خطب ومحاضرات
العلماء هم الدعاة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن الحديث عن الدعاة وعن العلماء أمر ضروري خاصة حينما انتشر مفهوم عند الناس في هذا العصر، ألا وهو مفهوم التفريق بين العالم والداعي، وبين العلم والدعوة، وبين الفقه في الدين والفقه في الدعوة، وما نتج عن هذا المفهوم من ظواهر خطيرة على الدين، وعلى السلوك والأفكار والمفاهيم.
ومنشأ هذا الموضوع في ذهني أن كثيراً من الدعاة والحركات الإسلامية المعاصرة، والدعوات التي تتصدر للدعوة في العالم الإسلامي نشأ عندها هذا الفصل، وهذا الانفصال بين الداعي إلى الله سبحانه وتعالى، أو بين الممارس للدعوة إلى الله، أو بين المحترف للدعوة إلى الله وبين العالم والشيخ، أو بين العلماء وطلاب العلم، لذا فلابد من الحديث عن هذا الأمر على وجه النصح لا على وجه النقد، وسأتحدث عن بعض المسائل في هذا الموضوع؛ لأن الموضوع متشعب وطويل وهو ذو شجون.
تعريف العلماء والدعاة والدعوة
فالعلماء: هم العلماء بالشرع العالمون به، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، والداعون إلى الله على هدى وبصيرة.
وعلى هذا فالعلماء بحسب هذا التعريف هم الدعاة بداهة؛ لأنهم هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، وأجدر من يتصدر للدعوة بعد الأنبياء -وقد انقضت النبوة وانتهت- هم العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والعلماء هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية وعالم وقدوة، وعلى هذا فهم أجدر الناس بالدعوة.
والعلماء هم أهل الحل والعقد، وهم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى، وعلى دينها وعلى أمنها، ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنين على الدعوة.
والعلماء هم أهل الشورى، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة وفي دينها ودنياها، فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها.
والعلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم وشرف ومنزلة رفيعة، والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا الدعوة وما الدعوة إلا الدين.
والعلماء هم أهل الذكر، وعلى هذا فهم أهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعلماء أفضل الخلق، وأفضل الخلق هو الداعي إلى الله، والداعي إلى الله هو أفضل الخلق.
والعلماء هم أزكى الناس وأخشاهم لله، وإذا كانوا كذلك فهم أجدر بأن يدعو إلى الله على هذه الصفات، وهم الأجدر بأن يكونوا هم القواد والرواد للدعوة.
والعلماء هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وما غاية الدعوة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً: فالعلماء هم الدعاة، وهذا على وجه العموم، وهم أهل لهذه الخصال على وجه العموم، ولا يلزم أن تتوافر هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله سبحانه، لكنهم في الجملة، أي: العلماء، هم أهل لهذه الخصال بجملتها.
والعلماء لا يمكن أن تخلو أرض منهم، وهذا دفع لدعوى قد يدعيها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات بأنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يقتدى بهم مفقودون، أو نحو من هذه الدعاوى التي لا تجوز شرعاً، بل هي مخالفة للواقع ولصريح النصوص، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل ببقاء طائفة من هذه الأمة ظاهرة منصورة، وأمرها بين، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بأهل الحجة وهم العلماء، والصفات التي قد ذكرتها تتوافر في مجموعهم في كل زمان وفي كل مكان، وكل وقت وكل مكان بحسبه.
أما بالنسبة للدعاة وقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلاً للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول: الدعاة هم الداعون إلى الله على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بصيرة وفقه في الدين، وأول من تتوافر فيهم هذه الصفات هم العلماء؛ لأن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ولا شك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء.
والدعوة: هي السعي لنشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقاً وبذل الوسع في ذلك، ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح، وهذه الأركان -على الأصح- أكثر ما تتوافر في العلماء، وهنا قد يرد سؤال عند بعض الناس:
هل الدعوة مقصورة على العلماء؟ أو نقول بلفظ آخر: لا يدعو إلى الله إلا عالم؟!
