تعقيبات
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الانتحار في مصر:
في عدد سابق من الرسالة كتب الدكتور أحمد موسى مقالا عن الانتحار كظاهرة اجتماعية نفسانية قال في مطلعه: (لم يكن الانتحار معروفا في مصر قبل ربع قرن، وكان الناس على الأرجح أكثر قناعة واحتمالا وارحب صدرا لمقابلة آلام الحياة وأقل تبرما بها، أما الآن ولا سيما خلال عشر السنوات الأخيرة، فقد بدت ظاهرة مخيفة هي أقدام الكثيرين على الانتحار، سواء في ذلك لا شبان والشابات، والرجال والنساء دون فرق ظاهر بين متعلم وجأهل، وبين فقير وغني، وبين صحيح ومريض، وين متزوج وأعزب. .
.). وهذا كلام يحتاج إلى تصحيح، والصواب أن يقول: إن الانتحار لم يعرف في مصر كظاهرة اجتماعية قبل نصف قرن، ولم تتمثل هذه الظاهرة للعيان إلا بعد أن اتصلت مصر بأوربا، وأخذت تعب من شرور المدينة الأوربية أضعاف ما تقتبس من خيرها، وكان هذا الداء الوبيل ضمن الشرور التي أصابت المجتمع المصري وتأصلت فيه. والطريق الذي وصل منه هذا الداء إلى مصر هو الأدب، أدب القصص الأوربي وما يحمل من انتحار أبطال تلك القصص وبطلاتها، ثم ما كإن يصوره ذلك الأدب من حوادث الانتحار على المسرح وقد وجد هذا النبات الغريب في بيئتنا تربة خصبة وعوامل للنمو مما خلفته العصور المظلمة في نفوس المصريين فما وفرع ولعل أوضح آثار لهذا الداء هو ما بدا بين تلامذة المدارس الراسبين في الامتحان من الإقبال على الانتحار بكثرة مخيفة أفزعت أولياء الأمور، وقد صور المغفور له أمير الشعراء هذه الظاهرة وندد بها في قصيدة من أروع قصائده إذ يقول: كل يوم خبر عن حدث ...
سئم العيش ومن يسأم يذر عاف بالدنيا بقاء بعد ما ...
خطب الدنيا وأهدى ومهر حل يوم العرس منها نفسه ...
رحم الله العروس المحتضر ضاق بالعيشة ذرعا فهوى ...
عن شفا الناس وبئس المنحدر راحلا في مثل أعمار المنى ...
ذاهبا في مثل آجال الزهر إلى أن يقول: لامه الناس وما اظلمهم ...
وقليل من تغاضى أو عذر قال ناس صرعة من قدر ...
وقديما ظلم الناس القدر ويقول الطب بل من جنة ...
ورأيت العقل في الناس ندر ويقولون جفاء راعه ...
أب اغلظ قلبا من حجر وامتحان صعبته وطأة ...
شدها في العلم وأودى بالأسر لا أرى إلا نظاماً فاسداً ...
فكك العلم وأودى بالأسر ولما نظم حافظ إبراهيم قصيدته المعروفة في شكوى الحياة، وقال فيها عن نفسه: سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ...
وعدت وما أعقبت إلا التندما سلام على الدنيا سلام مودع ...
رأى في ظلام القبر أنسا ومغنما أضرت به الأولى فهام بأختها ...
وإن ساءت الأخرى فويلاه منهما فهي رياح الموت نكباء وأطفئ ...
سراج حياتي قبل أن يتحطما! انتقدته الصحف ونددت بهذه الروح، وقالت إحدى المجلات الأدبية: حرام علت حافظ إبراهيم أن يصور اليأس لأبناء مصر بهذه الصورة، وأن يكون لهم قدوة في التلهف في الموت ومفارقة الحياة، لأن هذا مما يحبب لهم الإقدام على الانتحار. ولاشك أن ظاهرة الانتحار في مصر قد تطورت في مظاهرها وفي أسبابها، فبعد أن كانت محصورة في استعمال الشنق أو تجرع المواد السامة، أصبحت تتم بفنون مختلفة لإزهاق الروح وبعد أن كانت قاصرة على التلاميذ الراسبين، غدت نهبا لكل أسباب المضايقة ونكد الحياة، وقد دل آخر إحصاء عن حوادث الانتحار والشروع فيه بمصر في عام واحد على أن الإقدام على هذا الجرم الشنيع يرجع إلى عدة أسباب تبلغ في النسبة المئوية 86 بدافع المرض المزمن، و54 بسبب الفقر المدقع، و30 من جراء الشقاق العائلي، و24 من المتاعب الزوجية، و22 لسوء المعاملة، و17 من اثر الحزن، و16 بدافع الكوارث المالية، و12 لأسباب غرامية، و9 سبرا للعار وخوفا من الفضيحة.
