أرشيف المقالات

البخل

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

فإن البُخْل والبَخْل والبَخَل والشح كلها في أصل اللغة بمعنى المنع والإمساك، وهو ضد الجود والكرم، والاسم منه بخيل وباخل ومُبخّل يجمع على بخلاء وباخلون، وفي التنزيل ورد البخل بصيغ هي: بَخل وبَخلوا وتبخلوا ويَبخل ويّبخلون 
والبُخل وفيه إشارة إلى كثرة هذه الصفة وكثرة حدوثها في الزمان وتجددها وتنوعها.
 ويطلق البخل لغة على معان منها حرص النفس على ما تملك، والقلة والعسر، والتسابق إلى الشيء والتنافس عليه بقصد الغلبة، والمخاصمة أو المماحكة والمجادلة، فلا تعارض بين هذه المعاني جميعا، فالبخل والشح حرص يتلخص في المنع، أو العطاء بقلة، وربما يحمل على التنافس والمخاصمة أو المجادلة.

وفي الاصطلاح البخل هو إمساك المقتنيات عما لا يحق حبسها عنه، وقيل هو مشقة الإعطاء وتجاوز الحد بضن الشخص بالذي لا يضر بذله ولا ينفع منعه.
وعند اطلاق لفظ البخل ينصرف الذهن عرفا إلى إمساك المال وعدم بذله وفي الشرع قيل البخل هو منع الزكاة وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال (من أدى زكاة ماله فليس ببخيل) وقيل البخل هو منع الوجبات، وقيل هو منع الواجبات والمندوبات والمكرمات
وفي الحديث: «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة».
وفي الحديث: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا».
وهذا الوعيد من باب المشاكلة لأن الاخلاق والمكرمات منها الواجب والمندوب ومنها ما يذم ويأثم فاعلها ومنها ما لا يأثم ولا يذم فاعلها، والتلف سواء كان للمال أو لصاحبه لا يعطى إنما العطاء للعوض، والممسك عن المندوبات والمكرمات لا يستحق هذا الدعاء ابتداء وإنما يستحقه إذا أكثر منه أو صار وسيلة للوقوع في الحرام عند غلبة البخل المذموم عليه بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه ولو أخرجه.

فالشح شرعا هو البخل مع فرط الحرص على منع كل بر ومعروف مالا أو غيره، في يده أو في يد غيره، والبخيل من يمَنْع إنفاق المقتنيات بعد حصولها فهو شحيح قبل حصولها بخيل بعد حصولها، فالبخل ثمرة الشح والشح يدعو إلى البخل، والشح كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحه.

وقد ذم الله سبحانه البخل ونهى عنه وذم أهله وتوعدهم بقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وذكر أنه لا يحبهم فقال {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} وذمه النبي صلى الله عليه وسلم غاية الذم فقال «وأي داء أدوأ من البخل» وجعله من الظلم وسبب لانتهاك محارم الله فقال «اتَّقُوا الظُّلمَ ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامة ِ، واتَّقُوا الشُّحَّ ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلكَ مَن كانَ قبلَكُم، حملَهُم على أنْ سَفكُوا دِمائَهم، واستَحَلُّوا مَحارِمَهم».

وحكم البخل هو التحريم مطلقا وقد يكون كبيرة، فإما أن يحرم لذاته إن كان منعا للواجبات أو أن يحرم لغيره إن كان في المكرمات والمندومات بحيث كثر أو كان مع الاصرار عليه أو صار وسيلة للوقوع في الحرام أو عندما لا تطيب النفس بإخراج الحقوق، فالبخل يحبس عن الاحسان ويمنع عن البر والخير وكثيرا ما يمنع واجبات منها الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النوائب ويمنع الإنفاق ويخوف الإملاق، وهناك عوالق لا تنفك عن البخل وعن البخيل منها الحرص والشره وسوء الظن بالله ومنع الحقوق والقطيعة والعقوق والحسد والتطير، وليس هناك عيب أقبح من البخل، وليس هناك داء أدوأ منه إذ فيه نوع تكذيب لله ولأمره ونهيه واستخفاف بوعده ووعيده واعتراض على قضاءه وقدره واستغناء عن فضله قال تعالى {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.
ومن يبخل حقيقة إنما يبخل عن نفسه، ومن بخل على نفسه لا يجود على الناس ولا يجود بنفسه وإن الجود من جنس الجهاد لا يثبت فيه إلا سخي، فالبخل داء وغريزة لا تسلم منه نفس لقوله تعالى {وأحضرت الأنفس الشح} أي جُعل الشح حاضرا معها لا يفارقها إلا من وفقه الله ووقاه شحها فأفلح:  {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
أثر عن بعض السلف قوله: (إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزنِ، ولم أفعل) وقد قال جمع من المفسرين في قوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} هو ألا يأخذ شيئا مما نهاه الله عنه، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمر الله ورسوله، فإن الله ينهى عن الظلم ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم وينهى عن الإحسان.

