حقيقة التدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، ورضي عن صحابته أجمعين.

أما بعد:

فإن كل دعوى لابد لها من حقيقة، وأعظم الحقائق هي حقيقة الدين.

والدين والتدين أوصاف يتمنى كل مسلم أن يتصف بها، بل ربما يدعيها كثير من المسلمين، وقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وقد لا تكون، ولابد من وزن كل دعوى بموازينها الشرعية والعقلية.

ودعوى التدين دعوى كبيرة لابد لها من حقيقة، وهذا ما سنقف عنده بعض الوقفات بقدر ما يتسع له الوقت.

أولاً: ما هو التدين بمعناه اللغوي والاصطلاحي؟

التدين: مأخوذ من الدين، والدين: هو التسليم والطاعة والتذلل والخضوع والعبودية، وعلى هذا فإن التدين -تدين المسلم- بمعناه الاصطلاحي يتمثل أولاً بالتسليم لله عز وجل، والتذلل له سبحانه، والخضوع والطاعة والامتثال، وجماع ذلك كله: العبودية لله سبحانه.

ولذلك سمي الإسلام بهذا الاسم من هذا المعنى، فالإسلام معناه: التسليم، وهو: الاستسلام لله عز وجل بالعبودية والطاعة، الاستسلام المطلق.

والاستسلام -أي: استسلام التدين- لابد أن يشمل استسلام القلب واستسلام الجوارح، وخضوع القلب وخضوع الجوارح، ولو تأملنا حال المسلمين اليوم ثم قارناها بحال المسلمين في القرون الثلاثة لانكشفت لنا الكثير من الحقائق المتعلقة بدعوى التدين.

أثر عن الحسن البصري رحمه الله حكمة صائبة قال فيها: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال.

وعلى هذا تستجلى حقيقة التدين من إظهار علامات التدين على القلب أولاً، أي: الأعمال القلبية، التي سيأتي الإشارة إلى شيء منها، ثم على الجوارح التي هي الأعمال الظاهرة، والتي تتمثل بأعمال المسلم الظاهرة تجاه أركان الدين وواجباته والأخلاق.. ونحو ذلك.

ثم ما يستلزم ذلك أيضاً من منهج التعامل، تعامل الإنسان أولاً مع ربه عز وجل، وتعامله مع الحقائق الشرعية، وتعامله مع أصول الإسلام، ومدى امتثاله لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مدى تحقيقه لمعنى الإسلام، ومدى تعلقه بهذا الدين.

أوجز النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة التدين بوصيته لأحد الصحابة لما سأله فقال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وهذه كلمات جامعات جمعت الدين كله في كلمتين:

(قل: آمنت بالله)، يعني: حقق الإيمان في قلبك.

(ثم استقم)، في أعمالك.. في عبادتك.. في أخلاقك.. في تعاملك مع الحياة.. مع الناس.

والإيمان بالله لا يكون إلا بمقتضى العقيدة الصحيحة، وهذا لا شك فيه، وإلا كل يدعي الإيمان بالله.

والاستقامة على دين الله لا تكون إلا بمقتضى العمل بشرع الله، وبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحتى الإيمان بالله والاستقامة هي دعوى، لكن لها شروط وضوابط وحقيقة، وعلى هذا فإن التدين أمر لابد أن يحكم حياة المسلم كلها، في قلبه وروحه ونفسه وعواطفه ومشاعره وأعماله ومواقفه، كل هذه الأمور لابد أن يتحقق فيها معنى التدين.

أو أول حقيقة في بلوغ المراد الشرعي بالتدين: هي صلاح القلب، وصلاح القلب يكون أولاً بتعظيم الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله.

فإذا أراد المسلم أن يختبر نفسه، أو يستجلي حقيقة تعلق قلبه بالله عز وجل فلينظر في حاله إذا قرأ القرآن وسمعه، ثم مرت عليه أسماء الله عز وجل، فهل يجد في نفسه تأثراً بمعاني أسماء الله؟ وهل يجد في استعراضه لأسماء الله عز وجل والتفكر فيها وتمعن معانيها أثراً في قلبه بزيادة تعظيم الله ومحبته ورجائه وخوفه وتقواه؟

وكل أسماء الله عز وجل لابد أن تغرس هذه المعاني، فإن وجد أثراً طيباً في ذلك فليحمد الله، وليعلم أنه بدأ طريق الاستقامة، وإن أحس بالغفلة وعدم التأثر بمعاني أسماء الله عز وجل؛ فليفتش عن حاله.

أركان العبادة المتعلقة بالقلب

ينبغي أن يختبر المسلم قلبه بمدى تحقق أركان العبادة في قلبه، فالعبادة في القلب لابد أن تقوم على ثلاثة أركان:

الركن الأول: محبة الله عز وجل محبة تعظيم وتقديس، بأن يمتلئ قلب المسلم بمحبة الله.

الركن الثاني: خشية الله عز وجل والخوف منه.

الركن الثالث: تعلق القلب برجاء رحمة الله وعفوه في الدنيا والآخرة.

فإذا امتلأ القلب بهذه المعاني أو شعر بها فلابد أن تثمر أموراً كثيرة: من تقوى الله ورقابته والإنابة إليه والتوكل عليه، والتعلق به سبحانه في كل الأمور، بحيث يحب المسلم ما يحبه الله، ويحب من يحبهم الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويبغض من يبغضهم الله.

