شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فعلى كل أمة أن توفر طلبة للعلم ينقطعون لذلك أداءً للواجب على الأمة، ومن نفع العلم لصاحبه ما جاء في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، والعلم الذي ينتفع به ما حصل به النفع ولو مسألة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)، وكقوله: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم).

وسبب ورود حديث: (الدال على الخير كفاعله) أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يطلبه أن يعينه ويساعده، فدله على آخر، فلما ذهب إليه فساعده قال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).

ومن هنا أجمع العلماء على أنه ما من مسلم في الإسلام إلى يوم القيامة يكتب له في صحيفة حسناته حسنة إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها في صحيفته؛ لأنه الدال عليها، وهكذا طالب العلم، وما دل عالمٌ جاهلاً على مسألة له فيها أجر إلا وكان لهذا العالم مثل أجر العامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).

ويذكر الذهبي في ترجمة عروة بن الزبير أنه اجتمع هو ومصعب وعبد الله وكلهم أبناء حواري رسول الله الزبير بن العوام، ومعهم عبد الله بن عمر ، فاجتمعوا في الحجر في ظل الكعبة، فقالوا فيما بينهم: تمنوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال مصعب : أتمنى إمارة العراق، وقال عروة بن الزبير : أتمنى أن يأخذ الناس العلم عني، وتمنى ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة.

يقول الذهبي عن راوي هذا الخبر: وقد نال كل واحد منهم أمنيته، فنال عبد الله الخلافة، ونال مصعب الولاية على العراق، ونال عروة جمع العلم والحديث ونرجو لـعبد الله بن عمر أن يكون قد نال أمنيته أيضاً.

عبد الله بن الزبير بويع بالخلافة على الحجاز ونالها، ومصعب بن الزبير نال ولاية العراق، وكان شجاعاً كريماً معطاءً، وقُتل عبد الله في مكة في خلافته، وقُتل مصعب بالعراق في ولايته، وبقيت أمنية عروة بن الزبير وأمنية عبد الله بن عمر، أو لسنا الآن ننعم ونعيش ونجد العلم مما رواه عروة رضي الله تعالى عنه؟

فأي الأماني والأمنيات بقيت لأصحابها؟ فالخلافة قتلت صاحبها، والإمارة قُتل في ظلها صاحبها، ولكن أخذ الناس عن عروة العلم هو الذي بقي، وما زلنا كلما ذكرنا اسمه نترضى عنه.

فلو تأملنا نتائج الأفراد وأعمالهم فلن نجد مثل العلم أمنية ولا طريقاً يسلكه الإنسان، وقالوا: ولو كان مسألة واحدة.

فتعلم مسألة واحدة خير من عبادة ستين سنة عُمل بها أو لم يُعمل.

ونأتي إلى ما بعد ذلك في التاريخ فنجد قضيتين أيضاً في شخصيتين عظيمتين هما مالك بن أنس رحمه الله وأبو جعفر المنصور وهو في الخلافة، فيأتي أبو جعفر إلى مالك ويقول: يا مالك ! لم يبق في الناس أعلم مني ولا منك، أما أنا فقد شغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وإياك وعزائم وشدائد ابن عمر ورخص ابن عباس يقول مالك: علمني التأليف آنذاك فلا هو في الشدة النهائية، ولا في التراخي والتسيب، بل وسط بين هذا وذاك.

ولما وضع مالك كتابه وتوفي أبو جعفر جاء هارون الرشيد إلى المدينة ومعه ابناه الأمين والمأمون صاحبا ولاية العهد، ونزل هارون في بيت الإمارة، وطلب من مالك أن يأتي بموطئه إليه ليقرأه على ولديه، فأجابه مالك : إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي.

