«الحضارة الغربية ٠٠ الفكرة والتاريخ»
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
لقد بدأت الشعوب المستضعفة تحتل مكانتها على الساحة العالمية، مما جعل الغرب يعمل بكل ما أوتي من قوة وغطرسة وما يروجه من فكر زائف أن يواصل إحكام قبضته على فكرة وعمل هذه الشعوب، فالغرب ما زال ينظر إلى نفسه باعتباره "الجنس الأبيض المتميز" وأن بقية الشعوب فريسة مستباحة له.ونتيجة لذلك أطلق الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا نداء قويا في مؤتمر مناهضة العنصرية المنعقد في ديربان في جنوب أفريقيا خلال شهر أغسطس 2001 تحت عبارة " لنحرر عقولنا.." لتحمل هذه العبارة الكثير من المطالب وكل ما يتصل بحياة الإنسان.
ولقد تناول توماس س.
باترسون في كتابه الحضارة الغربية الفكرة والتاريخ والذي قام بترجمته شوقي جلال في إطار المشروع القومي للترجمة للمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة تاريخ اختلاق الغرب لفكرة الحضارة لتأكيد التمايز ليبرر عملاؤه الاستعمارية العدوانية ضد الشعوب الأخرى لاستعمار البلاد ونهب ثرواتها ونهب أهلها وبيعهم رقيقا.
ويكشف الكتاب عن هلامية فكرة الحضارة لدى مفكري الغرب والصراع بينهم حول تحديد معناها والموقف منهما، ويعرض المؤلف نظرة تاريخية نقدية مستشهدا بنصوص مفكري الغرب الذين يحملون لواء التوجه العنصري ليميزوا أنفسهم عن بقية شعوب العالم التي تمثل في وجهة نظرهم خطرا على الجنس الأبيض، وعلى الحضارة، ولكن أحداث التاريخ تؤكد أن الشعوب "غير المتحضرة" في طريقها لاستعادة أملاكها والتحكم في مصيرها.
ولقد ركز الكتاب على تطور فكرة واحدة فقط عن الحضارة، هي الحضارة الغربية تحديدا التي بدأت صياغتها الافتراضية في أوروبا في عصر النهضة، ثم أعيد تهذيبها في عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر.
وقد صاغ المفكرون أبناء النخبة فكرة الحضارة الغربية وسلموا بوجود حضارات أخرى كالسامية وحضارات الصين، بيد أنهم مع هذا ذهبوا إلى أن أياً من هذه الحضارات لم يبلغ إنجازات حضارة الغرب في روما أو اليونان القديمة والمجتمعات التي هي من سلالة هذا التراث.
ويكشف المؤلف عن جذور مفهوم الحضارة الذي اختلقه الغرب، ليقهر بها عقول المستضعفين، ويغرس في نفوسهم مشاعر الدونية.
وقد اعتمد المؤلف في دراسته لفكرة الحضارة على حصاد غني طويل الأمد من دراسات أكاديمية متميزة في علم الأنثروبولوجيا، ويتخذ من دراساته شاهدا على اطراد سياسة التمييز العنصري فكريا عند الغرب، والسياسي تأسيسا على مزاعم تحمل زيف صفة الفكر الأكاديمي، ولقد اقترنت هذه المزاعم بصعود قوى الرأسمالية في عصر الصناعة واطردت لتكون دعامة لما يسمى "العالم الحر المتقدم".
ولكن مع نهاية الاستعمار تحررت الشعوب وظهرت التعددية الثقافية وشرعت الشعوب المستضعفة في استرداد حقوقها وظهرت بعض المباني الجديدة التي تؤكد حق الشعوب في البقاء في محيط إنساني عادل وكفء مع إدانة أساليب التمييز العنصري والاستحقاق في الماضي.
ولاقت كلمة الحضارة اهتماما منقطع النظير من وسائل الإعلام، وأن المجتمع لكي يكون بخير لابد أن يكون متحضرا، وأن الشعب المتحضر شعب مهذب كيس وأكثر ثراء وسعادة، ولكن بعض المشكلات كالجريمة والعنف وانحطاط المستوى التعليمي وتفسخ القيم مشكلات تواجه الحضارة .
ومن الحضارات التي تواجه هذه المشكلات الحضارة الأمريكية، حيث تواجه التحلل الحضاري نتيجة لثقافة العنف وثقافة الفقر.