تحقيق التدين عند العبد بصلاح القلب ومظاهر ذلك

لابد أن يتحقق معنى التدين في صلاح القلب بالتذلل لله سبحانه، التذلل القدري والشرعي، بأن يخضع لقدر الله عز وجل، ويؤمن بقدر الله، ويصبر على قضاء الله.

وكذلك التذلل بالاستعداد والتسليم للعمل بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه.

وكذلك لابد أن يشعر المسلم إذا تحقق التدين في قلبه بالإذعان لشرع الله: أنه يستلزم ذلك فعل ما أمر الله به، كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ [آل عمران:31]، ومما يستلزم صلاح القلب: اتباع ما أمر الله به واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع يبدأ بالمحبة، بأن يحب المسلم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين، ولتثمر هذه المحبة الاستعداد لقبول ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، فيستعد المسلم لتوقير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ثم اتباع سنته والاهتداء بهديه، وحب ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحب من يحبه، وبغض ما يبغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبغض من يبغضه.

كذلك تتجلى حقيقة التدين من حيث صلاح القلب: في الرقابة لله عز وجل، والذي ينتج عنها تقوى الله، فمن راقب الله اتقاه، وهذه من معاني الإحسان التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، حينما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، بهذا الاستشعار تتحقق الرقابة لله عز وجل في قلب المؤمن وعقله ومشاعره وروحه وعواطفه، فإذا تحققت الرقابة لله عز وجل فإن المسلم لابد أن يتقي الله، وهذه نتيجة طبيعية، بل نتيجة حتمية، فكل من راقب الله واتقاه فلابد أن يقوم بما أوجب الله عليه، وأن ينتهي عما نهى الله عنه.

والمسلم إذا استشعر أن الله يراقبه على معنى حقيقي وصحيح وسليم، فإنه لا يمكن أن يقع فيما يخل بحقيقة التدين.

مثال ذلك ولله المثل الأعلى: الإنسان إذا شعر برقابة غيره له من البشر فتصوروا ما يفعله من التصنع والتكلف والمجاملة والمداراة.. إلى آخره؛ لأنه يشعر برقابة بشر.. برقابة إنسان لا يملك نفعه ولا ضره إلا بإذن الله، ولله المثل الأعلى، فكيف بمن يستشعر رقابة الله؟

ولذلك فإن حقيقة صلاح القلب إنما تتمثل بهذا المعنى، بالرقابة لله عز وجل؛ لأنه إذا امتلأ قلب المسلم بمحبة الله ورجائه وخشيته والإنابة إليه، إذا استشعر معاني صفات الله وأسمائه وأفعاله، إذا استشعر ما يجب لله عز وجل من التعظيم، فإنه لابد أن يجد أثر ذلك في قلبه وسلوكه، تتحقق التقوى التي أبرز معانيها: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية؛ باتباع ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.

ثم لابد أن ينتج عن هذا الأمر أمر آخر تتجلى فيه أيضاً حقيقة من حقائق التدين: وهو التعبد لله عز وجل بما شرع، فالإنسان إذا خضع قلبه لله عز وجل، وإذا استكانت جوارحه وعواطفه وعقله وروحه لله عز وجل، فلا بد أن يتمثل ذلك بتحقيق العبادة، فإذا كانت العبادة على منهج سليم، على ما شرع الله وسن رسوله صلى الله عليه وسلم تحقق التدين في جانب العبادة لله، وذلك بامتثال ما شرعه الله بامتثال الفرائض والواجبات، والتقرب إلى الله عز وجل بما يحبه من الأعمال القلبية والعملية، والابتعاد عما يبغضه الله من الأعمال والأقوال القلبية والعملية.

كما تتجلى حقيقة التدين بعد إقامة الفرائض وإقامة الواجبات في عمل السنن والنوافل، فالأعمال الصالحة يجر بعضها إلى بعض، والحسنات تدعو إلى الحسنات، فإذا وفق الإنسان وقبلت منه الحسنة فلابد -بإذن الله- أن يهتدي بها إلى الحسنة الأخرى، فمن أقام الفرائض على وجهها، وأدى الواجبات على وجهها فلابد أن يثمر ذلك في ظهور مظهر آخر من التدين، لا يتذوقه إلا من كان على هذا الطريق، وهو التقرب إلى الله بالنوافل، كما جاء في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه).

وهذه المعاني العظيمة تتحقق إذا تدين المسلم لله عز وجل بالنوافل، ولكن لا يعقل أن يتدين بالنوافل ويقبل منه ذلك إلا إذا قام بالفرائض والواجبات، وهذا من جوامع الكلم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه اختصر الكلام، فبدل أن يقول: (تقرب بالواجبات والفرائض) قال: (بالنوافل)؛ لأنه لا يعقل أن الإنسان يتقرب بالنوافل على وجه شرعي صحيح مقبول عند الله إلا وقد وفى بالأركان والواجبات والفرائض، ولو عمل بالنوافل دون الفرائض ما نفعه ذلك.