فعلم هارون أنه ينبغي أن يذهب إليه، فجاء هارون إلى بيت مالك، فوجد جارية تستأذن له على مالك ، فأوقفته عند الباب واستبطأ عليه في الإذن ثم أذن له، فقال هارون : ما هذا يا مالك ؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك! قال: نعم. طلبتني وأجبتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، وجئتني فعلمت أنك لم ترد دنيا ولا جاهاً ولا منصباً إنما تريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتهيأ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت وأخذت أحسن ثيابي وأذنت لك. قال: هلم بكتابك فاقرأه علينا، قال: إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: وماذا تريد؟ قال: في المسجد مع طلبة العلم. فعلم خدام هارون ونصبوا كرسياً في المسجد للخليفة، فجاء مالك إلى المسجد للدرس فوجد الخليفة على كرسي والناس من حوله، فبدأ حديثه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم قال: من تواضع لله رفعه، فعلم هارون أنه المعني، فأمر بتنحية الكرسي وجلس مع الناس.

فأين وقف الخليفة أبو جعفر ؟ وأين وقف هارون؟ لقد وقفا على باب مالك؟ وأما الموطأ فهو الكتاب الأول أو الثاني بعد كتاب الله آنذاك، وأول ما دوِّن من سنة رسول الله، كما قال الشافعي: ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، وإن كان بعض الناس يقول: جاء بعده صحيح البخاري ، ولكن هذا مبحث ندعه في جانب.

فلا زال الموطأ -بحمد الله- يتربع في قلوب العباد، ويستنير طلبة العلم بما حواه.

طلب العلم لا يساويه شيء، وفضل العلم لا يوازيه فضل، وشرف العالم بعلمه والعامل بمقتضاه ليس بعده شيء، وهذا فيما يتعلق بمن سلك طريقاً يطلب فيه علماً.

ونجد السلف في رحلتهم لطلب العلم قد ضربوا أروع الصور، فـأبو أيوب الأنصاري يرحل إلى الفسطاط في مصر لطلب حديث، وجابر بن عبد الله يرحل إلى دمشق في طلب حديث، حتى ألف العلماء: الرحلة في طلب العلم.

ونبي الله موسى سأله الناس: هل يوجد من هو أعلم منك؟ فقال: لا. فقال الله له: إن عبداً من عبادي أعلم منك. قال: وأين مكانه؟ فأخبره، فقال: كيف أعرفه؟ قال: خذ معك حوتاً مطبوخاً، وذلك ليتغذى به، فمشى على جانب البحر حتى إذا جاوز المكان قال لغلامه -كما حكى الله عنه-: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:62-65].

وهناك فرق بين قوله: (عجباً) و(سرباً)، فالتعجب من إحياء الحوت الذي كان للغداء، ولكن حينما كان رفيق موسى معه واستراح عند الصخرة، إذا بالحوت يتحرك في مكتله، ويأتي إلى الماء وينزل، فقال تعالى: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61]، أي: جاعلاً سراباً وراءه؛ ليعلم القارئ والناظر أن الحوت حينما وصل إلى الماء لم يختفِ فيه ويذهب؛ لأن هذا يعني أنه قد يكون ميتاً على ما كان عليه، ولكن بعد أن أحياه الله ومشى في الماء ترك السراب وراءه، أي: جعل الماء منشقاً ليتأكد الرائي بأن الحوت قد عادت إليه حياته، ولم يكن مجرد سقوط في الماء ليرسب في قاعه أو يكون في وسط الماء.

فشق طريقاً سرباً ليرى الرائي وليسمع القارئ ويعلم أن الحوت عادت إليه حياته.

والذي يهمنا أن موسى عليه السلام سعى إلى الخضر ليتعلم ما لم يكن يعلمه، ويذكر العلماء في قصة موسى مع الخضر آداب العالم والمتعلم، فقد نبهه الخضر فقال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:67-69].

فقد يكون طالب العلم في بداية أمره يسمع من شيخه حديثاً أو حكماً أو مسألة لا يدرك أو لا يحيط بها فكراً، أو لا يقوى على فهمها وإدراكها، فلا يكن ذلك سبباً في انتقاده لشيخه، او اعتراضه عليه، أو انصرافه عنه وعدم ملازمته والأخذ عنه.

