شرح الأربعين النووية - الحديث السابع والثلاثون


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فهذا الحديث السابع والثلاثون في فضل الله ورحمته.

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.

في هذا الحديث النبوي الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه كتب الحسنات والسيئات، و(كتب) هنا بمعنى: أعلم الملائكة كيف تكتب الحسنات والسيئات على بني آدم، وما يكون موقفهم عند عمل العبد فعلاً أو عزمه على العمل، وبين لهم الهم بالفعل والتنفيذ العملي، وعلمهم ماذا تكتب الملائكة على الإنسان في هذا كله.

فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بمعنى: بين منهجاً للملائكة كيف تكتب إذا عمل العبد فعلاً أو عزيمةً.

وقيل: المعنى يرجع إلى القضاء والقدر، أي: أن الله قدر الحسنات والسيئات، ولكن تتمة الحديث تؤيد المعنى الأول؛ لأن الحديث يبين ماذا للعبد في عمله وماذا للعبد في عزمه على العمل فهو بيان الإحصاء، وكيفية تسجيل الملائكة على العباد أعمالهم.

فبين النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام الأربعة وهي: الهم بالحسنة، وفعل الحسنة، والهم بالسيئة، وفعل السيئة، ويلحق بذلك ترك فعل السيئة، فهي أربعة أقسام يلحقها قسم خامس، وبدأ صلى الله عليه وسلم ببيان أمر الحسنة فقال: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعين ضعفاً، إلى سبعمائة ضعف، إلى إضعاف كثيرة هذا مبدئياً، ويقابل هذا قوله: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة؛ لأنه ترك السيئة، ولو فعلها كانت سيئة واحدة.

متى يكون العزم أو الهم مؤاخذاً عليه أو غير مؤاخذ عليه؟ وهل المضاعفة قاعدة عامة مطردة أم أن لها أحوال استثنائية فتتضاعف السيئات وتتضاعف الحسنات؟

أجر الهم بالحسنة

قوله عليه الصلاة والسلام: (من هم بالحسنة)، الحسنة هي: كل ما جاء في الشرع الحث على فعله من الواجبات أو من المستحبات، من الفروض ومن النوافل، سواء كانت قولاً أو فعلاً، فلو أراد أن يصلي ركعتين، فجاء إنسان وجلس إليه وشغله عنها، فله حسنة، أو أراد أن يصوم يوماً فجاء ضيف وشغله عن الصوم، فله حسنة، وأراد أن يتصدق بجزء من المال فعرضت له حاجة ملحة فأنفق فيها هذا المال، فله حسنة، فكل هذه الأعمال من هم بها، ولكن عرض له عارض أوقف إتمام العمل بها، فحكم هذه النية الحسنة والهم بتلك الحسنة الطيبة، أن يكتب الله له في ذلك أجر، ويكتبها الله عنده حسنة كاملة.

وجاء التأكيد بكلمة: (كاملة) حتى لا يظن ظان بأنه يكتبها حسنة دون الحسنات المعتادة، بل هي حسنة بكمالها.

ويستدل العلماء على اعتبار النية والقصد، -خاصة في فعل الخير- بما جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يعرف حق الله فيه، فيؤدي حق الله، فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً، فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه من الخير والحسنات كما يعمل فلان، فهما في الأجر سواء)، فهذا شخص لم يعط مالاً ولم ينفق، ولكن لما كان حريصاً على الخير، ولم يمنعه منه إلا قلته أو عدم وجوده، كان بحسن نيته وبعزمه على الفعل مع الفاعل بالفعل متساويين في الأجر.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات: (إن بالمدينة أقواماً ما هبطتم وادياً ولا صعدتم مرتفعاً، إلا شركوكم في الأجر، أقعدهم العذر).

إذاً: حسن القصد وحسن النية يلحق العبد -إذا لم يتم له الخير لعجز أو تقصير أو مانع- بمن فعل ونفذ الفعل مباشرة، ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائماً، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائماً على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناوياً فعله.

مضاعفة ثواب الحسنات

يكون للمؤمن بحسن النية أجر على ما لم يفعله، فإن عمل الحسنة بالفعل كتبت له عشر حسنات، وهذا هو الحد الأدنى في محاسبة المولى سبحانه لعباده، كما قال الله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] وهذا هو الحد الأدنى لجميع الناس في جميع الحسنات، ولكن في الحديث يقول: (إلى أضعاف كثيرة) أي: يضاعف لمن يشاء إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وجاء في القرآن الكريم إلى سبعمائة كما جاء في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261] والسبعة في مائة تساوي سبعمائة وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] يعني: فوق السبعمائة، فيضاعف الحبة فوق ذلك لمن يشاء.