فالجواب: لا؛ لأن أي مسلم قد عرف شيئاً من الدين وتبصر به لزمه أن يدعو إليه بعد هذا التبصر وفقه المسألة، وهذا هو الذي تتوجه إليه النصوص الشرعية، وعليه عمل السلف.
أما قيادة الدعوة وريادتها وتوجيهها فلابد أن تكون من العلماء وفي العلماء، فيتصدرون الدعوات في كل أمر ذي بال، وعليه لابد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، وهم الموجهين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يكفي أن يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من الدعاة.
كذلك قد يرد سؤال آخر أو استدراك آخر ألا وهو: العلماء لم يرفعوا راية للدعوة.
فأقول: هذا الإشكال إن صح فهو يحتاج إلى تعديل، وهو أن الأصل في أهل العلم أن يسعى إليهم؛ ولا يسعوا إلى الناس، والأصل في أهل العلم أن يكون لهم سمت، وأن يكون لهم حق على الأمة، وأن يلتف حولهم عامة الناس أو خاصة طلاب العلم، كما أن الأصل ألا يرفعوا فوق رءوسهم رايات أو شعارات، ثم يطلبون الانتماء إليهم.. ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة مع الأسف؛ لأن رفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة ليس هو من سمت السلف، بمعنى: إخضاع العلم للدعاية أو للشعارات أو الانتماءات هذا لم يكن من سمت السلف، بل هو من خصال أهل الأهواء والفرق.
بيان كون العلماء هم الدعاة أصل في الكتاب والسنة
تركز مفهوم الفصل بين العلماء والدعاة في أذهان بعض المسلمين وفي الواقع
وهذا المفهوم تركز ليس في الأذهان فقط، بل حتى في الواقع، أي: فيما تعيشه الدعوات، وما يعيشه الدعاة في كثير من بلاد العالم الإسلامي، وكما أسلفت بأن من سمات أهل البدع: التفريق بين الداعي والعالم؛ لأنهم كانوا يتخذون رءوساً جهالاً.
والداعية عندهم -أي: عند أهل الأهواء والبدع- من يخضع لأهوائهم ويلتزم بها، ويقول بمقولاتهم وينشرها وينتصر لها.
ونجد هذا الأمر جلياً في الفرق الأولى كالخوارج، فإن دعاتهم ليسوا هم العلماء، لا فيهم ولا في غيرهم، وكذلك الرافضة فإن دعاتهم جهالهم، والمعتزلة والقدرية وأهل الكلام وسائر الفرق هم الذين يفصلون بين الدعوة وبين الفقه في الدين؛ لأنهم قوم يقل فيهم الفقه في الدين، وأكثر زعمائهم ودعاتهم إنما يمتازون بالولاء للافتراق الذي هم فيه، والولاء للمقولات التي هم عليها، ولا يفقهون من الدين إلا القليل، بل ومنهم من لا يفقه شيئاً.
وأغلب دعاة هذه الفرق الذين نشروها في الأقاليم في البلاد الإسلامية قديماً من الجهلة، ومن العوام الذين لهم أهداف من أغراض أو عصبيات.. أو غيرها.
أسباب ظهور ظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة
أولاً: أننا لابد أن نحمل هموم جميع المسلمين في كل بقاع الأرض، وهذا واجب شرعي على كل داعية وعالم، لا أن نحمل هم المسلمين في إقليم واحد، بل في جميع بقاع الأرض؛ لأن الأصل في المسلمين أنهم أمة واحدة، ومن مقتضى النصح والإشفاق عليهم بيان ما فيهم من خير وتشجيعهم عليه، وبيان ما فيهم من أخطاء وتنبيههم ونصحهم بالعدول عنها.
ومن هذا المنطلق سأتوقف كثيراً عند ذكر بعض ظواهر الخطأ في بعض الحركات الإسلامية المعاصرة خارج هذه البلاد.
ثانياً: أن هذه الظاهرة -أعني: الفصل بين العلماء والدعاة- قد بدأت تبرز عند بعض الشباب عندنا، وبعض المثقفين والمفكرين لسبب أو لآخر، ومن هنا كان لابد من الكلام عن أوضاع الدعوات المعاصرة بمجملها في جميع العالم الإسلامي، وليس في بلد واحد.
