أرشيف المقالات

أعياد الحياة والحرية

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
تخرج الرسالة اليوم إلى الناس في (شم النسيم)؛ وشم النسيم في مصر عيد اكتمال الربيع، يخرج الناس من دورهم فيه إلى الطبيعة السافرة المجلوة، في العراء الكاسي بأفنان الزهر، وفي الهواء الناسم بأنفاس الرياحين، يشهدون افتضاح سر الحياة في الأرض، وانفتاح باب الجنة على الروض، وانتشار جمال الله في الكون، وافترار الدهر العابس عن بسمات البشر تفيض في العيون والصدور، وتشرق على الحقول والدور، وتهيؤ القرب بين الله والإنسان والطبيعة لشد ما تفعل بالنفوس مشاهد الحياة وذكرى الحرية! في هذا اليوم يحتفل المصريون في (شم النسيم) بعودة الروح إلى الدنيا، وهبة الطبيعة من مرقد الموت؛ وبالأمس كان عيد الفصح المسيحي، احتفل فيه نصارى الشرق، كما احتفل في مثله من قبله نصارى الغرب، برجعة الناسوت وقيامة يسوع؛ ومنذ أيام كان عيد الفصح اليهودي، احتفل فيه بنو إسرائيل بخروجهم من ظلم الفراعين، وعودة الحرية بهم إلى أرض فلسطين! فلله هذا الفصل الجميل كيف يعود فيه الخلق، ويرجع معه الشباب، وتحيا به الحرية، ويسبح منه الوجود في فيض من الشعور القدسي يوقظ في الإنسان أنه حي، وفي الحي أنه حر، وفي الحر أنه جميل، وفي الجميل أنه صالح، وفي الصالح أنه خليق بملكوت الله وخلافة الأرض تباركت يا مبدع الربيع، ومصور الجمال، ومعيد الخلق! هذا النبل يتنفس بالحياة ماؤه فما لأنفسنا تموت؟ وهذا الوادي يتفجر بالخصب ثراه فما لآمالنا تذوي؟ وهذا الربيع يرف بالحسن نسيمه فما لأخلاقنا تسوء وتقبح؟ ألسنا جزءاً من الطبيعة نتجدد كما تتجدد، وندور على قطب الحياة كما تدور، ونجري على سنن الكون كما تجري؟ إذن فلماذا يعود إبريل في كل عام فيرد إلى الشجر حلاه، والى البلبل أغاريده، وإلى العش زياطه، والى الحيوان نشاطه، وإلى العالم كله بهاءه ورونقه.
ونلقاه نحن في كل موعد إبان وروده، فلا نجد عنده وا أسفاه ريشة لجناح، ولا نفحة لأمل، ولا جدة لدارس هكذا قضى الله أن يكون الربيع مستأنف القوة والفتوة والرجاء لكل حي، ومسترجع الذكر الممصة، والأطياف الحزينة لابن آدم! فهذه الشجرة التي تراها فينانة الأفرع ريا الأماليد طالما ورف ظلها السجسج في هذا الأوان على صبي ناعم وهوى وليد! كانت عشاً لطائرين بسط الشباب لهما في الجناح، وفسح الحب لهما في الجو، فيطيران ما شاء الهوى أن يطيرا، ثم يأويان إليها، ويغردان عليها، حتى تقوض العش ونسل الجناح ويبست الحنجرة! وها هي ذي الشجرة عراها الخريف عشرين مرة، وكساها الربيع عشرين مرة، ولكن ذاوي الشبيبة لن ينضر، وماضي الحبيبة لن يعود!! وهذا المرج الذي تراه موشي البرود منضور الجنبات، كان في عام من الأعوام مسرحاً لمشهد من مشاهد الصبابة! انتظمت به عقود الحب، وأنثرت فيه حبات القلب، وتبددت عليه خطوات السعادة. ثم تصوح المرج وعاد فاخضوضر وأزهر، ولكن مضاجع الهوى لن تمهد، وذواهب الخطى لن تؤوب!! وهذا الجدول الرقراق الذي تسمع هسيسه فوق الحصى وتحت الصفصاف، كان في ربيع من الأربعة مرآة لوجهين حبيبين قرءا سراريهما في صفائه، ومزجا حديثيهما بخرير مائه، ثم جف مجراه وما لبث أن فاض، وانقطع حديثه ثم عاد فاستفاض، ولكن الوجهين لن يعود بينهما لقاء، والحديثين لن يكون لانتهائهما ابتداء! وهكذا يجد الإنسان وحده في كل منظر من مناظر الأرض، ومظهر من مظاهر الربيع، أثراً بعد عين، ودواراً بعد نشوة، وبلي بعد جدة، وذكرى بعد أمل!! على أن للربيع يداً على النهضة المصرية لا تكفرها له القلوب ما تجدد على الدهر عيده: تلك هي رجعة الروح فيه إلى حياتنا الاقتصادية، وما هذه الروح الراجعة إلا بنك مصر، بثها الله في نفحات الحلد من أوائل مايو، فنضرت من حياتنا ما ذوى، وأقامت من بنائنا ما هوى، واتحدت بطبيعة الزمن الموزون، وحركة الفلك المنتظم، فهي تتقدم ولا تتأخر، وتجري ولا تتعثر، وتطلب الغاية ولا تحيد لذلك يعود الربيع كل عام فيفتح للناس هوة الماضي، ويفتح لبنك مصر وحده باب المستقبل، فينمو نمو النبات بركة على بركة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء ويخرج منها إلى العافية! بعد ثمانية أيام يحتفل المصريون بمرور خمسة عشر ربيعاً على مولده؛ وسيكون هذا الاحتفال المرتقب حجة لمصر أو حجة عليها! فإذا أجمعت على أن يكون احتفالها بعيده احتفالاً بنهضتها به وحياتها فيه، دلت الناس على جدارتها بفضله، وعرفانها بجميل أهله، واطرادها مع الكفاية والجد في سبيله، وإلا كان احتفالها بهذا العيد العظيم كاحتفالها اليوم بشم النسيم.
تحتفل فيه بالفسيخ والعرق والعهر، ثم لا تعبأ بجمال الطبيعة في جنة ولا نهر! أحمد حسن الزيات

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