ونعلم جميعاً أن الله سبحانه أعطى الخضر ما لم يعط موسى، وأعطى موسى ما لم يعطِ الخضر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى لو صبر لرأينا علماً واسعاً).

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجد عالما أعلم من عالم أهل المدينة)، ويرى كثير من السلف أن المعني به مالك بن أنس ، وينازع في ذلك ابن حزم ويقول: مالك كان في عصره كثير من زملائه وأقرانه، ومالك كان من قبله علماء ومن بعده علماء.

ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يأتي على الناس وقت يضربون فيه أكباد الإبل لطلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة.

وإذا أخذنا ذلك مع حديث (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) علمنا أن الإيمان لا يكون إلا عن علم، وبوب البخاري رحمه الله: (باب العلم قبل العمل)؛ لقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. [محمد:19]، فاعلم أولاً، وإذا لم يكن العلم وكان الجهل اتخذوا آلهة متعددة، ولما جاءهم الوحي وأمروا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) قالوا لجهلهم: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5]، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الحديث: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) عرفنا من باب اللزوم أن من لازم إرز الإيمان إلى المدينة أن يسبقه العلم ويلتقيان بها.

فتظل المدينة -بحمد الله- دار العلم وعاصمة العلم ومقره، وإن كان قد جاء عليها زمن تعطل فيها بعض الشيء، ولكن لم ينقطع؛ لأنه حينما انتقلت الخلافة إلى الشام كان العلماء هناك، ولما انتقلت إلى العراق كان العلماء هناك، وما خلت المدينة في عصر من عصورها من العلماء، لكن يقلون أو يكثرون.

وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله).

ويذكر البخاري في كتابه الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي أقوام من أقطار الدنيا -أو سيأتيكم أقوام من أقطار الدنيا- يطلبون العلم فأقووهم وعلموهم).

ومعنى (أقووهم) ساعدوهم، أو: آووهم، فكان ابن مسعود كلما جاءه طالب علم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نحن نعلم بأن العلم في أقطار الدنيا، والجامعات الإسلامية وغيرها في المدينة وغيرها من أقطار العالم الإسلامي، ولكن حينما يأتي الطالب إلى الجامعة، ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى جامعات العالم الإسلامي يجد للحديث تلاوة جديدة لا يجدها في غير ذلك المكان؛ إذ كان أول مدرس ومعلم في تلك المدرسة جبريل عليه السلام، فكان يلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمع المسلمون منه، كما جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).

وهكذا كان المسجد النبوي أولى الجامعات الإسلامية بالمسمى الحديث، وكان أول معلم فيه جبريل عليه السلام، فيأتي إلى رسول الله ابتداءً بالوحي، ويأتي إلى جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فيعلمهم أمر دينهم، ومن ثم ما وجد كتاب كتب في العالم، ولا أقيمت صلاة في العالم، ولا نادى مناد على منارة في العالم، ولا صيم رمضان في العالم، ولا أديت زكاة في العالم، ولا جاء حاج من العالم إلا من آثار تعليم هذه الجامعة المحمدية.

فإذا جاء إنسان إلى أكبر جامعات العالم، وسمع كتاب الله، وسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء هو بنفسه وسمع تلك الآية وسمع ذاك الحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ثم والله ليجدن لتلك الآية ولهذا الحديث من الأثر في قلبه ما لم يجده هناك؛ لأن الإنسان يتأثر، ومقوماته تتأثر بالزمان وبالمكان.

فإذا ذهبنا إلى المدرسة أو إلى المعهد، وسمعنا المدرس يشرح حديثاً، أو يشرح آية، ثم جئنا إلى صلاة الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعنا الإمام على المنبر يتلو تلك الآية، أو يتلو ذلك الحديث وجدنا لهذه التلاوة الجديدة ولهذا الحديث -لانطلاقها من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أثراً أعظم في نفوسنا.