ولذا نجد أن هذه الظاهرة قد تأصلت حتى في أعمال الدعاة وحركاتهم ومواقفهم وأعمالهم ومناهجهم، فصاروا يفصلون بين العالم والشيخ، وبين العالم والداعية، وأدى هذا الفصل إلى عواقب وخيمة سأذكر شيئاً منها.
وأصبح الداعية عندهم هو من ينشط في الدعوة؛ لتحقيق مراد أصحابها، أو لتحقيق أهدافها، أو يواليها ويرفع شعارها، ويجمع الناس حوله على هذا الشعار، فهذا هو الداعية عند كثير من الدعوات المعاصرة بصرف النظر عن علمه وفقهه، بل الغالب أنه يكون من قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي، والمشايخ بمفهوم هؤلاء القاصرين ليسوا بدعاة، ولا يصلحون بأن يسهموا في الدعوة، أو أن يدخلوا في إطارها أو في نطاقها؛ لأن فيهم وفيهم!
العواقب الوخيمة من جراء الفصل بين العلماء والدعاة
أولاً: اتخاذهم رءوساً جهالاً أغلبهم لا يفقهون من الدين إلا ما يحلو لهم، وغاية ما يملك بعضهم من العلم إنما هو مجرد أفكار وثقافات أشتات، بل زاد كثير منهم مجرد العواطف والحركة، حتى كاد يكون مصطلح الداعية عندهم من ليس بعالم، وأن العالم ليس بداعية، وأحياناً يقولون: فلان داعية، يعني: ليس بعالم، وفلان شيخ من المشايخ، يعني: ليس بداعية!
ثانياً: قلة وجود العلماء والمشايخ المتفقهين في الدين، والمتضلعين في العلوم الشرعية في أكثر الدعوات المعاصرة، مع أن وجود أهل العلم المتفقهين في الدين هو شرط من شروط الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة الدعوات الكبرى التي ينضوي تحت لوائها مجموعات وفئام من الناس، فهذه لا ينبغي أن يفقد فيها العالم، أو يكون العالم فيها مغمور، أو لا يتصدر الدعوة.
ثالثاً: قصور النظرة في فهم قدر ومنزلة العلماء والمشايخ عند كثير من أتباع هذه الدعوات، ومن هنا وجد من بعضهم اتهام للعلماء بالقصور أو التقصير أو قلة الوعي، أو أي نوع من أنواع التنقيص؛ لتبرير عدم صلة الدعاة بالعلماء، بل إن بعض الدعاة يرفع نفسه ودعوته على حساب الكلام في أعراض العلماء، وهذا الأمر وإن كان مؤلماً لكن لابد من ذكره، ولابد من السعي لعلاجه.
رابعاً: توريط بعض شباب الأمة بالانتماء للشعارات والقيادات الدعوية أكثر من الانتماء لأهل السنة والجماعة، ولأهل العلم من المشايخ والعلماء.
خامساً: فصل الشباب عن أئمتهم ومشايخهم وعلمائهم، وحجبهم عن النظرة الشرعية الشمولية للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وعن غاياتها ومناهجها، وعن النظرة إلى أئمة السنة قديماً وحديثاً، بل إن بعض الدعوات تربي شبابها على جوانب من مناهج السلف؛ لتخدم أهدافها أو تخدم الجماعة وشعاراتها، وتغفل الجوانب الأخرى من السنة والعلم، وهذه من أساليب أهل الأهواء وأهل البدع، فيأخذون من الأئمة ومن العلماء ما يحلو لهم من قول أو فعل ويتركون الباقي، وهذا خلل في النظرة وخلل في المنهج.