فأي الحسنات التي تتضاعف، وأي الحسنات التي تقف عند العشر؟

يقول العلماء: المضاعفة ليس مردها للفعل من حيث هو، ولكن للفاعل ولظروف الفعل، فإذا كان الإنسان مقبلاً على العمل بنية خالصة وإقبال على الله، وراغباً في الخير، ومؤمناً بوعد الله، فهو ليس كشخص يساق إلى العمل سوقاً، فإذا وجبت الزكاة على رجل، فتلكأ فيها حتى أخذها منه الإمام، فليس كالشخص الذي يبادر، وينتقي خير ماله، ويدفع الزكاة طيبة بها نفسه، وهو يرجو فضل الله!

أيضاً: لا يستوي الشخص الذي يؤمن بجزائه على عمله، ويعلم أنه يتعامل مع الله على حد قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]؛ والشخص الذي يخشى من الإمام، ويخاف عقابه لعدم إخراج في الزكاة، فيحاول أن يخرج الواجب فقط، فذاك شخص يريد الكمال في الأداء؛ وهذا شخص يريد أن يقف عند أدنى حد الإجزاء فهل هما سواء؟!

ليسوا سواءً، فالشخص الذي يحاول أن يقف عند أدنى حد فيما يجزئه؛ ليس كالشخص الذي يصل إلى القمة فيما يجب عليه، فالمولى سبحانه ينظر إلى قلب هذا المؤمن، وقلب هذا المؤمن، فيضاعف لمن يشاء بقدر قوة إيمان كل منهما: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فبقدر الإخلاص في القلب، وبقدر الإيمان تكون زيادة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.

فمثلاً: في الصلاة يكون الناس في صف واحد، يركعون ركوعاً واحداً، ويرفعون رفعاً واحداً، ويسجدون سجوداً واحداً، ويكون ما بين صلاة هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب! فهل هما سواء، ليسوا سواءً.

وبعض العلماء يقول: المضاعفة تكون خاصة للصدقة في سبيل الله، وما كان من الأمور الأخرى كصدقة لفقير أو مسكين أو لقضاء حاجة فهي تضاعف إلى حد العشرة، والذي في سبيل الله هو الذي يتضاعف إلى سبعمائة، ولكن قد تضاعف صدقة المسكين في حاجة، من الحاجات أشد خطراً، وأعظم بالاً، وأشد احتياجاً عند هذا المسكين من تلك الأموال التي تذهب في سبيل الله، فالمضاعفة تكون بحسب الواقعة وبحسب الشخص.

وقالوا أيضاً: الحسنات تزداد وتتضاعف بحسب قلب صاحبها ويقينه وإيمانه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات فقال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة قال: والمقصرين) فحينما دعا صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقصرين؟ أي: لماذا لم تترحم عليهم؟ وما بال المحلقين تخصهم بهذا الدعاء؟ قال العلماء: المحلقون ما كانوا في أي شك، وما شكوا في الأمر بالتحليق، فحلقوا شعورهم وهم موقنون كل اليقين بأن هذا هو الحق، وأن هذا هو الحكم، وأن هذا هو امتثال أمر الله ورسوله؛ لأنه أمرهم أن يحلقوا رءوسهم، ولكن المقصرين لم يطمئنوا لذلك، فكأن المقصر يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، والمقصر مقصر في حد ذاته كما يقولون.

إذاً: ليسوا سواء، وفرق بين الذي يقبل على العلم إيماناً ويقيناً وبين الذي يدفع إليه دفعاً.

إذاً: تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن.

مضاعفة الحسنات في الأوقات والأماكن الفاضلة

وتتضاعف الحسنات أيضاً بحسب المكان والزمان، ومضاعفة الحسنات في الزمان والمكان جاءت فيه النصوص الكثيرة، فمن حيث الزمان نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل بعض أوقات الزمن من ساعة ومن يوم ومن ليلة ومن شهر على بعض، وكل ذلك جاءت فيه النصوص.

فمن المفاضلة في ساعة من الأربع والعشرين الساعة ساعة يوم الجمعة، قال عليه الصلاة والسلام: (فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)، وهذه ساعة في يوم الجمعة، ويوم الجمعة بكامله أيضاً أفضل أيام الأسبوع، وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على كثرة الصلاة والسلام عليه في ذلك اليوم، ووهو يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه سرت الملائكة إليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه.

