الرقية ما لها وما عليها


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وآله ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد:

فإن موضوع الرقى وما يدور حولها من تساؤلات، وما يجري من كثير من الرقاة من تجاوزات يحتم على كل من يهمه الأمر، سواء من العلماء وطلاب العلم، أو من المسئولين وأهل الحسبة، أن تتضافر جهودهم في علاج كثير من المشكلات التي تنشأ عن الأخطاء حول الرقية؛ ولذلك سيكون حديثي في ثلاثة أمور:

أولاً: في أصل الرقية شرعاً.

ثانياً: الأسباب التي جعلت الكثيرين من مجتمعنا في هذا اليوم يحتاجون إلى الرقية ويلجئون إلى الرقاة، سواء منهم من يرقي على أصول شرعية، أو من يقع في أخطاء، إما لجهل، أو تجاوزات مقصودة وغير مقصودة.

ثالثاً: الإشارة إلى أهم الأمور التي ينبغي أن تكون في الرقية الشرعية، ولعلي أطيل الحديث عما يحدث من أخطاء وتجاوزات حول الرقية، سواء من بعض الرقاة، أو من الذين يحتاجون إلى الرقية من المرضى وأولياء المرضى.

أولاً: ينبغي أن نعرف ما هي الرقية، كثير من الناس يخلط بين الأوراد والتحصينات الشرعية وبين الرقى، مع أن بينهما تشابهاً من وجوه واختلافاً من وجوه كثيرة، وكثير من الناس يخلط بين الرقية والتداوي بالأسباب المشروعة وغير المشروعة؛ ولعل سبب ذلك أن بعض الرقاة لا يكتفي بالرقية الشرعية، فيضيف إليها من تخرصاته وأوهامه أو من تجاربه الشخصية، التي هي أشبه غالباً بالشعوذة، حتى صارت عند بعض الناس من لوازم الرقية.

الرقية المشروعة: يقصد بها طلب الشفاء من الله عز وجل، إما عن طريق القرآن، فهو الشفاء والرحمة، وهو الهدى والنور، أو عن طريق الأدعية المشروعة، سواء منها المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وسلف الأمة، أو غير المأثور إذا لم تكن تشتمل على معان غير مشروعة، أو عبارات أو طلاسم أو أشياء لا يكون لها أصل شرعاً، أو تتنافى مع الشرع، هذا هو الأصل في الرقية، ومع ذلك فإن الناس اليوم أضافوا إلى الرقى أشياء كثيرة، فأدخلوا التمائم وغيرها من الأعمال غير المشروعة ضمن الرقية وكأنها من الرقى، وهذا ما سأركز عليه.

ما هي بواعث الرقية؟

الرقية المشروعة علاج بإذن الله عز وجل من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، أمراض القلوب سواء كانت نفسية أو غيرها كضيق الصدر والقلق والخوف والاضطراب وقسوة القلوب.. وغير ذلك مما يعتري البشر، خاصة إذا كثرت أسباب قسوة القلوب، وأكثر ما يحتاج الناس في الرقية اليوم وفي عصرنا وفي وقتنا هذا في علاج أمراض القلوب الأمراض النفسية، وهي داخلة ضمن أمراض القلوب، وسأذكر شيئاً من أسباب جعل الكثيرين يحتاجون إلى الرقية، لكن الأكثر منهم يباشر الرقية بطرق غير مشروعة، سواء بنفسه أو عن طريق بعض الرقاة الذين يتجاوزون المشروع، إما لجهل أو لتخليط أو لأغراض الله أعلم بها، لا نريد أن ندخل في أعمال القلوب، إنما يهمنا الظواهر مما حدث من أخطاء، ممكن نسميها أخطاء شنيعة مؤثرة في العقيدة، ومؤثرة في سلوكيات الناس، ومؤثرة في معارضة أحكام الشرع.