سادساً: نتج عن هذا الفصل بين الدعاة والعلماء كثرة الشعارات والأهواء والانتماءات والافتراقات والعصبيات لجماعات أو لأشخاص، مع العلم أن الأمة لا يجمعها على السنة والخير إلا علماؤها، ومهما بالغت الفرق أو مهما بالغت الجماعات والدعاة في أي مكان وفي أي زمان للسعي إلى جمع المسلمين دون الاسترشاد بأهل العلم، ودون أن يجعلوا هم القادة وهم الموجهين وهم المرشدين للدعوات فإن الشمل لن يجتمع.
سابعاً: نتج عن هذا العزل بين العلماء والدعاة أن نشأ في الدعوات المعاصرة أو بعض الدعوات -لئلا نظلم الذين هم على استقامة- مناهج وأفكار وكتب ومؤلفات معزولة عن السنن، وعن العلوم الشرعية بشموليتها، بل وحتى بتفصيلاتها، وصارت كل طائفة تأخذ من العلوم الشرعية ما يناسب أوضاعها، وهذا أسلوب من الأساليب الخاطئة التي تخالف منهج السلف، بل حتى نشأ في الدعوة في بلاد العالم الإسلامي علم يشبه علم الكلام لدى الجماعات في ارتباطه بالأهواء والأشخاص لا بالسنن والأئمة.
كما برزت في الآونة الأخيرة نتيجة لهذا الفصل بين الدعاة والعلماء دعوات كبرى، قوامها وركائزها رءوس ليسوا بعلماء، وتعتمد على أفكار وحركات محدثة تخالف هدي الإسلام، وعلى عواطف لا تضبطها القواعد الشرعية ولا المصالح المعتبرة.
ثامناً: نتج أيضاً عن هذا الفصل التقصير في طلب العلم الشرعي على أصوله ومناهجه السليمة الصحيحة، بل نتج عن ذلك الحيلولة بين أتباع الدعوات وبين تحصيل العلم عن المشايخ، حتى إن كثيراً ما ترد إشكالات وشكاوى من بعض الشباب في شتى العالم الإسلامي، يشكون فيها من صرف بعض الدعاة لأتباعهم عن العلماء بذرائع شتى، بل إن بعضهم -كما علمت وتأكدت من هذا- قد يعاقب الشاب الذي ينتمي إليه بسبب لماذا جلس يطلب العلم الشرعي على الشيخ فلان؟!
ونتيجة لذلك حصل الخلل، فقد فهم بعض الدعاة -هداهم الله- بسبب العزلة بينهم وبين المشايخ: أن المشايخ أعداء للدعوة، وسبب ذلك أن في دعواتهم أمراضاً ومصائب لا يرضاها العلماء، وقد ينتقدونها، فمن هنا تعللوا بصرف شبابهم عن المشايخ وعن أهل العلم والفقه في الدين، وهذا مسلك خطير ينبغي ألا يستمر، بل يجب مناصحة هؤلاء الدعاة وبيان الحق لهم.
تاسعاً: في بعض الدعوات التي تسلك هذا المسلك ظهرت فئام من الجماعات والدعاة والشباب في البلاد الإسلامية عددها ليس بالقليل، شيوخهم بعضهم على قلة في الفقه وضعف في العلم، أو شيوخهم كتبهم، فيرشحون ما يريدون من كتب فكرية وثقافية، وأغلب ما تعتمد عليه هذه الجماعات الكتب الفكرية والثقافية أكثر من الكتب الشرعية، وقادتهم مع الأسف جهالهم، وأحكامهم أهواؤهم، مما أدى ذلك إلى الخلط والخبط عند بعض هؤلاء في العقائد وفي الأحكام، بل وفي المواقف وفي قضايا الأمة الكبرى، وفي التصرفات الطائشة التي تحدث من بعضهم، وفي صدور الأحكام المتعجلة.. ونحو ذلك من المظاهر التي نراها في فئة من الشباب، وإن كانت فئة -بحمد لله- قليلة، لكن القليل في مثل هذه الأمور يجب ألا يستهان به، بل ينبغي علاجه، فإنه إذا كثر فقد يصعب أو يستحيل علاجه.