وبهذه المناسبة أنبه طلبة العلم بالمدينة أنهم مكلفون من جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمّلهم الوصية والأمانة بأن كل من قدم من الخارج من أقطار الدنيا يطلب علماً فإنه يجب عليهم أن يعلموهم، ويجب عليهم أن يستقبلوهم، ولئن كانت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فتحت أبوابها واستقبلت طلابها، فإن الأحق بذلك والأسبق إليه هو المسجد النبوي الشريف، وأسأل الله تعالى لي ولكم جميعاً التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من طلبة العلم العاملين به، وبالله تعالى التوفيق.

كل ما ذكر في الحديث من تنفيس عن مكروب، وتيسير على معسر، أو ستر على إنسان أعمال فردية، أو أعمال شخصية، ولكن طلب العلم -كما قالوا- أعم؛ لأن خيره ومردوده للآخرين، ولذا قالوا: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.

وجاء في بعض الآثار أن الشيطان جاء إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني العالم الجليل، والعابد الفاضل، فجاءه في محرابه في الليل وهو يتهجده وأضاء له نوراً شديداً في المحراب، ونادى: يا عبد القادر ! أنا اليقين قد أتيتك فأسقطت عنك التكاليف، كما قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وها أنا اليقين. فقال: إخسأ يا لعين! لو أن التكاليف تسقط عن أحد لكان أحق المكلفين بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فانقلب النور إلى دخان، وقال: والله لقد نجوت مني بعلمك، ولقد أضللت مائة عابد بذلك..

ذكر في الحديث أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء إلى عابد راهب في صومعته فقال: أرايت لو تبت أيتوب الله علي؟ قال: أعوذ بالله، فبعد تسعة وتسعين لا توبة لك. فأكمل به المائة، ثم جاء إلى عالم فقال: هل لي من توبة؟ قال: سبحان الله! ومن يحول بين العبد وربه، تب يتب الله عليك، ولكن إذا كنت عشت في هذه البلدة، وقتلت مائة نفس فلا تبق فيها، فاخرج منها إلى تلك القرية الفلانية، فإن فيها أقواماً صالحين يعبدون الله فكن معهم، وهنا نعرف خطر الجليس السيء، وبركة وخير الجليس الطيب.

كما جاء في الحديث: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء...)، فالجليس الخبيث كنافخ الكير إن لم يأتك شرر ناره يؤذك بريحه، أما الجليس الصالح فكبائع المسك إن لم تشتر منه فإنه سيحذيك، فبعض الناس يمر على صاحب العطر، ويسأله: أعندك عود طيب؟ فيقول: نعم. ويفتح القارورة ويطيبه، فهذا أقل شيء.

فأقل شيء أنك ستشم الريح الطيب من بائع المسك.

فخرج قاتل المائة، وفي أثناء الطريق أدركته المنية فمات، فتأتي ملائكة الرحمة وتأتي ملائكة العذاب ويختصمون فيه، فملائكة العذاب تقول: هذا ما عمل حسنة واحدة، وملائكة الرحمة تقول: هذا رجل مقبل علينا، تاب إلى الله توبة نصوحاً، والتوبة تجب ما قبلها، فاحتكموا فيما بينهم أيهم يتولى أمره، فأرسل الله سبحانه إليهم ملكاً على صورة رجل، فقال: قيسوا ما بين البلدين، فأيهما كان أقرب إليها ألحقوه بأهلها.

فقاسوا فإذا المسافة بينه وبين البلدة التي خرج إليها أقل بذراع واحد فقط.

وفي بعض الروايات أن الله أوحى إلى هذه أن تباعدي وإلى تلك أن تقاربي، وزوى الله الأرض، وفي بعض الروايات: فأومأ -وهو ميت- بصدره إلى جهة القرية التي خرج إليها، فتولته ملائكة الرحمة.

والذي يهمنا أن ذاك العابد الجاهل جهله قتله، وهذا العالم أفتى بعلم فنجا، ونجى هذا الرجل من الموت والهلاك والأمثلة في هذا عديدة، ونرجو المولى سبحانه أن يوفق الجميع لسلوك طريق العلم مهما كان، وبأية وسيلة.