وفي هذا الصدد يحذر نيوت جنجريتش "المتحدث باسم مجلس النواب الأمريكي" يستحيل الحفاظ على حضارة أبناؤها ينجبون أطفالا وهم في الثانية عشرة من العمر، ومن هم في الخامسة عشرة يقتلون بعضهم بعضا ومن هم في السابعة عشرة من العمر يموتون بالإيدز، ومن هم في الثامنة عشرة يحصلون على دبلومات لايستطيعون قراءتها بالكاد" .
كما تواجه الحضارة الأمريكية خطر التنوع الثقافي الذي ظهر في أواخر القرن العشرين نتيجة الهجرات الواسعة لأمريكا، ونتيجة حركة الحقوق المدنية التي طالبت بالمساواة في المعاملة والحقوق بالنسبة للنساء والأقليات.
كما تشكل التكنولوجيا أكبر التهديدات التي تواجه الحضارات، حيث تحمل قيما وثقافات قد تضعف من خصوصيات الحضارات.
ولقد استعرض المؤلف الكثير من الآراء في دراسته للحضارة وجذورها، ومن هذه الآراء رأي هنتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات.
ويرى هنتنجتون: أن الحضارات عبارة عن كيانات ثقافية سوف يكون لها أهمية متزايدة باطراد في النزاعات الراهنة والمقبلة، كما يرى أن الحضارة الغربية هي الحضارة الكونية بينما غيرها حضارات إقليمية ويحدد معنى الحضارة على أساس الفوارق الثقافية، ومن ثم تظهر عنده فوارق حقيقية بشأن اللغة والثقافة والتقاليد، ثم الدين الذي يراه القسمة الأهم في تمييز حضارة عن غيرها.
ويعتقد هنتنجتون: أن الصراع القادم هو صراع بين الحضارة الغربية والعالم غير الغربي الذي يضم أجزاء متحضرة.
ولكن هناك من انتقد الحضارة والدولة معا، وقاموا بالكشف عن القسمات السلبية والتناقضات، ومن ثم ازداد شكهم باطراد بشأن منافع الحضارة الغربية التي قيل إنها جلبتها منذ بزوغها.
وقد دار على هامش الحديث عن الحضارة نقاش ساخن بين الفلاسفة حول العديد من القضايا المرتبطة بالحضارة وعوامل تقدمها وتحللها، ومن أبرز هذه القضايا النقاش حول دور العقل والعلم وبدايات الحداثة، فقد اعتقد "بيكون": أن العقل مجال النخبة ومن ثم هم القادرون على الانتقال إلى عصر جديد في تاريخ البشرية عصر تكتسح فيه العقلانية التقليد.
وقد استعرض المؤلف الكثير من صور المجتمع المرتبطة بالحضارة كالمجتمع المدني والمجتمع التجاري والمجتمع الصناعي، وأنها جميعا وصف للنظام الاجتماعي الجديد المرتبط بالحداثة.
ولقد نتج عن تطور الحضارة تطور اجتماعي، وظهر ما يعرف بالتطوريين الاجتماعيين من أمثال "هربرت سبنسر" و"لويس هنرى".
كما ارتبط النمو الاقتصادي بالتطور الاجتماعي والحضاري، وظهر ما يعرف بالتحديث الذي يعتبر عملية توسعية أو عولمة سوف تدمج المزيد من المناطق الجغرافية عن العالم الثالث لسيطرة العالم المتحضر، وهو يمثل جهدا لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والثقافية الرأسمالية في بلدان العالم الثالث، فقد ظهرت الحداثة أولا في المجالات الاقتصادية والسياسية إلا أنها سرعان ما بلغت أعماق المجتمع التقليدية وأثرت على كل شيء فيها.
ولقد لاقت نظرية التحديث انتقادات واسعة، ثم ظهرت نظرية التلاقي التي نظرت إلى الاقتصاد والسياسة والثقافة كل على حدة في انفصال عن بعضها..
لكن سرعان ما أسقطت نظريتا التحديث والتلاقي كسبيلين لوصف التنمية، وذلك في مطلع القرن العشرين، ولكن عادت إلى الحياة مرة أخرى نظريتا التحديث والتلاقي عقب تفكك الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين.
وفي الختام يحمل الكتاب دعوة لمفكري العالم لكي يعززوا الفكر التحرري الذي يحمل فكر ما بعد الاستعمار وأن يعملوا على صياغة إطار فكري إنساني جديد، وإعادة كتابة التاريخ بـتواز مع جهود التحول الحضاري الذاتي والأصيل ليكتمل ويصدق نداء "لنحرر عقولنا"....
___________________________
اسم الكاتب: د.
مصطفى رجب