في هذا الباب.

هذه الرسالة التي بين أيدينا تعتني بما يسمى بمصطلح الحديث، ويعبر عنه بقواعد الحديث أو مسائله أو أحكامه، وهذه عبارات في الغالب أنها مترادفة من جهة المعنى، وإن كان بين بعضها عموم وخصوص، إلا أنها من جهة الإجمال متقاربة، فمنهم من يسمي الكتب المصنفة في علوم الحديث بقواعد الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث، ومنهم من يسميها بمصطلح الحديث أو مسائل الحديث أو ضوابط الحديث، وغير ذلك من المصطلحات التي تجري على ألسنة وأقلام العلماء عليهم رحمة الله.

فمسائل الحديث وأنواعه كثيرة جداً، ووفرتها وكثرتها ربما تحير طالب العلم في البداءة بذلك، ولكن ينبغي أن نقول: إن علم الحديث ينقسم بمجمله إلى قسمين:

القسم الأول: علم الرواية.

والقسم الثاني: علم الدراية.

وعلم الرواية: هي النقولات التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ما كان من علم الأسانيد من علم الرجال، ويتفرع عن ذلك ألفاظ الجرح والتعديل، والعلل الإسنادية، وبلدان الرواة، وكذلك تخصصاتهم، وصلة بعضهم ببعض من الشيوخ والتلاميذ، وطبقاتهم، ومواليدهم، ووفياتهم، وأعمارهم، وكثرة سماعهم، وغير ذلك، وما يتعلق أيضاً بالمرويات وأجناسها، وذلك كالمرفوع والموقوف والمقطوع، وكذلك أنواع المرفوعات سواء ما كان مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما كان حديثاً قدسياً منسوباً ومروياً إلى الله سبحانه وتعالى، وهي أيضاً على أجناس وأنواع متباينة وأما ما يتعلق بعلم الدراية، فهو باب واسع، يعتني بمعرفة ما يتعلق بعلم الرواية من أحكام، ويدخل في هذا المسائل الفقهية، ويدخل في الأحكام التعاريف التي يطلقها العلماء عليهم رحمة الله تعالى في هذا، ويدخل أيضاً على تفصيل بعض العلماء أبواب العلل ودقائقه وغير ذلك، باعتبار أنها شيء من المعاني التي يغلب عليها النظر المعنوي، بعيداً عن التقعيد، أو الضرب في ذلك، والمصنفات في كل باب من الأبواب كثيرة جداً لا عد لها ولا حصر.

والقواعد في علوم الحديث، وكذلك مصطلحه، وضوابطه، هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة كسائر العلوم، فلدينا علوم كثيرة منها علوم التفسير، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة، وغير ذلك، ولكل باب من هذه الأبواب قواعد، وهذه القواعد إنما هي قواعد أغلبية لا قواعد مطردة، ومعنى مطردة: أنها لا تنخرم بشيء يستثنى، ولكن هذه القواعد أغلبية وهي تتباين من جهة الاستثناء، فمنها ما استثناؤها ضعيف وضئيل، ومنها ما استثناؤها أكثر من ذلك، كأن يوصف بالكثرة، ولكنه ليس هو الأكثر، وهذا يعرفه طالب العلم بمعرفة الجزئيات؛ لأن طالب العلم إذا عرف الجزئيات تمكن من سبرها، ثم بعد ذلك يستطيع أن يحكم على الكليات، يعني: يحكم على القواعد، فإذا عرف علل الأفراد استطاع أن يوجد العلل العامة التي يشتركون فيها، والصحة العامة التي يسلمون معها.

كذلك أيضاً من مسائل الحديث: أنه إذا سبر الأفراد استطاع أن يعطي في ذلك حكماً عاماً، فالعلماء عليهم رحمة الله أرادوا أن ييسروا علوم الحديث بما يسمى بقواعده بعد سبرهم للأفراد والجزئيات، فصنفوا هذه المصنفات المعروفة بين أيدينا بمصطلح الحديث، ومنها على ما تقدم منظوم ومنها منثور، ومنها مطول ومنها مختصر، ومنها متقدم، ومنها متأخر، فهي متباينة في هذا الباب من جهة قيمتها ومنزلتها، ومنها ما يصنفها عالم محقق محرر، ومنها ما يصنفها عالم مقلد، يعني: يحكي هذه المسائل عن غيره، ربما لا يحرر كثيراً منها.

والنوع الذي يتبناه المحررون المحققون أهل الدقة والدراية والتحقيق في ذلك هي مصنفات لا بأس بها من جهة الوفرة، وهي في متناول الجميع، وكلما كان التصنيف أقدم فإنه أكثر تحقيقاً، وذلك لقربه من الزمن الأول، وهو زمن الدراية، والحفظ، وسعة العلم، وقوة الملكة، وسلامة اللغة، بخلاف المصنفات المتأخرة في هذا الباب.

هذه المسائل لا تعطي طالب العلم ملكة على أن يحكم على الجزئيات، ولكن يحكم على الأغلب والكليات، فالجزئيات بمعنى: أن الإنسان إذا درس هذه القواعد لا يستطيع أن يحكم على أجزاء الأحاديث كلها بحكم صحيح، ولكن يستطيع أن يحكم على أغلبها، ولا يحكم على أفرادها، ويكون في ذلك حكمه صحيحاً.