وكذلك عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة)، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، فتلك الأيام لها فضائلها، وتتضاعف فيها الأعمال ما لا تتضاعف في غيرها.

وشهر رجب جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً جاءه وسلم عليه، فرد عليه السلام وكأنه لم يبال به، فسأله: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: من أنت؟! قال: أنا الرجل الذي جئتك العام الماضي وأسلمت ورجعت، قال: قد تغير حالك، وكانت صفتك كذا وكذا، فقال: منذ فارقتك ما أفطرت يوماً أي: كان مداوماً على الصيام قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، أو صم الإثنين والخميس، أو صم يوماً وأفطر يوماً، وصم من الأشهر الحرم وأفطر)، فالأشهر الحرم يستحب الصوم فيها، والصوم فيها أفضل من غيرها.

وكذلك العشر الأول من ذي الحجة، بين صلى الله عليه وسلم: (أنه ما عبد الله في أيام خيراً منها)، وأقسم الله بها في قوله: وَالْفَجْرِ [الفجر:1] وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2].

وكذلك ليلة القدر هي خير من ألف شهر، أي: من ثلاث وثمانين سنة، فهذه من الأوقات الفاضلة التي فضلها الله على غيرها، والتي تتفاضل فيها الأعمال.

ونأتي إلى الأمكنة: فهذا المسجد النبوي (صلاة فيه تعدل ألف صلاة)، وهذا لا يتعلق بالمصلي، إنما أوقعت الصلاة في مكان منحه الله فضل مضاعفة الصلاة، وجاء في حديث ضعيف مذكور في أعذب الموارد: (رمضان بالمدينة يعدل سبعين رمضان في غيرها)، لكن هذا حديث سنده ضعيف، لكن حديث (ألف صلاة) صحيح ثابت.

وإذا جئنا إلى مكة: (فصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة)، فالأمكنة تتضاعف فيها الحسنات.

مضاعفة السيئات

وهل السيئات تتضاعف أيضاً؟

الحديث فيه: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، إن قيل: كيف يهم بالسيئة وإذا لم يفعلها تكتب له حسنة، فكل الناس يهمون بالسيئات؟!

الجواب: إذا هم بالسيئة وترك فعلها، فإنا نسأل: ما موجب الترك؟ هل تركها رغبة عنها من أجل خوفه من الله، أو تركها لعارض منعه قهراً؟

يختلف العلماء في هذه النقطة فقط، فبعضهم يقول: إن هم بالسيئة ولكنه لم يفعلها لمانع قاهر له، فإنه يأثم على هذا الهم، يقولون: لأنه يوجد خاطرة وفكرة، وهمٌّ وعزيمة.

فالفكرة والخاطرة: شيء يخطر بالبال ويمر، ولا يبقى عندك، ولا تتردد الخاطرة في فكرك، فإن استقرت في قلبك فهي هَمٌ وتصميم، فإن أردت التنفيذ فهو العزم، فالعزم هو: الهم الأكيد، والهم والهمة: أخذ الأهبة للعمل.

فإذا هم الرجل بسيئة فننظر: هل أخذ في أسباب تحقيقها أم هو مجرد خواطر تجول في ذهنه؟ فإذا كان مجرد تفكير بلا عزم، والهم بالتنفيذ لم يأت بعد، فيتفق العلماء على أن مجرد الخواطر ومجرد التفكير قبل الأخذ في أسباب التنفيذ لا يؤاخذ عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس خواطر لا يؤاخذ بها.

لكن إذا جالت الفكرة في فكره وذهنه ثم رسخت وأصبحت عزماً، وهم بالفعل، ولكن عرض له عارض خارج عن إرادته منعه من التنفيذ مع وجود التصميم منه، فهل يقال: تكتب له حسنة، أو تكتب عليه سيئة؟

بعض العلماء يقول: هذه لا يسلم منها؛ لأنه ما منعه من السيئة إلا شيء خارج عن إرادته، وعزمه لا زال موجوداً، فهذا العزم المؤكد على فعلها الذي لم يتراجع عنه يؤاخذ عليه، واستدلوا بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، وهذا الذي كان حريصاً على قتل صاحبه هل موقفه مجرد الحرص ومجرد العزم أم أنه باشر أسباب القتل؟