وأحب أن أذكر إخواني طلبة العلم بأن الله تعالى يسر وجود الجامعة، فهي تأتي بكل إمكانات مساعدة الطالب، من إسكان، ونقليات، ومكافأة، ومستشفيات، وجزى الله المحسنين خيراً.

ولكن في المسجد النبوي شاهدنا ورافقنا وجالسنا في حلقة العلم أشخاصاً كانوا في الصباح تجدهم في الأسواق يحملون للناس على مناكبهم، وفي الصباح يحملون الماء إلى البيوت، وفي الصباح في الأسواق يتسببون، وإذا جاؤوا إلى صلاة المغرب تجدهم كالنجوم اللامعة في نظافتهم، وفي إنارة وجوههم بتقوى الله، ويجلسون بكتب الحديث يتلقون العلم على المشايخ في هذا المسجد، فهم في النهار خدام، وهم في المغرب أعلام.

فطلب العلم ليس له طريق يمنعه، وليس هناك في علم الإسلام سن يحدده، وليس هناك شيءٌ يحول دونه، بل قوله صلى الله عليه وسلم: (سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) -وهي أعلى منزلة وأعظم عطاء- يفيد أنه من باب أولى أن يسهل له طريقاً في الدنيا، فهل يُسهل له طريق الجنة ويعسَّر عليه طريق الدنيا؟! لا والله.

وطالب العلم قنوع يكتفي بما يكفيه، ولو وقفنا عند هذه الجملة من هذا الحديث لطال بنا الكلام عليها، وأعتقد أنه يكفي العلم شرفاً وفضلاً كونه علماًً، فهو يتحدث عن نفسه كما يقولون.

قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).

ذكر في الحديث (في بيت من بيوت الله)، وبيوت الله العرف خص بها المساجد، وهذه إضافة تشريف وتكريم، وإلا فالعالم كله لله، وكما جاء في القرآن الكريم: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [آل عمران:96]، فهذه البيوت المضافة إلى الله إنما هي المساجد، وهي إضافة تكريم وتشريف، كما في قوله تعالى: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، وكل الإبل والنوق في العالم لله، وهو الذي خلقها، ولكن هذه بالذات أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى لتميزها بآية خاصة، وكذلك المساجد تميزت عن بقية البيوت، بيوت الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء، وفي حديث الأعرابي حينما ترك ناقته خارجاً ودخل، ثم أخذ جانباً في المسجد، وجلس يريق بوله فزجره الصحابة الكرام قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه)، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فدعا الأعرابي وقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد حجرت واسعاً)؛ لأنه وجد الرحمة، ووجد التيسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد الشدة من الآخرين.

والأصوليون يقولون: إذا وقع الخطأ يُنظر فيه ويرتكب أخف الضررين، وهذا ما حصل في حديث الأعرابي، وذكر الله هو كل ما يعرف الإنسان بربه ويصله به.

فقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، جاء في بعض الروايات بلفظ: (في المسجد)، وفي بعضها الآخر: (في مجلس يذكرون الله)، فالعبرة هنا بعموم الذكر، وأشرنا إلى أن ذكر الله أعم عمومات العبادات، فهو ليس في حق الإنسان، ولا في حق الحيوان، بل ولا في حق الشجر والمدر، فالذكر عبادة جميع الكائنات، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

فالحصى في كفه صلى الله عليه وسلم سبح، والجذع الذي كان يتكئ عليه للخطبة حينما تحول إلى المنبر حن لفراقه وبكى، ونزل إليه صلى الله عليه وسلم وخاطبه قائلاً: (إن شئت غرست في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت غرستك في الجنة)، فاختار أن يغرس في الجنة، فهو جذع خشب يؤمن بأن هناك جنة.

وفي الموطأ في يوم الجمعة وفضله ورد: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة). فالدواب تعلم أن هناك ساعة، وتعرف أنها ستكون يوم الجمعة، وتعرف أنها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، ونحن ما كنا نعرف هذا.