إذاً: تتجلى حقيقة التدين كذلك بالتعبد لله عز وجل، والتعبد لابد أن يكون على ما شرعه الله عز وجل، فكثير من عباد الأمم وأصحاب الديانات الباطلة قديماً وحديثاً يتعبون وينصبون في التعبد، لكنهم على غير شرع صحيح، فهؤلاء من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، نسأل الله العافية؛ لأنهم تعبدوا لله على غير ما شرع.

إذاً: لابد من توفر عنصرين:

الأول: خضوع القلب والجوارح، وسلوك طريق العبادة لله عز وجل الظاهرة والباطنة، ويكون ذلك على ما شرع الله وسن رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تتمثل حقيقة التعبد التي هي من علامات التدين الحقيقي.

الثاني -ويعتبر من ثمرات التدين الشرعية التي لابد منها-: إذا خضع قلب الإنسان لله وصلح فلابد أن تصلح أعماله، وإذا صلح قلبه صلحت عبادته، وإذا صلحت عبادته فلابد أن تصلح بقية أعماله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حقيقة القلب، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وصلاح القلب المراد به الصلاح المادي والمعنوي، وإن كان ظاهر الحديث أنه يقصد به المعنوي، فإذا صلح القلب بالإيمان والتقوى والإنابة، إذا امتلاء القلب بالمعاني الإيمانية سعدت الروح، واطمأنت النفس، فاتجه المسلم إلى ما يرضي الله، وابتعد عما يسخط الله.

ثم لابد أن ينتج عن ذلك صلاح الأعمال، حتى في غير العبادات، لابد أن يظهر أثر التدين على أفعال الإنسان، وأولها: الصلاة، وسنفرد للخشوع فقرة مستقلة تأتي بعد قليل إن شاء الله.

ومن حقيقة التدين: أن يظهر أثر التدين على أفعال الإنسان الظاهرة كما يظهر على أعماله القلبية، فأعماله القلبية قد لا تتجلى حقيقتها غالباً؛ لأنها أمور غيبية لا يعلمها إلا الله عز وجل، فأمور القلب وما فيه أمور بين العبد وربه عز وجل لا يعلمها إلا هو، لكن أعمال الإنسان اللسانية والقولية والفعلية في عباداته ومعاملاته وتعامله مع الآخرين هي المحك والاختبار.

الخشوع

أول مظاهر التدين في الحقيقة: الخشوع.

والخشوع: هو استكانة القلب والجوارح لله عز وجل، استكانة تظهر آثارها على حركات الإنسان وتصرفاته وأفعاله، ويتجلى هذا بأمور ظاهرة:

أولها: بالقرآن الكريم، فإذا أردت أن تختبر قلبك ومدى خشوعك فانظر مدى تأثر قلبك بآيات الله المقروءة، فالقرآن هو كلام الله الذي لو أنزل على جبل لتصدَّع من خشية الله، هذا القرآن كلام الله الذي فيه الأوامر والنواهي والمواعظ والعبر والقصص، وفيه الوعد والوعيد، فإذا شعر المسلم عندما يسمع آيات القرآن بالخشوع والتأثر فليبشر بخير، وليعلم أنه تحقق فيه معنى من معاني التدين.

ثم الخشوع في الصلاة، وهو اختبار حقيقي جلي، فمن أبرز آثار الأعمال القلبية: الخشوع، ومن أبرز مظاهر الخشوع بعد التأثر بكلام الله: الخشوع في الصلاة؛ ولذلك نجد في النصوص في القرآن والسنة أنه وصف عمل الصلاة بالإقامة، وأن تقيم الصلاة: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [المائدة:55]، لا إلى الأداء؛ لأن الأداء يستوي فيه المؤمن والمنافق، وكل يؤدي الصلاة، لكن لا يقيم الصلاة إلا من تحقق فيه معنى التدين.

وأول مظاهر إقامة الصلاة: الخشوع فيها.

والصلاة الخاشعة أيضاً لابد أن تثمر؛ لأنها لا بد أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، ونجد معاني هذا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمه لقدر الصلاة، وفي أثر الصلاة في نفسه وروحه وقلبه ومشاعره وعواطفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة قرة عين، كما ورد في الحديث الصحيح: (حبب إلي من دنياكم الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وقرة العين هي منتهى السعادة، والأم إذا أرادت أن تصف حبها لابنها لا تجد أفضل من كلمة: يا قرة عيني! لأنها في منتهى السعادة والحبور والمحبة لابنها.

كذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما استشعر معنى الصلاة وخشع في الصلاة قرت عينه، وشعر بأمن القلب وسعادة النفس وطمأنينة الروح وهدوء الجوارح، وزوال التعب والنصب الجسدي والقلبي؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال !) لا كما يكون من كثير من حالنا نسأل الله أن يعفو عنا، وكثير من حال الذين يقصرون في الصلاة حيث تجد الواحد يتململ ويتذمر من أداء الصلاة؛ حتى يعطيها أقل وقت ممكن، وينتظر وقت الإقامة، ثم يأتي ساعياً إلى المسجد، فإذا سلم ربما يسبح أو لا يسبح، ثم يمشي.

ولو شعر ببعض قرة العين في الصلاة، وببعض السعادة والأمن والطمأنينة التي تكون للمصلي الذي يقيم الصلاة على وقتها لبكر، وربما جاء إلى المسجد قبل الأذان.