أما أمراض الأبدان الأمراض العضوية، فلا شك أن القرآن والأدعية المشروعة سبب بإذن الله عز وجل من أسباب العلاج لكثير من الأمراض العضوية، بل عامة الأمراض التي يتناولها الطب ويعالجها أيضاً ممكن علاجها بالقرآن، لكن الذي لا يمكن علاجه لا بالقرآن ولا بغيره كالموت؛ فالموت ليس له علاج، إلى آخره، الشيء الذي يفوت هذا قدر، لكن ما دام المرض يحتمل أن يعالج فإن الاستشفاء بالرقية على الوجه الشرعي يكون من أسباب علاج المرض بإذن الله، سواء كان نفسياً قلبياً أو عضوياً.

المتأمل لحال الناس اليوم لو قارن بين ما سبق من حوالي ثلاثين أو عشرين سنة وبين حال الناس اليوم لوجد الأمر مهولاً فعلاً، يعني: اليوم تسارع الناس إلى الانكباب حول الرقاة وحول الأطباء النفسيين، لا شك أن هذا له أسبابه.

أمراض القلوب

أعظم الأسباب: أمراض القلوب، وهي سبب للمرض النفسي والاختلال العقلي عند كثير من الناس، وسبب أيضاً لكثير من الأمراض العضوية، فضلاً عن الأمراض القلبية والنفسية.

وجماع ذلك: الإعراض عن ذكر الله، يقول الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] هذا في الدنيا، والمعيشة الضنك تبدأ من القلق الذي يبدأ في قلب الإنسان ونفسه والأمراض النفسية، ثم ما ينشأ عنه أو عن غيره من بعض الأمراض العضوية كذلك، فهو نوع من المعيشة الضنك، القلق.. الاضطراب.. الوساوس.. وغير ذلك مما هو كثير اليوم.

كثرة المعاصي والشرور والملاهي

من الأسباب: كثرة المعاصي والشرور والملاهي، وكذلك بهارج الدنيا، الدنيا تغلف على قلوب الناس، إذا أقبلت قلوبهم على الدنيا فإنها تغلف؛ حتى لا تتأثر بالذكر والأوراد، وتكثر عليها هجمات الشياطين والوساوس والخطرات والخوف والقلق.. وغير ذلك، اليوم ضحكت الدنيا على الناس، الغني والفقير، لم تعد تشغل الأغنياء كما هو المعهود في السابق فقط، بل ألهت جميع الخلق، ضحكت لهم ضحكة الذئب، ولعل كبار السن يعرفون ما هي ضحكة الذئب؟ ضحكة الذئب يضرب بها مثلاً للمخادعة التي ينخدع بها الغر الساذج، الذئب إذا رآه الغر الساذج فاتحاً فاه يظنه يضحك، وهو يريد أن يأكله ويفترسه، والدنيا اليوم فعلاً فغرت فاها للناس، وظن الناس أنها تضحك لهم وهي تقتنصهم، تقتنص دينهم وأخلاقهم وقلوبهم، وتحولهم عن حقيقة العبادة لله عز وجل إلى عبادة الدنيا والشهوات والشبهات كما هو حاصل، وهذا لا بد أن ينعكس على قلوب الناس وعقولهم وأنفسهم وأبدانهم.

ولذلك عرفنا من خلال المختصين بالمستشفيات أنه عندما تحصل أي هزة ببعض أنواع التجارة أو في الأسهم تكثر أحوال الطوارئ والإسعافات، نسأل الله السلامة والعافية، الدنيا كلها ما تساوي صحة مؤمن وحفاظه على صحته، فضلاً عن دينه وأخلاقه.

وليست هذه الظاهرة ظاهرة خفيفة أو جزئية، بل في كل مكان في بلادنا إذا حصلت أي هزة اقتصادية خاصة في الأسهم أعلنت إسعافات الطوارئ، أكتفي بهذا المثال؛ لأن أمامي أموراً كثيرة أحب أن أنبه عليها.