باشرها، والتقى بخصمه، وجعلا يتضاربان ولكنه عجز، فوجد مع الهم: العزم والتصميم والأخذ في الأسباب ومباشرة السبب، ولكنه عجز، فهذا يأثم على همه هذا، ومثله كمثل شخص أراد أن يسرق، وجلس في بيته، وقال: والله! فلان بيته خالٍ، فلو كسرت القفل، ودخلت لآخذ الفلوس، ثم أشتري سيارة وأذهب إلى مكان كذا، وأخذ يبني قصوراً على الرمال في الخيال وهو في محله! وقال: ليس هذه الليلة، لكن غداً، حتى ما قال: إن شاء الله غداً أذهب وأنفذ، وبات على هذا، وجاء بالمقص الذي يقص القفل، وتركه عنده إلى يوم الغد، ولكن في الغد لم يذهب، وقال: ربما تأتي الشرطة، وربما يأتي صاحبه، وربما المسألة تصل إلى قطع اليد، فترك السرقة، ماذا تقولون في مثل هذا؟

إنه ترك السرقة مع عدم الأخذ بالأسباب، ولم يأت إلى خطوة التنفيذ، فتكتب له حسنة؛ لأنه رجع من قبل نفسه، لكن إذا ذهب بالمقص، ووضع المقص على القفل، وصار يحاول كسره، فسمع نحنحة الحارس آتياً فرمى بالمقص وهرب، فهل هذا هم بسيئة فلم يفعلها، فتكتب له حسنة؟

بل تكتب عليه سيئة واحدة فقط، وهذا من رحمة الله الواسعة، فإنه لم يكتبها سيئتين، وهذه الصورة لا يسلم منها، ولا تكتب له حسنة، والحديث يقول: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، فهل ندخل بينه وبين رحمة الله الواسعة؟! لا، ولكن لا نترك الناس يعبثون.

إذاً: اختلف العلماء فيمن هم بالسيئة، وأعد لها كل العدة، ولم يمنعه منها إلا مانع قهري، فقيل: كيف تكون له حسنة في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم وإن أطلق لكن مقتضيات الأحكام العامة أو مقتضيات النصوص كلها تدل على أنه يأثم، كحديث: (إنما الدنيا لأربعة...) وذكر أن أحدهم قال: لو أن لي مالاً لعملت من الخير مثلما يعمل فلان، فهما سواء في الأجر، (ورجلاً لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً)، فلم يعرف حق الله فيه، فهو في أسفل السافلين؛ لأنه صرف ماله في معصية الله، وعمل المعاصي بالفعل، والرجل الثالث: لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً، فقال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت من الخير ومن المتعة والشهوة مثل ما يفعل فلان، فهو مثله في الإثم، فهذا ليس لديه المال، ولكن تمنى أنه لو تمكن لفعل كما فعل فلان، فلحق به في الدرك الأسفل، فهو همّ وتمنى أن يكون ولكن أعجزه قلة المال.

فإذاً: العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصاً على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهراً؛ فهذا يأثم.

قوله عليه الصلاة والسلام: (من هم بالحسنة)، الحسنة هي: كل ما جاء في الشرع الحث على فعله من الواجبات أو من المستحبات، من الفروض ومن النوافل، سواء كانت قولاً أو فعلاً، فلو أراد أن يصلي ركعتين، فجاء إنسان وجلس إليه وشغله عنها، فله حسنة، أو أراد أن يصوم يوماً فجاء ضيف وشغله عن الصوم، فله حسنة، وأراد أن يتصدق بجزء من المال فعرضت له حاجة ملحة فأنفق فيها هذا المال، فله حسنة، فكل هذه الأعمال من هم بها، ولكن عرض له عارض أوقف إتمام العمل بها، فحكم هذه النية الحسنة والهم بتلك الحسنة الطيبة، أن يكتب الله له في ذلك أجر، ويكتبها الله عنده حسنة كاملة.

وجاء التأكيد بكلمة: (كاملة) حتى لا يظن ظان بأنه يكتبها حسنة دون الحسنات المعتادة، بل هي حسنة بكمالها.

ويستدل العلماء على اعتبار النية والقصد، -خاصة في فعل الخير- بما جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يعرف حق الله فيه، فيؤدي حق الله، فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً، فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه من الخير والحسنات كما يعمل فلان، فهما في الأجر سواء)، فهذا شخص لم يعط مالاً ولم ينفق، ولكن لما كان حريصاً على الخير، ولم يمنعه منه إلا قلته أو عدم وجوده، كان بحسن نيته وبعزمه على الفعل مع الفاعل بالفعل متساويين في الأجر.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات: (إن بالمدينة أقواماً ما هبطتم وادياً ولا صعدتم مرتفعاً، إلا شركوكم في الأجر، أقعدهم العذر).