إذاً: من مظاهر وحقيقة التدين وعلاماتها: الخشوع في الصلاة، ومما يعين على الخشوع: أن يقدم المسلم مقدمات للخشوع، وذلك بالاستعداد للصلاة استعداداً يحتسبه عند الله عز وجل، ويأتي بنية جازمة صادقة إلى المسجد مبكراً، وعلى الأقل إذا سمع الأذان وسمع (حي على الصلاة).. (حي على الفلاح)؛ انشرحت نفسه واستعد للإقبال على بيت الله أو على المسجد أو على الصلاة، ثم توضأ الوضوء الذي يكون على السنة، ومشى إلى المسجد محتسباً خطواته، ثم دخل المسجد وسلم، ثم كبر واستشعر أثناء تكبيرة الإحرام بأنه رفع الحجاب بينه وبين ربه، ثم حقق المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان: بأن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.

إذا استشعر هذا المعنى في صلاته ارتفع الحجاب بينه وبين ربه، واستشعر أنه يرى ربه، ثم بدأ بصلاته على هذا النحو: إذا قال: الله أكبر، استشعر عظمة الله عز وجل، وأن الله أكبر من كل شيء، وأنه جاء ليقدم عبادة يحتسبها أمام الله عز وجل، ثم شرع في التسمية، وشرع بقراءة الفاتحة مستشعراً معانيها، مستشعراً معنى: (الحمد لله)، ومعنى: (رب العالمين)، واستشعر معنى الاستعانة بالله ومعنى عبادة الله، واستشعر الدعاء الذي يدعوه في الفاتحة وما بعد الفاتحة، إذا استشعر هذه المعاني في الصلاة خشعت جوارحه، ولذلك لا يتصور من إنسان على هذا الوضع في الصلاة أن يأتي بحركات أخرى، فلابد أن تسكن جوارحه، كما قال أحد الصحابة لما رأى إنساناً يعبث بيده وثيابه: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

إذاً: بهذا المعنى وبهذه الصورة تتجلى حقيقة من حقائق التدين، فالخشوع يكون في جميع ما يتعرض له المسلم من آيات الله ونعمه وآلائه، فيخشع عندما يرى العبر، وعندما يرى المواعظ، يخشع لله.. ويستكين لله فيسكن قلبه وتهدأ جوارحه، وتطمئن نفسه وتسعد روحه، ويشعر بالأمن الذي وعد الله به المؤمنين، والأمن يشمل أمن الدنيا وأمن الآخرة، وأول أمن: أمن القلب، فالإنسان إذا لم يأمن قلبه وإذا لم يأنس قلبه بالله عز وجل استوحش، ولو توافرت له جميع الأسباب المادية، وإذا أنس بالله وأمن قلبه بالله أمن، ولو توافرت عنده أكثر المخاطر ما دام متوكلاً على الله باذلاً الأسباب.

الورع

كذلك من مظاهر التدين: الورع، والورع ثمرة طبيعية لتحقيق العبودية لله عز وجل، ولتحقيق صلاح القلب والتعبد لله والخشوع، والمسلم إذا عبد الله على ما شرع الله.. وإذا عظم الله عز وجل في قلبه وجوارحه وعواطفه. وإذا ظهر أثر ذلك في خشوعه فلا بد أن ينتج عن ذلك الورع، فالورع معنى عظيم يجهله كثير من الناس.

وأول الورع: الورع عما حرم الله، وليس أمام الخلق فقط، بل أولاً أمام الخالق عز وجل، فيجب أن يتورع المسلم من أن يقع فيما ينهى الله عنه، وأن يجد في قلبه واعظاً ورادعاً يردعه عما يغضب الله.

ثم لابد أن ينتج عن هذا الورع ورع آخر: وهو الورع في حقوق الخلق، الورع في سائر ما يتناوله المسلم في حياته، فيتورع في مأكله، ويتورع في مشربه، ويتورع في دخله، ويتورع في حقوق الخلق، ويتورع عن الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق، وكثير من الناس يفقد حقيقة الورع وإن تدين ظاهراً؛ لأن الفارق بين التدين الحقيقي والتدين العاطفي، أو من أكبر الفوارق وأظهرها بين التدين العاطفي الذي لا يوزن بميزان الشرع وبين التدين الحقيقي: الورع.

ولهذا أمثلة من مسالك الذين سلكوا التدين بغير ورع فيها العبرة، ولنأخذ أبرز مثال:

تدين الخوارج الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يخرجون في أكثر من زمان، أخبر عن الخوارج الأولين، وأخبر عن خوارج يخرجون في آخر الزمان، جاء في حديث البخاري : (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية)، يعني: ظاهرهم قول الدين، والغيرة على الدين.

ولكنهم لا يتورعون عما حرم الله، بل لا يتورعون عن أعظم المحرمات في حقوق الخلق وهي الدماء، فأعظم المحرمات في حقوق الخلق هي الدماء، ومع ذلك هم متدينون، بل وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنا نحقر صلاتنا عند صلاتهم وصيامنا عند صيامهم، وقد وصفهم بعض الصحابة الذين جاءوهم في معسكراتهم بأن لهم دوياً كدوي النحل، مصفرة وجوههم، ناحلة أجسامهم من القيام بالليل، أُسوْد في القتال، لكن تدينهم غير حقيقي، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ لأن تدينهم عواطف جياشة، تفجر الطاقات، والواحد منهم لو لم يضبط هذه العاطفة لربما فجر نفسه، كما يحصل من بعض المتأخرين.