كذلك الملهيات، وهي جزء من ضحكة الدنيا للناس، الملهيات والبهارج.

كذلك الوسائل التي الآن أشغلت الناس، رغم أنها نعمة من الله عز وجل؛ لكن نظراً لأنها لم تشكر واستخدمت على غير وجه شرعي في الغالب أصبحت مدمرة لدين الناس ودنياهم، أصبحت هذه الوسائل بشتى أنواعها مشغلة مهلكة للأعصاب موترة للنفوس.

فمثلاً: كم أحدث علينا الجوال الآن من المشكلات، نعم هو نعمة ويخدمنا، لكن صرنا أسرى الجوال، خدمناه أكثر مما يخدمنا، كنا قبل عشرين سنة ما نحتاج إلى الجوال أبداً، ولا نفكر أن نحتاج إليه، الآن لا يستغني عن الجوال إلا النادر، هذا مثال، كم يأخذ من عقلك ومشاعرك وقلبك وحسك؟ كم يأخذ من وقتك؟ يلهيك عن ذكر الله وشكره، كم بسبب هذا الجوال تنسى الواجبات والضروريات؟ كم تسيء الأدب وأنت لا تشعر؟ هذا كله أثره على القلب وعلى النفس بالغ.

وأيضاً من الأشياء التي تدل على قسوة القلوب واستحواذ الوسائل علينا: أن الجنائز هي أكبر فرصة لموعظة القلوب وترقيقها، وأكبر فرصة لتذكر الموت، وأكبر فرصة لأن يراجع الإنسان نفسه، لكن الآن عندما نتبع الجنازة نذهب إلى المقبرة وتجد مع الناس الجوالات وكأنك في سوق حراج، ضحكات، وبيع وشراء، وتبادل نكات، وأشياء لائقة وأشياء غير لائقة، ألا يؤثر هذا على القلوب، ويجعل الناس يركضون وراء الرقاة ووراء المشعوذين والدجالين يبحثون عن الصحة والعافية؟ هؤلاء ما عرفوا طريق الصحة والعافية.

كذلك الوسائل الأخرى، خذوا حمار الدجال (الشبكة العنكبوتية) وتسمى (الإنترنت)، والفضائيات.

والوسائل الأخرى التي أشغلت الناس وأقلقتهم وجعلتهم يعيشون أسرى للمادة، أسرى لهذه القضايا التي جعلت الإنسان يسمع ما يهز شعوره ووجدانه، في كل لحظة من الأحداث الجسام والفتن وكثرة المزعجات والمثيرات.

تنافر القلوب

أضف إلى هذا تنافر القلوب، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا نتيجة قسوة القلوب.

والتنافر بين الناس اليوم، حتى إنه أصبح سوء الظن، والاحتياط بين الناس، وكلام الناس بعضهم في بعض يكاد يكون هو الأصل، وهذا له أثره على السلوكيات، وعلى إيمان الناس؛ لأن الإنسان إذا كان في قلبه شيء على مؤمن، فإنه غالباً يحرم من كثير من الخير، وإذا سلم قلبه من هذه المؤثرات قبل الخير وبقي على الفطرة والاستقامة، وشعر بالهناء والسعادة.

الصحة والفراغ

من الأسباب: الصحة والفراغ عند الكثيرين، هناك طائفة من المجتمع عندهم مع الصحة فراغ، فإذا ما أشغل وقته بما لا ينفعه في دينه ودنياه، فلا بد أن تهجم عليه الهواجس والخواطر والأوهام والشياطين والجن، ثم لا ننسى ما نتج عن ذلك كله من قلة الورع والخشوع.