كلمة إنصاف
النوع الأول: طلاب العلم الشرعي، فنحن في هذه البلاد أشهد أني أرى عليهم علامات الرشد، والالتفاف حول العلماء، والاسترشاد بهم والتلقي عنهم، وهذه ظاهرة سارة وهي الأصل، وينبغي أن نشجع الشباب عليها وسائر طلاب العلم.
كما أني أرى من المظاهر السارة للشباب: استقامة العقيدة، واستقامة السلوك، والحرص على تلقي العلم الشرعي بمناهجه وأساليبه الصحيحة من مصادره الأصلية، كتب السلف المستمدة من الكتاب والسنة، وعلى أهله وهم العلماء أئمة الدين، والمشايخ الذين هم القدوة، وهذه ظاهرة تبشر بخير، لكن مع ذلك هناك بعض الظواهر التي أشرت إليها، والتي هي أحياناً قد تكون من النتائج الطبيعية للإقبال الكبير، وبحمد الله فإن غرس الله قد ظهر، وريح الإيمان قد هبت، وإقبال الشباب منقطع النظير، حتى يكاد يكون أكبر من أن يتحكم به بالإرشاد والتوجيه.
وهذا أمر يجب أن نفرح به وأن نستبشر به، وهو علامة خير وبركة، ولله في ذلك حكمة هو يعلمها، ولا يمكن أن يكون هذا الإقبال على الخير مجرد ظاهرة اجتماعية، أو مجرد ردة فعل لأوضاع سيئة كما يقال، بل الأمر أكبر من ذلك، فالأمر هو من مراد الله، ومن سننه التي لا تتبدل ولا تتخلف، فقد بلغ السيل الزبى، وقد طغى الزبد، ولابد أن يذهب الزبد جفاء، ولا يمكن ذهابه إلا بجهود بشر، والبشر الذين يصطفيهم الله لابد أن يكونوا على علم وفقه في الدين، وأظن أن الله سبحانه وتعالى اصطفى هذا الجيل الخيِّر ليقوم بدور عظيم طالما تخلف عنه المسلمون في نصرة الإسلام ونصرة الحق، وهذا قدر الله وأمره، وهي سنة الله ولا راد لسنته، لكن مع ذلك لابد من علاج بعض الظواهر التي تنشأ بشكل طبيعي من هذا الاتجاه العارم إلى الخير، وإلى طلب العلم الشرعي في هذه البلاد.
وقبل أن أخرج من هذه النقطة أحب أن أنوه عن أمر آخر، وهو أنه بحمد الله يوجد في هذا البلد من المشايخ الذين هم على السنة والاستقامة من فيهم الخير والبركة، كما يوجد من طلاب العلم والدعاة الذين يجمعون بين العلم والدعوة العدد الوافر الذي به -إن شاء الله- ستسترشد وتستنير الدعوات.
النوع الثاني: الدعوات في الخارج، فأنا حينما تكلمت عن بعض الظواهر الماضية فإن كلامي فيه شيء من العموم، لذا قصدت أن أبدأ به، مع أنه كان من الأولى أن أنصف وأن أقول أو أذكر الجوانب الإيجابية والخيرة في الدعوات التي هي في سائر العالم الإسلامي قبل ذلك؛ لكن نظراً لأن الموضوع متعلق بظاهرة الفصل بين العلماء والدعاة، كان لابد من إشعاركم بهذه الظاهرة أولاً، ثم أعود فأقوم بتقدير جهد الدعوات المعاصرة بشموليتها وبعمومها.
وعليه فالدعوات المعاصرة في شتى العالم الإسلامي وفي غير الإسلامي التي تحمل لواء الدعوة فيها خير كثير، رغم ما يعتريها من نواقص ومن خلل، وإذا قارناها بأحوال المسلمين فإنها أصلح من أحوال عامة المسلمين، ورجالها ودعاتها وشبابها لاشك أنهم قاموا بواجب قصر فيه غيرهم، ويكفيهم أنهم احتسبوا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ورفعوا رايتها، وتعاطفوا من أجل الإسلام، وانتصروا للإسلام في قضاياه الداخلية والخارجية كل بقدر جهده وبأسلوبه.