إذاً: حسن القصد وحسن النية يلحق العبد -إذا لم يتم له الخير لعجز أو تقصير أو مانع- بمن فعل ونفذ الفعل مباشرة، ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائماً، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائماً على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناوياً فعله.

يكون للمؤمن بحسن النية أجر على ما لم يفعله، فإن عمل الحسنة بالفعل كتبت له عشر حسنات، وهذا هو الحد الأدنى في محاسبة المولى سبحانه لعباده، كما قال الله: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] وهذا هو الحد الأدنى لجميع الناس في جميع الحسنات، ولكن في الحديث يقول: (إلى أضعاف كثيرة) أي: يضاعف لمن يشاء إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وجاء في القرآن الكريم إلى سبعمائة كما جاء في قوله: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261] والسبعة في مائة تساوي سبعمائة وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] يعني: فوق السبعمائة، فيضاعف الحبة فوق ذلك لمن يشاء.

فأي الحسنات التي تتضاعف، وأي الحسنات التي تقف عند العشر؟

يقول العلماء: المضاعفة ليس مردها للفعل من حيث هو، ولكن للفاعل ولظروف الفعل، فإذا كان الإنسان مقبلاً على العمل بنية خالصة وإقبال على الله، وراغباً في الخير، ومؤمناً بوعد الله، فهو ليس كشخص يساق إلى العمل سوقاً، فإذا وجبت الزكاة على رجل، فتلكأ فيها حتى أخذها منه الإمام، فليس كالشخص الذي يبادر، وينتقي خير ماله، ويدفع الزكاة طيبة بها نفسه، وهو يرجو فضل الله!

أيضاً: لا يستوي الشخص الذي يؤمن بجزائه على عمله، ويعلم أنه يتعامل مع الله على حد قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]؛ والشخص الذي يخشى من الإمام، ويخاف عقابه لعدم إخراج في الزكاة، فيحاول أن يخرج الواجب فقط، فذاك شخص يريد الكمال في الأداء؛ وهذا شخص يريد أن يقف عند أدنى حد الإجزاء فهل هما سواء؟!

ليسوا سواءً، فالشخص الذي يحاول أن يقف عند أدنى حد فيما يجزئه؛ ليس كالشخص الذي يصل إلى القمة فيما يجب عليه، فالمولى سبحانه ينظر إلى قلب هذا المؤمن، وقلب هذا المؤمن، فيضاعف لمن يشاء بقدر قوة إيمان كل منهما: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فبقدر الإخلاص في القلب، وبقدر الإيمان تكون زيادة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.

فمثلاً: في الصلاة يكون الناس في صف واحد، يركعون ركوعاً واحداً، ويرفعون رفعاً واحداً، ويسجدون سجوداً واحداً، ويكون ما بين صلاة هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب! فهل هما سواء، ليسوا سواءً.

وبعض العلماء يقول: المضاعفة تكون خاصة للصدقة في سبيل الله، وما كان من الأمور الأخرى كصدقة لفقير أو مسكين أو لقضاء حاجة فهي تضاعف إلى حد العشرة، والذي في سبيل الله هو الذي يتضاعف إلى سبعمائة، ولكن قد تضاعف صدقة المسكين في حاجة، من الحاجات أشد خطراً، وأعظم بالاً، وأشد احتياجاً عند هذا المسكين من تلك الأموال التي تذهب في سبيل الله، فالمضاعفة تكون بحسب الواقعة وبحسب الشخص.

وقالوا أيضاً: الحسنات تزداد وتتضاعف بحسب قلب صاحبها ويقينه وإيمانه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات فقال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة قال: والمقصرين) فحينما دعا صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقصرين؟ أي: لماذا لم تترحم عليهم؟ وما بال المحلقين تخصهم بهذا الدعاء؟ قال العلماء: المحلقون ما كانوا في أي شك، وما شكوا في الأمر بالتحليق، فحلقوا شعورهم وهم موقنون كل اليقين بأن هذا هو الحق، وأن هذا هو الحكم، وأن هذا هو امتثال أمر الله ورسوله؛ لأنه أمرهم أن يحلقوا رءوسهم، ولكن المقصرين لم يطمئنوا لذلك، فكأن المقصر يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، والمقصر مقصر في حد ذاته كما يقولون.

إذاً: ليسوا سواء، وفرق بين الذي يقبل على العلم إيماناً ويقيناً وبين الذي يدفع إليه دفعاً.

إذاً: تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن.