عدم الاهتمام بصيانة القلوب وتفقدها

القلوب كالآلات وكغيرها ما تمشي بلا صيانة، وما تمشي بلا وقود، أكثر الناس اليوم غفلوا عن صيانة القلوب ووقودها بذكر الله وشكره وتلاوة القرآن وأعمال الصالحات إلا القليل، فأكثر الناس لا يعطي قلبه وجسمه من العبادات والذكر وأسباب الهناء والسعادة، حتى في العبادة نجد أن قلوب الأغلب مع الدنيا، والدليل على هذا الصلاة، والصلاة أكبر مقياس لصلاح القلوب؛ لأن كثيراً من الأمور بين العباد وبين ربهم لا نعلمها، ولا نستطيع أن نتتبع سلوكيات الناس حتى الظاهرة، لكن الصلاة علانية، فكم نسبة الذين يصلون والذين لا يصلون؟ وكم نسبة الذين يدركون الركعة الأولى؟ في أغلب المساجد الأغلبية تقضي بعد سلام الإمام، هذا دليل على أن الناس لا تعطي العبادات إلا مساحة قليلة من الوقت بالدقيقة والثانية، ولو أن الإمام تقدم دقيقة صاحوا عليه؛ لأنهم ما يعطون العبادة إلا جزءاً يسيراً جداً محدوداً بالدقائق، هذا أيضاً فارق كبير، يعني: قبل ثلاثين أو عشرين سنة كنا نعهد أنه في أغلب المساجد بعد الأذان مباشرة إذا كان المسجد مثلاً يتكون من أربعة صفوف أو خمسة تجد الصف الأول مكتملاً، كذلك يوم الجمعة إذا كان المسجد فيه عشرة صفوف تجد ثلاثة صفوف مكتملة الساعة التاسعة صباحاً، الآن تعال الساعة الحادية عشرة وانظر من في المسجد ستجد أربعة، خمسة، عشرة، عشرين، وإذا أحسنا الظن صفاً، لا شك أن هذا سينعكس على القلوب والنفوس.

قلة التحصن بالأوراد الشرعية

من الأسباب: قلة التحصن بالأوراد الشرعية، أكثر الناس حتى لو قرأ الورد أو صلى أو تحصن بالأدعية تجد أنه يدعو وقلبه لاه؛ ولذلك كثير من الناس يقول: أنا والله اليوم صليت الفجر، والله عز وجل تكفل بحفظ من صلى الفجر في جماعة إلى أن يمسي، أنا اليوم قرأت الأوراد، وأنا أعرف أن الورد -خاصة قراءة المعوذتين- من أسباب حفظ الإنسان، لكني أجد أنه حصل لي كذا وعندي غفلة وعندي قسوة قلب، نقول: لأنك دعوت وقلبك ليس مع ربك، الإنسان ينبغي أن يستحضر في جميع أمور دينه معنى الإحسان الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل الثالث من أصول الإسلام، وهو المرتبة الثالثة من مراتب الدين بعد الإيمان والإسلام، والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

والإنسان إذا فقد هذه الخاصية لا يستفيد من دعائه ولا من ورده، يصبح دعاء أجوف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل الله دعاء من قلب لاه أو قلب ساه.

ثم أيضاً: قلة التعلق بالأسباب الشرعية التي تحفظ الإنسان، تحفظه من أن يلجأ إلى الرقية أو غير الرقية.

كثرة الشبهات والشهوات

من الأسباب: كثرة الشبهات والشهوات التي وردت على الناس، وأكثر ما ذكرته يدخل في هذين الأمرين.

هذا كله جعل الملائكة تبتعد والشياطين تسيطر على كثير من أحوال الناس اليوم، حتى نكاد ننفر الملائكة من المساجد.

فمثلاً: لو قيل لكم قبل عشرين سنة أو قبل خمسة عشرة سنة: سيأتي يوم من الأيام تسمعون المزامير والأجراس والموسيقى والطرب في المساجد، أي واحد منكم سيقول: أعوذ بالله، أسأل الله ألا يلحقني ذلك الوقت، فها نحن اليوم كم نسمع من الجوالات الآن على الأنغام، كلها أعوذ بالله تجلب الشياطين وتطرد الملائكة من المساجد فضلاً عن البيوت.