فأهم ما يكون على العبد ذكر الله، وقد قالوا: هو غذاء القلب، وهو للإنسان كالماء للسمك، فالشخص الذي يغفل عن ذكر الله كالسمك إذا أخرجته من الماء، ولذا جاء الذكر في جميع التكاليف.

فحينما تأوي إلى فراشك للنوم فإن السنة تأتيك، وتقول لك: اضطجع على شقك الأيمن وقل: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها).

وإذا استيقظت من نومك في الليل ذكرت الله.

وإذا استيقظت في الصباح تقول: (اللهم بك أصبحنا وبك نمسي..).

فإذا جئت إلى الصلاة، ذكرت الله في سجودك، وذكرت الله قبل سلامك، وذكرت الله بعد الصلاة.

وإذا رجعت إلى بيتك وتناولت طعامك تقول: باسم الله.

شبعت من طعامك تقول: الحمد لله.

فذكر الله في كل صغيرة وكبيرة.

وفي الصيام يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (للصائم فرحتين، فرحة عند فطره، وفرحة وعند لقاء ربه)، وله دعاء مستجاب، وكذلك إخراج الزكاة، وكذلك في الحج، فالحج كله ذكر لله.

وكذلك إذا لبست ثيابك، أو خلعت نعلك، وفي كل أحوالك.

ولذا يمتدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، وقال تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، ويأتي أيضاً بخواص الذكر فيقول تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

فالذكر من حيث هو عام، وأخص ما يكون إذا ذكر منفرداً خالياً بقلب خاشع.

فالسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يبدأون بإمام عدل، وينتهون بقوله: (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)، فاضت عيناه رغبة أو رهبة.

وللذكر آداب عديدة، ويهمنا موضع الحديث (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله..)، يقول ابن رجب في هذا الحديث: الحديث نص على اجتماع قوم يذكرون الله في المساجد.

وهنا يأتي خلاف العلماء في نوع الذكر المقصود، فالحديث فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه)، فيقول: إن حملنا الذكر على خصوص التلاوة والمدارسة، بمعنى الفقه والعلم بكتاب الله، فهذا لا إشكال عليه، ولذا كان بعض السلف إذا صلوا الصبح اجتمعوا وقرأوا كتاب الله، وتدارسوه فيما بينهم، وتعلموا الفرائض، والفرائض من كتاب الله.

وإن كان المراد عموم التلاوة فقط فعلى أية صفة؟ ويذكر أن أهل دمشق وحمص ومكة كانوا إذا صلوا الصبح اجتمعوا لقراءة القرآن، إلا أن أهل دمشق وحمص يجتمع النفر منهم ويقرأون جميعاً في وقت واحد من سورة واحدة، ولكن أهل مكة كانوا يجتمعون فالشخص الواحد يقرأ العشر الآيات والبقية يسمعون، ثم يقرأ الآخر عشر آيات والبقية يسمعون، وقال: وهذا لا بأس به. واستدل بعمومات، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من ابن مسعود ، وكذلك عمر كان ربما يأمر الرجل يقرأ، ويسمع هو وأصحابه، واستمعوا إلى أبي موسى الأشعري ، وكان عمر يقول له: اقرأ ونحن نسمع.

وقد يستدل لذلك بعموم قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وبعض العلماء يقول: هذه خاصة في الصلاة، وبعضهم يقول: هي أعم من ذلك كله.

والذي يهمنا أن قراءة قارئ وسماع المستمعين لا غبار عليه، ولكن كونهم يجتمعون ويقرأون جميعاً فإن ابن رجب قال في شرح هذا الكتاب المبارك: بلغ ذلك مالك بن أنس ، وتكلم مع رجل من أهل الشام فقال: أنتم تجتمعون لكذا وكذا! فقال: نعم. قال: أما نحن فكان عندنا المهاجرون والأنصار، وما كانوا يفعلون ذلك، وكان الواحد منهم إذا صلى الغداة جلس يذكر الله ويسبحه، ولا يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بالذكر.