فعندهم عواطف جياشة، لكنها على غير هدى، وليس هذا هو التدين الذي أمر الله به، ومن هنا أحب أن أنبه على ظاهرة ظهرت في الآونة الأخيرة عند بعض الشباب، وإن كانوا قليلاً والحمد لله، لكن معظم النار من مستصغر الشرر، وهي تتعلق بحقيقة التدين، وهي أنهم تدينوا تديناً عاطفياً غير منضبط بالضوابط الشرعية، ولا بمنهج الرشد وأهل الرشد العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وغير منضبط بمناهج العقلاء، فأدى بهم هذا التدين غير المنضبط إلى سلوك مسالك الغلو، فوقعوا في مصيدة المخالفين، ثم اتهام المخالفين لهم من العلماء وأهل الخير والصلاح والاستقامة -فضلاً عن غيرهم- بتهم تصل إلى حد التكفير، ثم أدى ذلك نتيجة التدين العاطفي غير الراشد إلى سلوك مسالك استحلت فيها الدماء، والفساد في الأرض بدعوى الغيرة على الدين وبدعوى الجهاد، وهذا يتنافى مع الورع؛ فالدين جاء بحفظ الضرورات الخمس:

حفظ الدين، وحقيقة التدين: أن يحرص المسلم على حفظ الدين في نفسه وفي الأمة وفي البشرية جميعاً.

ثم حفظ النفس، فاحفظ نفسك ونفس غيرك.

وحفظ العقل.

وحفظ العرض.

وحفظ المال.

هذه تسمى ضرورات عند جميع العقلاء، وحفظها حقيقة التدين، فحقيقة التدين تتجلى في هذا الأمر، ولا مانع أن نطيل في هذه الظاهرة؛ لأنها ظاهرة ظهرت آثارها فينا وسببت شق الصفوف والتغرير ببعض شبابنا المتدين، وظهرت لها آثار في أمننا وفي جميع أمورنا، فلابد من الوقوف عندها قليلاً.

وحقيقة التدين تتجلى أولاً بالاستقامة على العقيدة، ثم بسلوك سبيل المؤمنين الذين توعد الله من خالفهم، كما قال عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115]، وسبيل المؤمنين هو سبيل السلف الصالح، ومن سار على نهجهم إلى قيام الساعة، وسبيل المؤمنين إنما يمثله العلماء أهل الحل والعقد إلى يوم القيامة، وإذا لم نقل بهذه الحقيقة ضاعت الأمور، وإلا لماذا أرشدنا الله عز وجل إلى أهل الذكر، ولماذا أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عن العلماء وقال: (العلماء هم ورثة الأنبياء).

إذاً: فحقيقة التدين تتمثل بسلوك سبيل المؤمنين الذي يمثله العلماء، والعلماء قد يشك فيهم بعض من عنده شبهات، لكن مع ذلك يبقى من الثوابت الشرعية والعقلية أن العلماء هم رأس الأمة دائماً، وهم الذين حفظ الله بهم الدين، وهم رأس الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم)، فإذا لم يكونوا ظاهرين بالعلماء فهل يعقل أن يكون ظهورهم بأن يقودهم السفهاء وقليلو العلم؟ هذا لا يمكن، وهذا لا يستقيم مع حفظ الدين والتكفل ببقائه إلى قيام الساعة، فالعلماء هم قادة الأمة وهم مرشدوها.

إذاً: من حقيقة التدين: سلوك سبيل المؤمنين.

ومن حقيقة التدين: الحفاظ على مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، فالبلد الذي يعيش آمناً لا يجوز الإخلال بأمنه بدعوى التغيير وبدعوى التدين، فهذه عواطف لا تستقيم بموازين الشرع.

أيضاً إذا كان مثل هذه البلد التي -بحمد الله- لا تزال من أفضل بلاد المسلمين في استقامتها على السنة، وفي ظهور العلم، وفي ظهور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ظهور شعائر الإسلام، وبلد يقوم مجتمعه ودولته على الإسلام في الجملة، وإن كان عندنا كثير من التقصير والتجاوزات نسأل الله أن يعفو عنا، وهذا لا شك فيه، وهذا أمر يقلق، لكن مع ذلك لابد أن نتحدث بنعمة الله، فمثل هذا البلد فيه مسلمات قد لا توجد في بلاد المسلمين الأخرى، من هذه المسلمات:

وجود سلطة حفظ الله بها أمن البلد.

وجود علماء هم مرجع الأمة.

وجود بيعة وعهد يجب أن يرعاه كل مسلم.

وجود ثوابت يجب أن نحافظ عليها رغم ضعفها ورغم تقصيرنا فيها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الحدود.. نشر العلم الشرعي.. الدعوة إلى الله.. ظهور شعائر الإسلام.. الأمر بالصلاة.. وغيرها من الثوابت، فمن حقيقة التدين الحفاظ على هذه الثوابت مع بقاء النصح، وعلاج المشاكل والأمراض، ومع بقاء التكاتف بين الأمة، والتفافها على علمائها وولاتها، ومع ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوصول إلى الحق ودفع الباطل بالطرق المشروعة.