هذه الظاهرة في مثل هذا المسجد ومساجد المدن الكبيرة نوعاً ما خفيفة، لكن أنا كثيراً ما أزور بعض الأرياف والمدن الصغيرة، ففي بعض المساجد لا يفتر الجوال من أول الصلاة إلى أن ننتهي، ولو أقسمت على ذلك ما أظني أكون مبالغاً؛ لأنه أمر شهدته.

قبل ثلاثة أسابيع كنت في إحدى المدن الصغيرة القريبة من الرياض، فمنذ أن صف الإمام لصلاة المغرب إلى أن انتهى من الصلاة وكذلك صلاة العشاء ما فتر الجوال من أنواع الموسيقى والأجراس والأنغام.

إذاً: لماذا نستغرب كثرة الأمراض النفسية، والأحوال التي تلجئ الناس إلى البحث عن كل ما يمكن أن يتشبثوا به لعلاج ما يجدونه؟ هذه أسباب معلومة.

فهذه الأمور تستدعي بعد كثير من الناس عن مواطن الخير، وأن تستحوذ عليها الشياطين ومردة الجن، بل وحتى صالح الجن الذين فيهم شيء من الفسق عندهم نوع من العبث ببني آدم؛ لأن طبيعة الجني أضعف من الإنسي، فإذا وجد على الإنسي منفذاً فإنه يعبث به.

أعظم الأسباب: أمراض القلوب، وهي سبب للمرض النفسي والاختلال العقلي عند كثير من الناس، وسبب أيضاً لكثير من الأمراض العضوية، فضلاً عن الأمراض القلبية والنفسية.

وجماع ذلك: الإعراض عن ذكر الله، يقول الله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124] هذا في الدنيا، والمعيشة الضنك تبدأ من القلق الذي يبدأ في قلب الإنسان ونفسه والأمراض النفسية، ثم ما ينشأ عنه أو عن غيره من بعض الأمراض العضوية كذلك، فهو نوع من المعيشة الضنك، القلق.. الاضطراب.. الوساوس.. وغير ذلك مما هو كثير اليوم.

من الأسباب: كثرة المعاصي والشرور والملاهي، وكذلك بهارج الدنيا، الدنيا تغلف على قلوب الناس، إذا أقبلت قلوبهم على الدنيا فإنها تغلف؛ حتى لا تتأثر بالذكر والأوراد، وتكثر عليها هجمات الشياطين والوساوس والخطرات والخوف والقلق.. وغير ذلك، اليوم ضحكت الدنيا على الناس، الغني والفقير، لم تعد تشغل الأغنياء كما هو المعهود في السابق فقط، بل ألهت جميع الخلق، ضحكت لهم ضحكة الذئب، ولعل كبار السن يعرفون ما هي ضحكة الذئب؟ ضحكة الذئب يضرب بها مثلاً للمخادعة التي ينخدع بها الغر الساذج، الذئب إذا رآه الغر الساذج فاتحاً فاه يظنه يضحك، وهو يريد أن يأكله ويفترسه، والدنيا اليوم فعلاً فغرت فاها للناس، وظن الناس أنها تضحك لهم وهي تقتنصهم، تقتنص دينهم وأخلاقهم وقلوبهم، وتحولهم عن حقيقة العبادة لله عز وجل إلى عبادة الدنيا والشهوات والشبهات كما هو حاصل، وهذا لا بد أن ينعكس على قلوب الناس وعقولهم وأنفسهم وأبدانهم.

ولذلك عرفنا من خلال المختصين بالمستشفيات أنه عندما تحصل أي هزة ببعض أنواع التجارة أو في الأسهم تكثر أحوال الطوارئ والإسعافات، نسأل الله السلامة والعافية، الدنيا كلها ما تساوي صحة مؤمن وحفاظه على صحته، فضلاً عن دينه وأخلاقه.