ومن هنا اختلفوا في جواز اجتماع القوم ليقرأوا القرآن بصوت واحد في موضع واحد، أي: أن نأخذ المصحف ونقرأ مثلاً قوله تعالى: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] في نفس واحد، أو أن الكل يصغي ويستمع وينصت ورجل واحد يقرأ ونحن نتأمل القراءة ونستمع إليه.

يقول ابن رجب في هذه الصورة: لا بأس بها للعمومات الواردة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وعمر كان يأمر غيره فيقرأ وهم يستمعون.

أما أن يقرأوا جميعاً، فيحصل اللغط من بعضهم على بعض فهذه هي الصورة التي يقول عنها مالك: إن اجتماعهم لذلك في المسجد بدعة.

وعلى كلٍ فالحديث معنا فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه)، وهل التلاوة التي كان يفعلها أهل مكة وحمص والشام كانت تلاوة فقط، أم تلاوة مع مدارسة؟

فإن كان مع التلاوة مدارسة وفهم القرآن، وعلم التفسير وما يتعلق بذلك فالحمد لله، وبها ونعمت، وإن كانت تلاوة فقط فكما قال ابن رجب : الصورة الجماعية هذه هي المكروهة، وصورة كون شخص واحد يقرأ والبقية يسمعون داخل في عموم الذكر، وفي سماع النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.

فهذا الحديث متعلق بالقرآن تلاوة ومدارسة، وأما إذا جلس يستغفر الله، أو جلس يسبح الله، أو جلس يحمد الله، أو جلس يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جلس لأي نوع من أنواع الذكر فيما بينه وبين الله فلا مانع من ذلك، وقد جاء الحديث: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة).

وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا صلى الغداة ينتظر إلى طلوع الشمس، فإن عرض له عارض كتجديد الوضوء يترك رداءه، ويقوم ويقول: انتظروا مجيئي فسمعه بعض الناس فقالوا: من تكلم؟ فليس عندك أحد؟ قال: أكلم جلسائي فالملائكة تحف ذاكري الله.

وجاء في الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى سماء الدنيا).

وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: حلق الذكر)، وليس معنى (حلق الذكر) الصور المعهودة عند بعض الناس التي استحدثت، إنما هي الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاجتماع الملائكة أو بحثهم عن رياض الجنة -وهي مجالس الذكر- وارد في السنة، وقد ألّف العلماء الكتب في ترتيب وآداب ونصوص الذكر الوارد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول العلماء: إن أهم آداب الذكر إخلاص النية لله وحضور القلب؛ لأن العبرة بذلك، كما في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فينظر إليها على أساس الإخلاص لله.

ويقول بعض العلماء: إذا كان جالساً في مجلسه يذكر الله فالأولى له استقبال القبلة، وبهذه المناسبة ننبه بعض الأشخاص الذين يصلون في المسجد، ويجلسون ينتظرون الصلاة في الصف الأول، فيستدبرون القبلة ويستقبلون الناس، ويتلون كتاب الله، فقد جاء في بعض الآثار أن السلف كانوا يمنعونهم، ويقولون: لا تحولوا دون الملائكة والقبلة. لأن هناك ملائكة تصلي، فلا ينبغي أن يحول الجالس دون القبلة، فإذا استقبل القبلة كان هو وغيره سواءً، أما أن يجلس مستدبراً الكعبة مستقبلاً الناس فهذا جاء عن السلف أنهم كانوا يكرهون ذلك، فمن الآداب استقبال القبلة في الذكر.

وكذلك نقول للذي يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره، ويريد الدعاء بعد أن يفرغ من السلام أن عليه أن يتحول عن ذاك المكان ويستقبل القبلة ويدعو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الكعبة هي قبلة الذكر وقبلة الدعاء، ومن هنا يقول الإمام أبو حنيفة : إذا أردت أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تأتِ مواجهاً؛ لأنك تستدبر القبلة، وإنما تأتي من الروضة، وتجعل الحجرة الشريفة عن جانبك وأنت مستقبل القبلة؛ لأنك حينما تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت في أقرب القربات إلى الله.