وحتى يسلم المسلم من غوائل آفة البخل يحسن الوقوف على أسبابه، وصوره، وعواقبه، وعقوباته، فأما أسبابه فأعظمها ضعف الإيمان واليقين والتوكل فيتمخض عنها سوء الظن بالله وحب المال والحرص عليه وطول الأمل والخوف والهلع من الفقر.
وأمل الغنى والخوف على الأبناء ف«إن الولد مبخلة مجبنة محزنة» ومنها الغفلة عن أجر المحسنين الأسخياء والغفلة عن عقوبات البخلاء، ومنها الظلم إذ البخل ظلم للنفس وللناس وفي الحديث «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» وفي رواية «أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» وفي رواية «أمرهم بالكذبِ فكذبوا» وفي رواية «أمَرَهم بالظُّلمِ فظلَموا» فالبخل سبب سفك الدماء واستحلال المحارم والفجور والقطيعة والكذب والظلم بأنواعه فهو مهلكة وشر لا خير فيه ورزية عواقبه وخيمة وآثاره سيئة على الفرد وعلى الجماعة في الحياة وبعد الممات.

وأما صوره وأنواعه فكثيرة منها: بخل بالنفس، وبخل بالمال والمقتنيات، وبخل بالعلم، وبخل بالطعام، وبخل بالسَّلام، وبخل بالكلام، وبخل على الأقارب دون الأجانب، وبخل بالجاه والشفاعة، وبخل بالبدن وكلُّها نقائص ورذائل مذمومة عقلاً وشرعاً.
وأقبح صور البخل على الاطلاق ما كان متعديا وهو البخل بالعلم الذي يهتدي به الضالون فيكتمونه عنهم أو يزينون لهم الباطل الذي يحول بينهم وبين الحق وكل أنواع البخل فرع عنه وترجع إليه قال تعالى {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} فالبخل بالعلم بخل وأمر للناس بالبخل وكتم لفضل الله وأمره ونهيه، والبخل شح مطاع هالع يستلزم الجبن والكسل كما أن الشجاعة تستلزم الكرم، فالجبن بخل البدن والكسل بخل الإرادة ولا يكون البخيل إلا جبانا كسولا وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآفات، وبخل العالم كتم العلم أو تأخير البيان عن وقت حاجته أو الاشتغال بفضول العلم على عُمده، وكل من يدعو بغير ولغير التوحيد بخيل يدعو إلى نفسه وحظها، وبخل المدعوين ترك العلم وهجر التعلم والعمل والاستكبار عن سؤال أهله، وإن أبخل الناس من بخل بالسلام ومن ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، ومن صوره كذلك النذر الذي يستخرج به من البخيل.

وأما عقوباته فمنها نفاق في القلب ، ومنها حرمان النفس والناس من الخير والفرقة وتسلط الأعداء، ومنها الخذلان وسلب التوفيق ومنع فضل الله عن البخيل فليس البخيل الذي منع ولكن الله سبحانه منعه، ومنها التعذيب بما بخل به وتيسير العسرى فغاية الغبن أن البخيل يجمع عذابه بيديه، ومنها الحرمان من جوار الله في الجنة ، ومنها أن البخل لا يجتمع في القلب مع الايمان وسوء الخلق بل الشح والبخل هو أصل النقائص، ومنها أن الله يخرج أضغان البخيل ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، ومنها البعد من الله ومن الناس والقرب من النار .

وأما وسائل الوقاية من البخل فكلها تحوم حول حمى تحقيق توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسماءه وصفاته، فيتعرف العبد فضل الله وزيادته وأن الأمر بيده سبحانه عطاء ومنعا غنى وفقرا، فيحسن الظن بالله سبحانه ويستعيذ به من البخل والشح لأن الخوف على الرزق والولد والأهل من سوء الظن بالله، فيتأمل في آيات الله وفي ما أعده الله للبخلاء وأنهم في أسوأ حال يتركون ما يبخلون به لغيرهم ويحاسبون عليه ويتأمل في أخبارهم ونفرة الطبع منهم ومن عملهم بل وبغض الناس لهم وبقاء الذكر السيء من بعدهم، فيصرف قلبه إلى الانشغال بالعبادات عن البخل، فيعالج العبد الحرص وطول الأمل بذكر الموت وكثرة الصدقة والدعاء والبر، فوسائل التغلب على الشح والبخل كلها مجموعة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
وقوله عزوجل:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
.
 
___________________________________________________
الكاتب: محمد بن عبد الله يسير

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