وليست هذه الظاهرة ظاهرة خفيفة أو جزئية، بل في كل مكان في بلادنا إذا حصلت أي هزة اقتصادية خاصة في الأسهم أعلنت إسعافات الطوارئ، أكتفي بهذا المثال؛ لأن أمامي أموراً كثيرة أحب أن أنبه عليها.

كذلك الملهيات، وهي جزء من ضحكة الدنيا للناس، الملهيات والبهارج.

كذلك الوسائل التي الآن أشغلت الناس، رغم أنها نعمة من الله عز وجل؛ لكن نظراً لأنها لم تشكر واستخدمت على غير وجه شرعي في الغالب أصبحت مدمرة لدين الناس ودنياهم، أصبحت هذه الوسائل بشتى أنواعها مشغلة مهلكة للأعصاب موترة للنفوس.

فمثلاً: كم أحدث علينا الجوال الآن من المشكلات، نعم هو نعمة ويخدمنا، لكن صرنا أسرى الجوال، خدمناه أكثر مما يخدمنا، كنا قبل عشرين سنة ما نحتاج إلى الجوال أبداً، ولا نفكر أن نحتاج إليه، الآن لا يستغني عن الجوال إلا النادر، هذا مثال، كم يأخذ من عقلك ومشاعرك وقلبك وحسك؟ كم يأخذ من وقتك؟ يلهيك عن ذكر الله وشكره، كم بسبب هذا الجوال تنسى الواجبات والضروريات؟ كم تسيء الأدب وأنت لا تشعر؟ هذا كله أثره على القلب وعلى النفس بالغ.

وأيضاً من الأشياء التي تدل على قسوة القلوب واستحواذ الوسائل علينا: أن الجنائز هي أكبر فرصة لموعظة القلوب وترقيقها، وأكبر فرصة لتذكر الموت، وأكبر فرصة لأن يراجع الإنسان نفسه، لكن الآن عندما نتبع الجنازة نذهب إلى المقبرة وتجد مع الناس الجوالات وكأنك في سوق حراج، ضحكات، وبيع وشراء، وتبادل نكات، وأشياء لائقة وأشياء غير لائقة، ألا يؤثر هذا على القلوب، ويجعل الناس يركضون وراء الرقاة ووراء المشعوذين والدجالين يبحثون عن الصحة والعافية؟ هؤلاء ما عرفوا طريق الصحة والعافية.

كذلك الوسائل الأخرى، خذوا حمار الدجال (الشبكة العنكبوتية) وتسمى (الإنترنت)، والفضائيات.

والوسائل الأخرى التي أشغلت الناس وأقلقتهم وجعلتهم يعيشون أسرى للمادة، أسرى لهذه القضايا التي جعلت الإنسان يسمع ما يهز شعوره ووجدانه، في كل لحظة من الأحداث الجسام والفتن وكثرة المزعجات والمثيرات.

أضف إلى هذا تنافر القلوب، نسأل الله السلامة والعافية، وهذا نتيجة قسوة القلوب.

والتنافر بين الناس اليوم، حتى إنه أصبح سوء الظن، والاحتياط بين الناس، وكلام الناس بعضهم في بعض يكاد يكون هو الأصل، وهذا له أثره على السلوكيات، وعلى إيمان الناس؛ لأن الإنسان إذا كان في قلبه شيء على مؤمن، فإنه غالباً يحرم من كثير من الخير، وإذا سلم قلبه من هذه المؤثرات قبل الخير وبقي على الفطرة والاستقامة، وشعر بالهناء والسعادة.

من الأسباب: الصحة والفراغ عند الكثيرين، هناك طائفة من المجتمع عندهم مع الصحة فراغ، فإذا ما أشغل وقته بما لا ينفعه في دينه ودنياه، فلا بد أن تهجم عليه الهواجس والخواطر والأوهام والشياطين والجن، ثم لا ننسى ما نتج عن ذلك كله من قلة الورع والخشوع.