ولكن وجدنا في مسند أبي حنيفة نفسه ما يوافق رأي الجمهور، وهو مطبوع مع مسند الشافعي.

ومن الآداب أن يكون على طهارة، فإن لم يكن على طهارة فلا مانع ما لم يكن جنباً، وله أن يذكر بجميع أنواع الذكر إلا القرآن إذا كان جنباً، فإذا كان جنباً فلا ولا حرف.

كما جاء في حديث علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً).

ولهذا كره العلماء كراهة تحريم للجنب وللحائض أن يقرأا القرآن، وللحائض مباحث في ذلك عند مالك خاصة، ذكرها ابن رشد في بداية المجتهد، وهو أن المرأة إن كان لها ورد من حفظها فإن تركت القرآن مدة حيضتها ضاع عليها حفظها تيممت وقرأت وردها فقط؛ لئلا تنسى ما حفظت.

ومن باب آداب الذكر توخي الأوقات الفاضلة، كما بين الأذان والإقامة، وكذلك الدعاء وأنت ساجد، وغير ذلك من الآداب التي تذكر في كتب الأذكار الواردة يومياً. والله تعالى أعلم.

ويختم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بتلك العبارة الخاتمة: (إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة..)، فكل ذلك للذاكرين الله سبحانه.

والسكينة تجد كثيراً من الناس يتكلمون في معناها.

وجاء في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شخص ببصره إلى السماء، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى. فنزلت عليهم السكينة يحملها الملائكة كالقبة، ولما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل فرفعت عنهم).

فالسكينة أمر معنوي، فتأتيهم الملائكة كالقبة لتغطيهم، ومعنى (وغشيتهم الرحمة) أي: غطتهم.

ويمكن أن يقال: إن السكينة من السكون والطمأنينة، والقرآن الكريم يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالسكينة التي ينزلها الله على الذاكرين هي ما يشعرون به من طمأنينة القلب، وارتياح النفس، وسعادة لا يعادلها شيء، فلو جئت إلى إنسان يملك الدنيا وهو قلق النفس مضطرب، فما قيمة هذه الدنيا عنده؟ ولو جئت إلى إنسان عنده قوت يومه وليله، وهو معافى في بدنه وقرير العين مطمئن القلب، فماذا ينقصه؟ لا شيء.

فهذه هي السكينة.

ومن هذا المعنى ننطلق إلى الروضة الوارد ذكرها في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وكل المعاني التي يوردها العلماء عليها وارد، وعليها اعتراض، ولكن لو قلنا: إن قوله: (روضة من رياض الجنة) معناه: أن من لوازم تلك الروضة أن يكون المتعبد فيها يشعر بالطمأنينة والسكينة إلى حد لا يشعر به خارج المسجد، كبيته والسوق فلا مانع من ذلك.

قوله: (وغشيتهم الرحمة).

الغشاء: هو الغطاء، كأن الرحمة رداء ينتشر عليهم.

قال: (وحفتهم الملائكة)، فالملائكة تحفهم بأجنحتها إما رأفة بهم، وإما إعجاباً بهم، وإما تطييباً لخواطرهم.

كما قال تعالى في ليلة القدر: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4]، قالوا: من علامات القبول في تلك الليلة، أو من علاماتها أن يشعر الإنسان بروحانية في تلك الليلة.

قال: إذاً: (وذكرهم الله فيمن عنده)، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، ويقولون: هذه الخصائص والفضائل لمن يذكرون الله سبحانه، سواءٌ أكانوا جماعة أم كان الذكر فرداً.

وفي الخاتمة قال: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

فالمطلوب هو العمل بما جاء في الحديث من الفرص وأعمال الخير، من تنفيس الكرب عن المكروبين، ومن تيسير العسر على المعسرين، ومن ستر العورات، ومن ذكر الله سبحانه، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولذا جاء في الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن أوليائي إلا المتقون)، ووقف صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً).

فالنسب فيما يتعلق بالدنيا ليعرف الإنسان نفسه والآخرين ليتعامل معهم، أما في الآخرة فلا.