وعلى أي حال فإن هذا المرض ليس من طبيعتنا، ولكنه لعنة لحقت بنا من لعنات المدينة الأوربية.
وما أكثرها. هذه الألفاظ الأثرية أيضا: لا أريد أن أدخل في مناقشة مع الأستاذ أحمد رضا عضو المجمع العلمي العربي الدمشقي، لأني على يقين أنه هو ومن يلف لفه من اللغويين يمسكون أنفسهم بفكره لا يريمونها، وهي أن القواميس قد جمعت من الألفاظ ما يكفي لكل معنى مستحدث فغاية البراعة في التقديم هي أن يبذل الرجل منهم جهد الطاقة ليظفر بكلمة مهما كانت مجفوة ميتة، ثم يكرهها إكراها على أداء معنى حادث ولو لأني ملابسة؛ وإني إذ اطلب منه ومن أصحابه الاتجاه إلى ناحية ارحب في توفير مادة اللغة، فإني أكلفهم خطة شديدة. غير أني أعود إلى هذا الموضوع لأقول لحضرته في كلمة قصيرة أنني لا أقول أن (الألفة الذوقية وحدها تكون ميزانا لوضع الكلمات اللغوية واختيارها) كما فهم من كلامي، ولكني أقول أن اللغة لا شك ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور الحياة، وأرجو أن لا يغضبه هذا التعبير، وهي بهذا المعنى تتأثر بالظواهر الاجتماعية الأخرى، وتكون صورة لأفكار أهلها وأذواقهم وما يناسب اتجاهاتهم وميولهم نحو الحياة، ولهذا تموت من اللغة ألفاظ وتعابير وتستحدث ألفاظ وتعابير، ولولا أن تكون اللغة مطواعة قابلة بمادتها لهذا التطور فإنها لا بد أنها تختفي ولهذا السبب كم اختفت لغات ولغات!. ولقد ماتت من اللغة العربية ألفاظ كثيرة، ماتت لأنها فقدت ما يصلها بحياة الناس من الجرس والأداء والمعنى، ثم بقيت محفوظة في المعاجم كأنها قطع الآثار في المتاحف، وهي لاشك عربية أصيلة، وقد تكون وردت في أمثال من فصيح الشعر والنثر ومأثور الكلام، ولكنا لا نستطيع أن نبعث فيها الحياة مرة أخرى، وإلا لظلت هي حية على رغمنا، فالدرمك والدغري والمدغرة والدلق والمربقة ألفاظ عربية لا أماري في عربيتها ولكنها ماتت منذ زمن قديم وليس في طبيعتها نحن ما يهي لها الحياة ويقدر لها التداول في الألسن والسير في أساليب الكتابة والشعراء والخطباء وهم صيارفة الكلام. ولعل الأستاذ يعرف أن جماعات وأفراداً من الأفذاذ المخلصين قد وقفوا جهودهم على هذه الخطة التي ينتهجها في خدمة اللغة بإحياء الألفاظ المجفوة الميتة، ولكنهم لم يجدوا كثيرا، فنادى دار العلوم والمجمع اللغوي القديم الذي تالف برياسة السيد البكري، والمغفور لهما فقيدا اللغة أحمد تيمور باشا، واحمد زكي باشا، وغير هؤلاء جميعا قد جهدوا في اختيار ألفاظ قديمة لتأدية المعاني المستحدثة، وأرادوا مدافعة الدخيل من أسماء المخترعات والمكتشفات بإحياء ألفاظ قديمة نسيها الزمان فما أجدى هذا العناء كما يجب. اختاروا (البرندج أو الأرندج) لبوية الأحذية و (الوهين) لمقدم الفعلة، و (الدريئة) للهدف الذي يتعلم عليه الرمي، و (الطريخ) لسمك السردين، و (الطيلسان) للشال، وهو الكساء المعروف، كما اختاروا عشرات من أمثال هذه الكلمات، فأين هو الكاتب أو الشاعر أو الخطيب الذي استعمل هذه الكلمات حتى من بين أولئك الذين أضنوا أنفسهم في إخراجها واختيارها، وهكذا سيكون الشأن فيما اختاره الأستاذ رضا الدرمك والدغري والقنع، فسيظل الأدباء يؤثرون عليها في التعبير الدقيق، الفاخر، والحروب المفاجئة، وطبق الفاكهة.
وبعد، فلا يحسب الأستاذ إني أسد هذا الطريق من بابه، أو أنقضه من أساسه، أو أنكر إحياء الألفاظ العربية، ولكني أنشد الألفاظ التي تصلح للحياة حتى يمكن أن نحيا، ولي في هذا رأى قد ادعته في (الرسالة) منذ عشر سنوات في مقال بعنوان (مهجور اللغة)، ولولا ضيق المقام، وأن المقدر لي في هذا الباب أن يكون (تعقيبات) خاطفه، لمددت القول في تلك الناحية إلى الغاية. (الجاحظ)