القلوب كالآلات وكغيرها ما تمشي بلا صيانة، وما تمشي بلا وقود، أكثر الناس اليوم غفلوا عن صيانة القلوب ووقودها بذكر الله وشكره وتلاوة القرآن وأعمال الصالحات إلا القليل، فأكثر الناس لا يعطي قلبه وجسمه من العبادات والذكر وأسباب الهناء والسعادة، حتى في العبادة نجد أن قلوب الأغلب مع الدنيا، والدليل على هذا الصلاة، والصلاة أكبر مقياس لصلاح القلوب؛ لأن كثيراً من الأمور بين العباد وبين ربهم لا نعلمها، ولا نستطيع أن نتتبع سلوكيات الناس حتى الظاهرة، لكن الصلاة علانية، فكم نسبة الذين يصلون والذين لا يصلون؟ وكم نسبة الذين يدركون الركعة الأولى؟ في أغلب المساجد الأغلبية تقضي بعد سلام الإمام، هذا دليل على أن الناس لا تعطي العبادات إلا مساحة قليلة من الوقت بالدقيقة والثانية، ولو أن الإمام تقدم دقيقة صاحوا عليه؛ لأنهم ما يعطون العبادة إلا جزءاً يسيراً جداً محدوداً بالدقائق، هذا أيضاً فارق كبير، يعني: قبل ثلاثين أو عشرين سنة كنا نعهد أنه في أغلب المساجد بعد الأذان مباشرة إذا كان المسجد مثلاً يتكون من أربعة صفوف أو خمسة تجد الصف الأول مكتملاً، كذلك يوم الجمعة إذا كان المسجد فيه عشرة صفوف تجد ثلاثة صفوف مكتملة الساعة التاسعة صباحاً، الآن تعال الساعة الحادية عشرة وانظر من في المسجد ستجد أربعة، خمسة، عشرة، عشرين، وإذا أحسنا الظن صفاً، لا شك أن هذا سينعكس على القلوب والنفوس.

من الأسباب: قلة التحصن بالأوراد الشرعية، أكثر الناس حتى لو قرأ الورد أو صلى أو تحصن بالأدعية تجد أنه يدعو وقلبه لاه؛ ولذلك كثير من الناس يقول: أنا والله اليوم صليت الفجر، والله عز وجل تكفل بحفظ من صلى الفجر في جماعة إلى أن يمسي، أنا اليوم قرأت الأوراد، وأنا أعرف أن الورد -خاصة قراءة المعوذتين- من أسباب حفظ الإنسان، لكني أجد أنه حصل لي كذا وعندي غفلة وعندي قسوة قلب، نقول: لأنك دعوت وقلبك ليس مع ربك، الإنسان ينبغي أن يستحضر في جميع أمور دينه معنى الإحسان الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل الثالث من أصول الإسلام، وهو المرتبة الثالثة من مراتب الدين بعد الإيمان والإسلام، والإحسان: هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

والإنسان إذا فقد هذه الخاصية لا يستفيد من دعائه ولا من ورده، يصبح دعاء أجوف، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقبل الله دعاء من قلب لاه أو قلب ساه.

ثم أيضاً: قلة التعلق بالأسباب الشرعية التي تحفظ الإنسان، تحفظه من أن يلجأ إلى الرقية أو غير الرقية.




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
المعيار في معرفة المتشبهين بالكفار 3327 استماع
أحكام الأعياد 3184 استماع
توجيهات في طريق الصحوة 3030 استماع
مسلمات في العقيدة 3018 استماع
حقيقة التدين 2991 استماع
علامات الساعة وقيامها 2905 استماع
الوسواس أسبابه وعلاجه 2785 استماع
منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالفين 2719 استماع
مصير الانسان 2492 استماع
مفتريات حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2471 استماع