أما أن ينصب التدين إلى أعمال هي من الفساد ثم يسمى هذا جهاداً وتغييراً فهذا من قلب الحقائق، ومن قلب المفاهيم، ومن استعمال النصوص على غير وجهها؛ لأن الذين يعملون هذه الأعمال قد يستدلون بنصوص، لكن أهل العلم والرسوخ يعلمون أنهم استخدموها على غير منهج صحيح للاستدلال.

إذاً: من حقيقة التدين: التورع في تعامل المسلم فيما بينه وبين ربه، وفي تعامله مع الأشياء، والورع في جميع أموره.

ومن الأمور المحزنة أن الكثير من المسلمين اليوم، بل والكثير من المتدينين من المسلمين يضعف عندهم جانب الورع في المأكل والمشرب، وفيما يتناولونه من الأشياء والأدوات والوسائل، وقلَّ أن تجد المسلم يفكر في حل الشيء وحرمته قبل الإقدام عليه، وكثير من الأسئلة ترد على العلماء الآن تتعلق بأشياء وقع فيها أفراد المسلمين أو مجموعاتهم أو مؤسساتهم بالحرام أو بالمشتبهات؛ لأنهم فرطوا في السؤال عنها قبل الوقوع، فقد يتعامل شخص مع بنك، ثم بعد شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين اكتشف أن معاملته ربوية، فذهب يسأل: كيف يتخلص من هذا التعامل؟

فهذا يقال له: يا أخي! لماذا لم تتثبت من شرعية معاملتك هذه قبل أن تقدم عليها؟ والمسألة سهلة، لا سيما وأن أكثر البنوك الآن صارت تراعي هذا الجانب، فتضع لجاناً شرعية وتستفتي علماء في كثير من معاملاتها ثم تقدمها للزبائن، هذا أنموذج، وإلا فلو نظرنا إلى ما نأكله وما نشربه وما نتناوله من المشتريات والمشتهيات لوجدنا أشياء كثيرة نقع فيها من المحرمات والمشتبهات؛ بالتفريط والتساهل، وهذا ضعف في التدين نتج عنه ضعف الورع.

والورع كما أشرت أيضاً يكون في حقوق الناس، خاصة الأعراض، فيتورع العبد عن النميمة والغيبة والبهتان، وما أكثر الذين يقعون الآن في النميمة والغيبة وأحياناً بدعوى الإصلاح أو بدعوى النصح، أو بدعاوى كثيرة، وأغلب هذه الصور هي من النميمة الخالصة والبهتان، وهذه الظاهرة اشتهرت وانتشرت حتى كادت تفسد ذات بين كثير من طبقات المسلمين وأصنافهم.

وهكذا استحلال الكلام في الآخرين، حتى إن أكثر المجالس لا تلذ وتطيب بأهلها إلا عندما يخوضون في أعراض الخلق وفي الكلام في الناس.

بل الأمر تعدى إلى ما هو فتنة، وهو الكلام في العلماء وأهل الحسبة وأهل الخير، فكثير من الناس اليوم يستبيحون الكلام في أعراض العلماء، ويحاكمونهم غيابياً، وقلَّ أن تجد مجلساً يتعرض فيه للعلماء إلا وتجد الأغلب يسبهم ويقدح فيهم، أترون هذا من علامات الرشد؟ لا والله! هل هذا فيه شيء من الورع؟ لا والله! بل هو ضد الورع.

ثم بقية الصالحين وأهل الحسبة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الآن صار عرضهم مباحاً لأكثر الناس، وهم خلاصة المجتمع الذين يدافعون عن أعراض المسلمين وعن دينهم وعن أخلاقهم، الذين يرى كثير من أهل الخير والاستقامة -والله أعلم- أن عملهم هو سبب من أسباب دفع النقمة عنا في تفريطنا وتقصيرنا، فمن أعظم أسباب دفع النقمة والعقوبة إلى اليوم هو وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظاهراً، وظهور شعائر الإسلام وتطبيق شعائر الدين، ومع ذلك تجد أغلب الناس جرآء على أهل الحسبة وعلى الدعاة وعلى الصالحين، فضلاً عن بقية المسلمين، وكل المسلمين أعراضهم محرمة، حتى المقصر والعاصي والفاسق لا يجوز غيبته أو النمُّ عليه ولا بهتانه، كل ذلك حرام؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيبة: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان أعظم، فمن قلة الورع الكلام في الصالحين، والقدح في دينهم وفي أخلاقهم وفي معاملاتهم.

ومن الفتنة التي أشاعها الشيطان بين الناس اليوم أنهم صاروا يتقصدون زلات الصالحين وزلات العلماء ويجمعونها، حتى تتراكم في نفوسهم وعقولهم المريضة، فيجعلونها مناهج، فيسقطون فيها اعتبار العلماء ومنزلة العلماء، ويسقطون فيها اعتبار الصالحين ومنزلة الصالحين، وما علموا أن العلماء والصالحين بشر ليس منهم أحد معصوماً، ويقع منهم ما يقع من سائر البشر، لكن إن أخطئوا فغيرهم أكثر خطأً، إن زلوا فغيرهم أكثر زللاً، إن تجاوزوا أو حصل منهم شيء من التقصير فغيرهم أكثر تقصيراً، وعليه فقس، فهذا ميزان شرعي وعقلي لا يتخلف، فعلماء الأمة وصالحوها هم خيارها، وهذه حقيقة يجب أن تكون من المسلمات، لكن لا يعني ذلك أنهم لا يقعون في أخطاء، ولا يعني ذلك أنهم ليس فيهم ضعف، ولا يعني ذلك أن ليس عندهم تجاوزات، لكنهم أمثل الأمة، والعصمة لا تكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك لما جاء بعض ناشئة المسلمين بعد الصحابة، ولم يعملوا بالمقاييس المثالية، وجانبوا طريق الورع ولم يخشوا الله عز وجل جرَّموا الصحابة وكفروهم.