وهذا فضل لهم لابد أن يذكر ويشكر، ثم إن الدعوات المعاصرة أيضاً ليست كلها وقعت فيما ذكرت، بل البعض منها، وإلا ففيها من هو على السنة والاستقامة في السلوك والعمل والنهج الصحيح، وفيها ممن يتلقى عن العلماء، وأظنكم تعفوني من الأمثلة؛ لأن الأمر في مثل هذه المحاضرة لابد أن يأخذ صيغة العموم، وكذلك أن هذا لا يتناسب مع ذكر الأسماء والشعارات.
أقول: إن بعض الدعوات في سائر العالم الإسلامي وفي غيره التي تحمل لواء الإسلام بعضها على خير وبركة، وفيها القدوة والأسوة، لكنها ليست هي الكثيرة، بل الأكثر من أصحاب الشعارات والدعوات الكبرى هم من ذكرت ممن فيهم أخطاء، وما هم فيه من أخطاء يستوجب التحذير منها أولاً، وثانياً: يستوجب النصح لهم والإرشاد والبيان، وأحسبهم -إن شاء الله- ممن يريد الحق ويسعى إليه؛ لأنهم ما رفعوا لواء الدعوة -وهذا ما ينبغي أن نظنه- إلا حسبة لله، وإلا أيضاً بحثاً عن الحق، فمن هنا أتعشم فيهم وفيكم الخير، كذلك أن يكونوا من رواد الحق وأن يقبلوا النصيحة.
المسألة الأولى: التعريفات المتعلقة بعنوان المحاضرة: (العلماء هم الدعاة).
فالعلماء: هم العلماء بالشرع العالمون به، والمتفقهون في الدين، والعاملون بعلمهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، والداعون إلى الله على هدى وبصيرة.
وعلى هذا فالعلماء بحسب هذا التعريف هم الدعاة بداهة؛ لأنهم هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم الدعاة، وأجدر من يتصدر للدعوة بعد الأنبياء -وقد انقضت النبوة وانتهت- هم العلماء؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والعلماء هم حجة الله في أرضه على الخلق، والحجة لا تقوم إلا على لسان داعية وعالم وقدوة، وعلى هذا فهم أجدر الناس بالدعوة.
والعلماء هم أهل الحل والعقد، وهم المؤتمنون على مصالح الأمة العظمى، وعلى دينها وعلى أمنها، ومن باب أولى أن يكونوا هم المؤتمنين على الدعوة.
والعلماء هم أهل الشورى، وإذا كانوا يستشارون في جميع مصالح الأمة وفي دينها ودنياها، فمن باب أولى أن يكونوا هم أهل الشورى في الدعوة وقيادتها.
والعلماء هم أئمة الدين، والإمامة في الدين فضل عظيم وشرف ومنزلة رفيعة، والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة، وما الدين إلا الدعوة وما الدعوة إلا الدين.
والعلماء هم أهل الذكر، وعلى هذا فهم أهل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والعلماء أفضل الخلق، وأفضل الخلق هو الداعي إلى الله، والداعي إلى الله هو أفضل الخلق.
والعلماء هم أزكى الناس وأخشاهم لله، وإذا كانوا كذلك فهم أجدر بأن يدعو إلى الله على هذه الصفات، وهم الأجدر بأن يكونوا هم القواد والرواد للدعوة.
والعلماء هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وما غاية الدعوة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً: فالعلماء هم الدعاة، وهذا على وجه العموم، وهم أهل لهذه الخصال على وجه العموم، ولا يلزم أن تتوافر هذه الخصال في كل عالم، فالكمال لا يكون إلا لله سبحانه، لكنهم في الجملة، أي: العلماء، هم أهل لهذه الخصال بجملتها.
والعلماء لا يمكن أن تخلو أرض منهم، وهذا دفع لدعوى قد يدعيها بعض الجهلة ممن ينتسبون للدعوات بأنه لا يوجد علماء قدوة، أو أن العلماء الذين يقتدى بهم مفقودون، أو نحو من هذه الدعاوى التي لا تجوز شرعاً، بل هي مخالفة للواقع ولصريح النصوص، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين، وتكفل ببقاء طائفة من هذه الأمة ظاهرة منصورة، وأمرها بين، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بأهل الحجة وهم العلماء، والصفات التي قد ذكرتها تتوافر في مجموعهم في كل زمان وفي كل مكان، وكل وقت وكل مكان بحسبه.