وتتضاعف الحسنات أيضاً بحسب المكان والزمان، ومضاعفة الحسنات في الزمان والمكان جاءت فيه النصوص الكثيرة، فمن حيث الزمان نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل بعض أوقات الزمن من ساعة ومن يوم ومن ليلة ومن شهر على بعض، وكل ذلك جاءت فيه النصوص.

فمن المفاضلة في ساعة من الأربع والعشرين الساعة ساعة يوم الجمعة، قال عليه الصلاة والسلام: (فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)، وهذه ساعة في يوم الجمعة، ويوم الجمعة بكامله أيضاً أفضل أيام الأسبوع، وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على كثرة الصلاة والسلام عليه في ذلك اليوم، ووهو يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه سرت الملائكة إليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه.

وكذلك عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة)، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، فتلك الأيام لها فضائلها، وتتضاعف فيها الأعمال ما لا تتضاعف في غيرها.

وشهر رجب جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً جاءه وسلم عليه، فرد عليه السلام وكأنه لم يبال به، فسأله: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: من أنت؟! قال: أنا الرجل الذي جئتك العام الماضي وأسلمت ورجعت، قال: قد تغير حالك، وكانت صفتك كذا وكذا، فقال: منذ فارقتك ما أفطرت يوماً أي: كان مداوماً على الصيام قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، أو صم الإثنين والخميس، أو صم يوماً وأفطر يوماً، وصم من الأشهر الحرم وأفطر)، فالأشهر الحرم يستحب الصوم فيها، والصوم فيها أفضل من غيرها.

وكذلك العشر الأول من ذي الحجة، بين صلى الله عليه وسلم: (أنه ما عبد الله في أيام خيراً منها)، وأقسم الله بها في قوله: وَالْفَجْرِ [الفجر:1] وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2].

وكذلك ليلة القدر هي خير من ألف شهر، أي: من ثلاث وثمانين سنة، فهذه من الأوقات الفاضلة التي فضلها الله على غيرها، والتي تتفاضل فيها الأعمال.

ونأتي إلى الأمكنة: فهذا المسجد النبوي (صلاة فيه تعدل ألف صلاة)، وهذا لا يتعلق بالمصلي، إنما أوقعت الصلاة في مكان منحه الله فضل مضاعفة الصلاة، وجاء في حديث ضعيف مذكور في أعذب الموارد: (رمضان بالمدينة يعدل سبعين رمضان في غيرها)، لكن هذا حديث سنده ضعيف، لكن حديث (ألف صلاة) صحيح ثابت.

وإذا جئنا إلى مكة: (فصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة)، فالأمكنة تتضاعف فيها الحسنات.

وهل السيئات تتضاعف أيضاً؟

الحديث فيه: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، إن قيل: كيف يهم بالسيئة وإذا لم يفعلها تكتب له حسنة، فكل الناس يهمون بالسيئات؟!

الجواب: إذا هم بالسيئة وترك فعلها، فإنا نسأل: ما موجب الترك؟ هل تركها رغبة عنها من أجل خوفه من الله، أو تركها لعارض منعه قهراً؟

يختلف العلماء في هذه النقطة فقط، فبعضهم يقول: إن هم بالسيئة ولكنه لم يفعلها لمانع قاهر له، فإنه يأثم على هذا الهم، يقولون: لأنه يوجد خاطرة وفكرة، وهمٌّ وعزيمة.

فالفكرة والخاطرة: شيء يخطر بالبال ويمر، ولا يبقى عندك، ولا تتردد الخاطرة في فكرك، فإن استقرت في قلبك فهي هَمٌ وتصميم، فإن أردت التنفيذ فهو العزم، فالعزم هو: الهم الأكيد، والهم والهمة: أخذ الأهبة للعمل.

فإذا هم الرجل بسيئة فننظر: هل أخذ في أسباب تحقيقها أم هو مجرد خواطر تجول في ذهنه؟ فإذا كان مجرد تفكير بلا عزم، والهم بالتنفيذ لم يأت بعد، فيتفق العلماء على أن مجرد الخواطر ومجرد التفكير قبل الأخذ في أسباب التنفيذ لا يؤاخذ عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس خواطر لا يؤاخذ بها.