والخوارج أصحاب الفتنة قتلة عثمان قتلوه على هذا المبدأ الخاطئ، وذلك حينما لم يتورعوا عن عرضه، وقالوا فيه ما يصح وما لا يصح، وقالوا فيه من الأشياء الصحيحة التي له فيها تأول، والحق معه فيها، ولكنهم ظنوها خطأً، وقالوا فيه أشياء هي من البهتان؛ ولذلك لما ناقشهم بهدوء وموضوعية وبالدليل رجعوا، لكن رءوس الفتنة أرادوا ألا تنتهي الفتنة فنكصوا على أعقابهم وقتلوا عثمان رضي الله عنه.

ونفس هذا المقياس هو المقياس الذي يعامل به كثير من الناس الذين لا يتورعون، ولا يخشون الله عز وجل ولا يتقونه، نفس هذا المقياس هو الذي قاسوا به تقويمهم للعلماء وللصالحين، فتجدهم يقولون: العلماء ما قاموا بالواجب، والعلماء بياناتهم باردة، والعلماء يتأخرون في البيان للأمة، والعلماء لا يفتحون أبوابهم، والعلماء لا يسايرون مشاكل المسلمين، والعلماء.. العلماء.

فيقال لهم: أولاً: هل هذا صحيح؟ وما كان صحيحاً من هذه الأمور أليس له وجه يعذرون به؟ بلى والله!، وأنا ما أتكلم عن الأفراد، بل عن الجملة، فإن أكثر ما يقال فيهم ليس بصحيح، وما يصح لهم فيه عذر، ومع ذلك يكون منهم أخطاء، لكن نسأل أضعف أمة اليوم وأقل أمة شأناً في هذه الدنيا اليوم التي لا تحمل دنيا ولا ديناً، وقلنا لهم: من خياركم؟ فسيقولون: علماؤنا، فما ظنكم بالفئة الذين لما قيل لهم: من شراركم؟ قالوا: مشايخنا! أليس هذا انتكاس في العقيدة؟ وانتكاس في الشرع؟ وانتكاس في العقل؟ وانتكاس في المفاهيم؟

بلى والله! إنه انتكاس!

أعود وأقول: إن سبب ذلك قلة الورع، وقلة وضعف التدين، وتدينهم تدين عاطفي، لكن ليس هو المطلوب شرعاً، والواحد منهم إذا سمعت منه تتعجب من قوة عبارته، ويقولون من قول خير البرية كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند التطبيق يتجاوزون الأصول.. ويتجاوزون الحدود، فلا رشد ولا ورع، ولا خشية في إنسان لا يتورع عن أعراض العلماء، ولا عن أعراض الصالحين، وورعه كاذب مثل ورع الذين يتورعون ويتناقشون في دم البعوضة ولا يتورعون عن دم الإنسان.

الإخلاص والمراقبة والإحسان

من حقيقة التدين: وجود الإخلاص في القلب، والمراقبة لله عز وجل، والإحسان، وكما يكون الإحسان في العبادة لابد أن يكون الإحسان مع الخلق، ولعل أظهر محك للناس في ظهور حقيقة التدين هو التعامل مع الآخرين، فمن التدين أن يكون المسلم رفيقاً شفيقاً رحيماً بالمسلمين، أن يرفق بالمسلمين في كل شيء، في نصحه، في بيانه، في رده، في بيعه، في شرائه، في جميع أنواع التعامل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، ولو استعرضنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الأصل في تعامله مع الآخرين -حتى الذين يخطئون والذين يقعون في فواحش الذنوب، والذين يقعون في الأمور المستشنعة- أنه يعاملهم برفق، فعامل الأعرابي الذي بال في المسجد بالرفق، وعامل حاطب بن أبي بلتعة الذي وقع في عمل ظاهره الكفر بالرفق، وكثير من ذلك، إلا إذا انتهكت حدود الله فهذا أمر آخر، وله ضوابطه، ويكون لأهل الحل والعقد أيضاً، وليس لكل إنسان أن يدعي دعوى الغيرة على الحدود فيفتات على العلماء.

