أطفال في حجر رسول الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي جعل نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خير الأنام، وجعله بين إخوانه من رسل الله تعالى وأنبيائه الكرام واسطة عقد النظام ومسك الختام، بأبي هو وأمي عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم السلام.

أحبتي الكرام... في هذه الليلة، ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر المحرم، لعام ألف وأربعمائة وأحد عشر للهجرة تنعقد هذه المحاضرة، وهي كما سمعتم بعنوان (أطفال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولقد شاء الله تبارك وتعالى بحكمته وفضله أن يختار نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين البشر كلهم أجمعين، ويصطفيه، ويخصه من الخصائص، بما لم يخص به أحداً من العالمين. حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم قدوةً للناس -كلهم أجمعين - في كل شيء قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

فإنك إن نظرت إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً؛ وجدته المبرز، والمقدم على أنبياء الله تعالى، ورسله فهو سيدهم وأفضلهم وخاتمهم.

وإن نظرت إليه معلماً وجدته أفضل المعلمين، وأحسنهم تعليماً وأفصحهم وأبينهم.

وإذا نظرت إليه خطيباً، وجدته المتحدث، الذي يهز أعواد المنابر، ويصل قوله إلى كل سمع، بل إلى كل قلب.

وإن نظرت إليه زوجاً وجدته خير الأزواج لأهله، وأحسنهم معاشرة، ومعاملة.

وإن نظرت إليه أباً، وجدته خير الآباء، وأحسنهم تعليماً، وأكثرهم رقة، وعطفاً، وحناناً.

وإن نظرت إليه مقاتلاً، وجدته المقاتل الشجاع الصنديد، الذي لا يقوم له شيء صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تأتيه من جهة من الجهات إلا وجدته فارسها وسابقها:

هو البحر من أي النواحي أتيته     فلجته المعروف والجود ساحله

عليه من ربه الصلاة والسلام، وفي درسنا هذا سنقف مع جانب من جوانب شخصيته الكريمة، فيما يتعلق بمعاملته ومواقفه صلى الله عليه وسلم مع بعض الأطفال، ومع بعض الصبيان.

وقد رأيت من باب التغيير والتجديد في العرض أن أبدأ بذكر عدد من المواقف الثابتة الصحيحة له عليه الصلاة والسلام مع بعض الأطفال والصبيان، ثم أثني بذكر بعض الدروس والعبر من هذه المواقف.

موقفه مع ابنه إبراهيم

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه مسلم وغيره: {إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم} - يعني بذلك ابنه إبراهيم عليه السلام {ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم - كما يقول أنس في روايته - إلى أم سيف، وهي امرأة كان زوجها قيناً } أي: حداداً يصنع السيوف، فدفعه النبي إليها لتقوم برعايته {ثم ذهب عليه الصلاة والسلام يوماً فاتبعه أنس إلى بيت أم سيف، فلما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو سيف ينفخ في كيره وقد امتلأ البيت دخاناً } قال أنس: {فأسرعت بين يدي رسول الله فقلت: يا أبا سيف أمسك - توقف- فقد جاء رسول الله، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والدخان يملأ البيت، ثم رفع ابنه إبراهيم فقبله عليه السلام.

يقول أنس -في إحدى الروايات-: (والله ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ){وما أسرع ما نـزل قضاء الله تعالى وقدره بإبراهيم، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه أشد الحب، ويضمه إلى صدره ويقبِّله، فأخبر النبي بأن ابنه إبراهيم وجع وأنه يجود بنفسه، فجاء النبي مسرعاً إلى أبي سيف-كما في الرواية الأخرى، وهي في الصحيحين {ثم رفع إليه الصبي فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معه جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، الذي هو فلذة كبده وقطعة منه يجود بنفسه، رآه يموت {فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه وأجهش فقال له سعد: هذا وأنت رسول الله! فقال له: هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده} ثم أتبعها بأخرى {إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل}.

قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93] ويولد له عليه الصلاة والسلام أولاد وبنات، فيفرح بهم أشد مما يفرح أي أبٍ بولده، ثم يتعهدهم إلى من يحضنهم ويرعاهم، ولا يغفل عنهم صلى الله عليه وسلم على كثرة مشاغله وأعماله، فبين الفينة والفينة، يأخذ من وقته شيئاً يسيراً ليزور أطفاله، ويقبّلهم، ويضعهم في حجره، ويحنو عليهم صلى الله عليه وسلم، فإذا نـزل بهم وجعٌ، أو مرض حزن لذلك، فإذا جاءهم الموت بكى، وهلت دموعه على خديه عليه الصلاة والسلام كما رأيتم في مثل هذه الواقعة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر كما قال عنه ربه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93].

موقفه مع ابن أبي موسى الأشعري

واقعة أخرى: يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهي في صحيح البخاري يقول: (ولد لي غلامٌ فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه ودعا له بالبركة، ثم دفعه إليَّ).

وكان هذا الولد أكبر أولاد أبي موسى الأشعري فكان من عادة أصحاب النبي إذا ولد لأحد منهم ولد أن يأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه النبي ويقبله، ويضمه إليه، ويدعو له بالبركة، فإن كان معه شيء -تمرٌ، أو غيره- مضغه النبي صلى الله عليه وسلم، ولينه وخلطه بريقه الطاهر، ثم وضعه في حنك الصبي-يحنكه- فيكون أول ما يصل إلى جوف الصبي هو ريق النبي، وفي هذا له خير كبير، وبركة عظيمة، وقد كان هذا من عادة الصحابة رضي الله عنهم.