أما بالنسبة للدعاة وقد عرفنا أن العلماء هم الدعاة، لكن تنزلاً للمصطلحات والألفاظ، فإنا نقول: الدعاة هم الداعون إلى الله على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى بصيرة وفقه في الدين، وأول من تتوافر فيهم هذه الصفات هم العلماء؛ لأن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ولا شك أن أتباع الأنبياء بالأولى هم العلماء.
والدعوة: هي السعي لنشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقاً وبذل الوسع في ذلك، ويتحقق هدف الدعوة إلى الله بالعلم والعمل والقدوة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح، وهذه الأركان -على الأصح- أكثر ما تتوافر في العلماء، وهنا قد يرد سؤال عند بعض الناس:
هل الدعوة مقصورة على العلماء؟ أو نقول بلفظ آخر: لا يدعو إلى الله إلا عالم؟!
فالجواب: لا؛ لأن أي مسلم قد عرف شيئاً من الدين وتبصر به لزمه أن يدعو إليه بعد هذا التبصر وفقه المسألة، وهذا هو الذي تتوجه إليه النصوص الشرعية، وعليه عمل السلف.
أما قيادة الدعوة وريادتها وتوجيهها فلابد أن تكون من العلماء وفي العلماء، فيتصدرون الدعوات في كل أمر ذي بال، وعليه لابد أن نجعلهم هم القادة، وهم المرجع، وهم الموجهين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يكفي أن يكونوا مجرد مستشارين عند الحاجة كما يفعل كثير من الدعاة.
كذلك قد يرد سؤال آخر أو استدراك آخر ألا وهو: العلماء لم يرفعوا راية للدعوة.
فأقول: هذا الإشكال إن صح فهو يحتاج إلى تعديل، وهو أن الأصل في أهل العلم أن يسعى إليهم؛ ولا يسعوا إلى الناس، والأصل في أهل العلم أن يكون لهم سمت، وأن يكون لهم حق على الأمة، وأن يلتف حولهم عامة الناس أو خاصة طلاب العلم، كما أن الأصل ألا يرفعوا فوق رءوسهم رايات أو شعارات، ثم يطلبون الانتماء إليهم.. ونحو ذلك مما هو من لوازم بعض الدعوات المعاصرة مع الأسف؛ لأن رفع الرايات والشعارات للدعوات من قبل من لهم شأن في الأمة ليس هو من سمت السلف، بمعنى: إخضاع العلم للدعاية أو للشعارات أو الانتماءات هذا لم يكن من سمت السلف، بل هو من خصال أهل الأهواء والفرق.
المسألة الثانية: لابد من البيان بأن الأصل في الكتاب والسنة وما اتفق عليه جمهور سلف هذه الأمة -وهو هديهم- أن العلماء هم الدعاة، وأن الدعاة هم العلماء، وأن غيرهم تبع لهم، وكما أسلفت: فكل طالب علم وكل مسلم عليه أن يدعو إلى الله بقدر وسعه، وعلى بصيرة في الأمر الذي يدعو إليه، لكن كل ذلك مشروط بالتبعية لأهل العلم؛ لأنهم هم قادة الأمة، وهم أهل الحل والعقد فيها، وهم جماعتها.
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المعيار في معرفة المتشبهين بالكفار | 3329 استماع |
أحكام الأعياد | 3184 استماع |
توجيهات في طريق الصحوة | 3031 استماع |
مسلمات في العقيدة | 3019 استماع |
حقيقة التدين | 2994 استماع |
علامات الساعة وقيامها | 2908 استماع |
الوسواس أسبابه وعلاجه | 2787 استماع |
منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالفين | 2720 استماع |
مصير الانسان | 2494 استماع |
مفتريات حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب | 2472 استماع |