فالمهم الإحسان إلى الخلق عموماً، وكل له درجة من الإحسان، وحسن التعامل مع الآخرين هو المحك، ولذلك لما أخل كثير من المسلمين بهذه الحقيقة، حقيقة التعامل مع الآخرين، ولم يسلك كثير منهم مسلك الرفق والرحمة والحلم والنصح والإشفاق والتدرج في الدعوة.. ونحو ذلك، لما تخلف هذا الأصل عند المسلمين قل وضعف جانب القدوة فيهم، فالقدوة الآن في المسلمين قليلة ونادرة جداً في التعامل، وكثيرون نجدهم في عقائدهم على الاستقامة، وتجد هناك نماذجاً من الناس عقيدة أحدهم سليمة، وعلمه وفقهه في الشرع سليم، وقد يكون أيضاً باذلاً جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، لكن لا يحسن التعامل مع الخلق، فهذا غالباً لا تنفع دعوته، ولا يقتدي به أحد، والمسلمون الآن بحاجة إلى الأنموذج الأمثل في التعامل أكثر من حاجتهم إلى الخطب والكتابات والوسائل الأخرى، وأنا أجزم أنا لو استغنينا عن أكثر ما نقوله وما نكتبه واتجهنا إلى غرس القدوة في الناس لتحقق الخير الكثير، فكثيرون ممن حرموا الاستقامة كان الحاجب بينهم وبين الاستقامة سلوك بعض المتدينين؛ لأنهم ما حققوا التدين.

ثم كثير من الكفار وغير المسلمين حرموا نعمة الإسلام بسبب كثير من المسلمين، وهذا أمر معلوم مشهور، يعلمه كل من خالط أو عايش أو سافر إلى بلاد الكفار للدعوة إلى الله عز وجل، أو حتى دعا أحداً من الكفار في أي مكان، فسيجد أن من أعظم عوائق إسلام هؤلاء القوم أفراداً وجماعات وأمماً وقبائل هو سلوك المسلمين، وهذا صرحوا به وقالوه، فأكبر عائق لدخولهم في الإسلام هو عدم تحقيق التدين بين المسلمين في تعاملاتهم، فتجد كثيراً من المسلمين غليظاً فظاً، عنده جفاء، وعنده سلبية، وقد يتعامل مع الناس بشيء من المراوغة والكذب، وعدم الإتقان للأعمال.. إلى آخره.

وكما تتحقق حقيقة التدين بالتمييز بين الحق والباطل لابد لكل من يدعي التدين أن يميز بين الحق والباطل، ويتجلى ذلك بأن يميز المسلم بين المعروف وبين المنكر، ويميز بين الكفر وبين الإسلام، ويميز بين المسلم وبين الكافر، ويميز بين المؤمنين وبين الكافرين، والله عز وجل يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، ويقول عز وجل: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، وبعض الناس يقول: الكل سواء، وهذا غير صحيح، لكن التمييز ينبغي أن يكون له ضوابطه وحدوده، فلا يصل إلى حد الخشونة في التعامل، أو الإساءة إلى الدين الحق أو إلى الفظاظة والغلظة في التعامل مع الآخرين.

فمن حقيقة التدين أن يكون المسلم مميزاً، وكما يميز بين الضار والنافع في مأكله ومشربه ومعاملاته مع الناس يجب أن يميز قبل ذلك بين الحق والباطل، لكن بالضوابط الشرعية، لا يتخطى الحواجز الشرعية والطبيعية كما يفعل بعض الناس، فالأمر يحتاج إلى اعتدال؛ فلابد من التمييز بين الحق والباطل في حقيقة التدين.

اعتبار الآخرة نصب عين المسلم

أخيراً: من حقيقة التدين: اعتبار الآخرة في تدينك، فلابد أن تضع الآخرة نصب عينيك، بمعنى أن تسعى إلى ما ينجيك ويسعدك في آخرتك، وأن تتجنب ما يعرضك للوعيد، وأن تسعى إلى ما يوصلك إلى رضا الله عز وجل والجنة، ورؤية الرب عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن يتمتع بذلك، وأن تحرص على اتقاء عذاب الله، نسأل الله الإعاذة من ذلك.

فحقيقة التدين: أن يكون هذا الأمر نصب عيني المسلم في أعماله القلبية وأعمال الجوارح جميعاً، بأن يسعى دائماً إلى إنقاذ نفسه من الهلكة، وأن يسعى إلى التطلع للاستعداد للآخرة في كل أموره، نسأل الله للجميع التوفيق والسداد.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ينبغي أن يختبر المسلم قلبه بمدى تحقق أركان العبادة في قلبه، فالعبادة في القلب لابد أن تقوم على ثلاثة أركان:

الركن الأول: محبة الله عز وجل محبة تعظيم وتقديس، بأن يمتلئ قلب المسلم بمحبة الله.

الركن الثاني: خشية الله عز وجل والخوف منه.

الركن الثالث: تعلق القلب برجاء رحمة الله وعفوه في الدنيا والآخرة.

فإذا امتلأ القلب بهذه المعاني أو شعر بها فلابد أن تثمر أموراً كثيرة: من تقوى الله ورقابته والإنابة إليه والتوكل عليه، والتعلق به سبحانه في كل الأمور، بحيث يحب المسلم ما يحبه الله، ويحب من يحبهم الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويبغض من يبغضهم الله.




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
المعيار في معرفة المتشبهين بالكفار 3330 استماع
أحكام الأعياد 3185 استماع
توجيهات في طريق الصحوة 3033 استماع
مسلمات في العقيدة 3021 استماع
علامات الساعة وقيامها 2907 استماع
الوسواس أسبابه وعلاجه 2788 استماع
منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالفين 2722 استماع
مصير الانسان 2511 استماع
مفتريات حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2474 استماع
العلماء هم الدعاة 2403 استماع