لكن إذا جالت الفكرة في فكره وذهنه ثم رسخت وأصبحت عزماً، وهم بالفعل، ولكن عرض له عارض خارج عن إرادته منعه من التنفيذ مع وجود التصميم منه، فهل يقال: تكتب له حسنة، أو تكتب عليه سيئة؟

بعض العلماء يقول: هذه لا يسلم منها؛ لأنه ما منعه من السيئة إلا شيء خارج عن إرادته، وعزمه لا زال موجوداً، فهذا العزم المؤكد على فعلها الذي لم يتراجع عنه يؤاخذ عليه، واستدلوا بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، وهذا الذي كان حريصاً على قتل صاحبه هل موقفه مجرد الحرص ومجرد العزم أم أنه باشر أسباب القتل؟

باشرها، والتقى بخصمه، وجعلا يتضاربان ولكنه عجز، فوجد مع الهم: العزم والتصميم والأخذ في الأسباب ومباشرة السبب، ولكنه عجز، فهذا يأثم على همه هذا، ومثله كمثل شخص أراد أن يسرق، وجلس في بيته، وقال: والله! فلان بيته خالٍ، فلو كسرت القفل، ودخلت لآخذ الفلوس، ثم أشتري سيارة وأذهب إلى مكان كذا، وأخذ يبني قصوراً على الرمال في الخيال وهو في محله! وقال: ليس هذه الليلة، لكن غداً، حتى ما قال: إن شاء الله غداً أذهب وأنفذ، وبات على هذا، وجاء بالمقص الذي يقص القفل، وتركه عنده إلى يوم الغد، ولكن في الغد لم يذهب، وقال: ربما تأتي الشرطة، وربما يأتي صاحبه، وربما المسألة تصل إلى قطع اليد، فترك السرقة، ماذا تقولون في مثل هذا؟

إنه ترك السرقة مع عدم الأخذ بالأسباب، ولم يأت إلى خطوة التنفيذ، فتكتب له حسنة؛ لأنه رجع من قبل نفسه، لكن إذا ذهب بالمقص، ووضع المقص على القفل، وصار يحاول كسره، فسمع نحنحة الحارس آتياً فرمى بالمقص وهرب، فهل هذا هم بسيئة فلم يفعلها، فتكتب له حسنة؟

بل تكتب عليه سيئة واحدة فقط، وهذا من رحمة الله الواسعة، فإنه لم يكتبها سيئتين، وهذه الصورة لا يسلم منها، ولا تكتب له حسنة، والحديث يقول: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة)، فهل ندخل بينه وبين رحمة الله الواسعة؟! لا، ولكن لا نترك الناس يعبثون.

إذاً: اختلف العلماء فيمن هم بالسيئة، وأعد لها كل العدة، ولم يمنعه منها إلا مانع قهري، فقيل: كيف تكون له حسنة في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم وإن أطلق لكن مقتضيات الأحكام العامة أو مقتضيات النصوص كلها تدل على أنه يأثم، كحديث: (إنما الدنيا لأربعة...) وذكر أن أحدهم قال: لو أن لي مالاً لعملت من الخير مثلما يعمل فلان، فهما سواء في الأجر، (ورجلاً لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً)، فلم يعرف حق الله فيه، فهو في أسفل السافلين؛ لأنه صرف ماله في معصية الله، وعمل المعاصي بالفعل، والرجل الثالث: لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً، فقال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت من الخير ومن المتعة والشهوة مثل ما يفعل فلان، فهو مثله في الإثم، فهذا ليس لديه المال، ولكن تمنى أنه لو تمكن لفعل كما فعل فلان، فلحق به في الدرك الأسفل، فهو همّ وتمنى أن يكون ولكن أعجزه قلة المال.

فإذاً: العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصاً على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهراً؛ فهذا يأثم.

خلاصة كلام العلماء في قوله: (هم بحسنة، وهم بسيئة):

الهم همان:

1- هم مؤكد ومصمم على الفعل بعزم، ولم يمنع منه إلا العجز، كحديث: اللذين التقيا بسيفيهما، فالقاتل موجود همه وعزمه، والمقتول لا ينقص عنه في الهم والعزيمة، ولكن القاتل ظفر بالقتل، والمقتول عجز، فقبل وقوع القتل هما لا يتفاوتان في الهم والعزيمة بل هما سواء، فكل منهما حريص على قتل الآخر، فوجد الحرص والهم المؤكد من كل منهما.

2- هم بمجرد الخطرات، مثل رجل أراد أن يسرق وفكر وعمل كل التخطيط، ولكن لم يرد التنفيذ، وما عنده عزم، بل هو مجرد خاطرة في البال، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقنع بالقليل، ونترك الذنب، فتأتي الفكرة تراوده مرة أخرى في أن يسرق دكان فلان، ثم يقول: لا، هذا مال زائل، وسيأتي ثم يذهب في طريقه، وما أتى بالحرام سيذهب في الحرام، وسأقنع بما أعطاني الله، فهذا الذي يفكر في مجرد السرقة، ولم يكن عنده التصميم والعزم الأكيد، ولم يذهب بالفعل إلى المحل الذي يريد سرقته، فله حسنة.

إذاً: الهم الذي يصحبه العزم المؤكد شيء، والهم الذي هو مجرد خاطرة في البال شيء آخر، ومن هنا يبحث العلماء في تفسير قوله تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع زوجة الملك: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24]، هل كان الهم من الجانبين متساوياً؟ لا والله! قالوا: إن همها كان مع سبق الإصرار والعزم المؤكد؛ لأنها كما قال الله: وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] أي: هلم، أو تهيئت لك، فعندها عزم مؤكد وتصميم سابق على ما تريد، ولكن هم يوسف هو أمر خاطر، وهمه بها ليس هو الهم الذي يؤدي إلى الفعل، فرأى برهان ربه، فهمه هو: الخاطر والغريزة الجبلية في الإنسان، لكنه قاومها ودافعها، ولم يسترسل مع خواطر نفسه مثل زوجة العزيز، فإنها لم يمنعها من تنفيذ ما كانت تريده إلا ما قاله الله: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25]، فهمها وهم يوسف مختلفان، ولذا قال الشاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.

يهمنا قوله في الحديث: (من هم بسيئة فلم يعملها...)، لماذا لم يعملها؟

جاء في بعض الروايات: ( إنما تركها من جرائي)، أي: تركها مخافة الله، فهذا الخوف من الله هو سبب الحسنة التي تكتب له، فكأنها توبة من جديد.

إذا قدر أنه عمل سيئة بالفعل: سرق أو زنا أو كذب فتكتب له سيئة واحدة، ولم يقل: كاملة كما نبه عليه المؤلف رحمه الله، فالحديث أكد الحسنة بأنها كاملة، حتى لا يظن أنها الحسنة رقم اثنين أو رقم ثلاثة، بل هي حسنة كاملة رقم واحد، وجاء هنا بسيئة، وما قال: سيئة كاملة؛ لأن سيئة الفعل ليست كحسنة الفعل، بل قال: (كتبها سيئة واحدة)، وكأن في كلمة (واحدة) نوع من التقليل، نعم هو لم يقل: ناقصة، لكن الفرق في اللفظ واضح، وهو يعطينا نوع تخفيف، ويشعرنا بذلك أنه جاء في بعض الآثار أن العبد إذا أذنب يقول ملك الحسنات لملك السيئات: انتظر لعله يستغفر، انتظر لعله يتوب، إذاً: هي سيئة واحدة، لكنها قابلة للمحو، وقابلة للإزالة، فقد تزول بأي مكفر من مكفرات الذنوب.

يقول العلماء: الحسنة والسيئة تتضاعف -كما أشرنا- بالزمان، وتتضاعف بالمكان، وتتضاعف بالأشخاص، فالصلاة تتضاعف في هذا المسجد النبوي الشريف، والحسنة أيضاً تتضاعف في مكة، وجاء في حديث مضاعفة السيئة في مكة، ولم يأت ذلك في المدينة، بل في مكة، قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فقال: (ومن يرد)، وقد سئل أحمد رحمه الله: هل يحاسب العبد على همه بالمعصية؟ قال: لا، إلا بمكة، ولو كان في عدن ونوى قتل إنسان عند البيت لكتب عليه الوزر، ولو كان خارج مكة ونوى ارتكاب الإثم في مكة فإنه يضاعف له الإثم على ذلك.

ولذلك يقول العلماء: من عصى الملك في بلاطه أو على بساطه ليس كمن يعصي الملك وهو في آخر مملكته وفي آخر بلاده، ولله المثل الأعلى، فحرمة البيت عظيمة عند الله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فلا تحل لأحد، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها إلى يوم القيامة)، ومن هنا كان لها أحكام خاصة، وقال الله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، يأمن فيه الإنسان والحيوان والطير، بل حتى الشجر يأمن أن تقلعه أو تعتدي عليه؛ لأنه في حرم الله، فهو مأوى كل مسلم من مشارق الأرض ومغاربها، فإذا لم يكن الإنسان آمناً على نفسه، آمناً على ماله فكيف يؤدي حق الله؟!




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3518 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3206 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3179 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3129 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3110 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3058 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3041 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2989 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2886 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2871 استماع