فهذا أبو موسى يأتي بابنه إبراهيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسميه إبراهيم، ويحنكه، ويدعو له بالبركة ويقول له: (بارك الله فيه - أو بارك الله لك فيه) أو ما أشبه ذلك، ثم يدفعه إلى والده، وربما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصبي في حجره.

وفي هذا قصص كثيرة جداً، وهو ما ذكرته عائشة رضي الله عنها، وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بصبي يحنكه -من أجل أن يحنكه- فبال هذا الصبي على النبي فلم يزد النبي عليه الصلاة والسلام على أن أمر بماءٍ فأتبعه إياه}.

وثبت هذا -أيضاً- من حديث أم سلمة، وأم الفضل، ومن حديث لبابة بنت الحارث ومن حديثأم قيس بنت محصن {أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام فبال في حجره}.

ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: {يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام} فإذا كان الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً ذكر اكتفى برشه، وإن كانت جارية فإنه يغسل ثوبه، وقد يدفعه صلى الله عليه وسلم إلى بعض زوجاته لتقوم بغسله.

والكلام في موضوع الجارية والغلام يطول وهو مبحث فقهي تكلم فيه الفقهاء ولا أجدني بحاجة إلى الحديث عنه الآن؛ لكن الشاهد أنه كان من عادة أصحاب النبي أن يبعثوا أطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يولدون، وقد يبعثون معهم شيئاً من التمر فيحنكهم النبي، ويدعو لهم، وقد يسميهم ابتداءً كما سمى ولد أبي موسى إبراهيم، وكما سمى جماعة من أبناء الصحابة، سمى ابن أبي طلحة عبد الله وسمى عبد الله بن الزبير وسمى جماعة، وقد يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه إذا كان غير جميل، وغير مناسب وغير حسن.

فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة بولد فقيل له إن اسمه القاسم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو عبد الرحمن، فغير النبي اسمه؛ وذلك لأن أباه سماه القاسم وكان أكبر أولاده، فكان أبوه سيكنى أبا القاسم.

وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم فقد ينادي رجل هذا الأنصاري فيقول له يا أبا القاسم، فيسمعه النبي فيلتفت له، فيظن أنه يقصده، فلهذا نهى النبي عن أن يكنى الرجل بـأبي القاسم فذهب جماعة كبيرة من أهل العلم إلى أن هذا خاص بحياته عليه الصلاة والسلام.

وقال آخرون: بل هذا خاص بمن اسمه محمد، وقالت طائفة: لا، بل التكني بأبي القاسم لا يصلح مطلقاً، والأول أقوى.

أما التحنيك: فإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد أن أحداً من الصحابة، أو التابعين جاء بابنه إلى أبي بكر -وهو أفضل الأمة بعد النبي- ولا لـعمر ولا لـعثمان ولا لغيرهم من الصحابة، فهو خاصٌ به عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن التبرك بآثاره الحسية جائز، كالتبرك بشعره عليه السلام، أو ببقية وضوئه، أو بثيابه، أو بعرقه، أو بما أشبه ذلك، كما هو ثابت متواتر عن أصحابه رضي الله عنهم، أما غيره فليس ذلك له.

وأما قضية الدعاء له بالبركة فإن هذا لا شك أنه من أفضل الأعمال، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم لأولادهم وصبيانهم، ويدعو للآباء بأن يرزق الله تعالى أولادهم برهم، وأن يكونوا خيراً لهم في الدنيا والآخرة.

ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن صبياً من الأنصار كما هو في الصحيح دُفِعَ إلى النبي فلما حنكه تلمظ الصبي -أي: لما وجد التمر وحلاوته في فمه حرك فمه يريد هذه الحلاوة- فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {حُبُّ الأنصار التمر} هذا حب الأنصار للتمر؛ لأن الأنصار أهل زراعة وحرث، فيولد معهم حب التمر.

وفي رواية {حب الأنصار التمرُ} يعنى: التمر حبيب الأنصار منذ أن يكونوا صبياناً صغاراً.

ومما يتعلق بهذا الباب أن المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين لما قدموا المدينة أشاع اليهود أنه لا يولد لهم، وأن اليهود قد سحروهم وشاعت هذه القالة بين الناس حتى ظن أنه لن يولد للمهاجرين أحد، وكانت أسماء بنت أبي بكر -زوج الزبير رضي الله عنهم- متماً -أي حاملاً - قد قربت ولادتها عند الهجرة، فكان أول مولودٍ من المهاجرين هو عبد الله بن الزبير ففرح به المهاجرون فرحاً عظيماً؛ لأنه أبطل هذه الشائعة اليهودية التي تقول: إن المهاجرين لن يولد لهم بعد مقدمهم إلى المدينة، وأن اليهود قد سحروهم، فلما ولد جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففرح به ودعا له.

تعهده صلى الله عليه وسلم للحسن

الواقعة الثالثة: ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري: {يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار -في جزء من النهار- لا يكلمني ولا أكلمه -لأنه مشغول ولا أريد أن أشق عليه، ولهيبته في قلوبهم صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم سوق بني قينقاع وكان قريباً من هذا السوق بيت فاطمة رضي الله عنها (بيت علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، فجلس النبي بفناء بيت فاطمة -بالساحة المجاورة لمنـزله- وكان يقول لها: أَثَمّ لكع؟ أّثَمّ لكع؟} يعني -الحسن موجود- هل هو موجود؟

ولكع -كلمة عربية أحياناً تطلق بمعنى اللئيم- إذا كان هناك إنسان لئيم فتقول: إنسان لكع، كما قال صلى الله عليه وسلم: {يكون في آخر الزمان أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع}. وقد يطلق على الطفل، وقد يطلق لكع على الإنسان الذي لا يصرف أموره، ولا يعرف أموره، ولا يتصرف فيها.

فالمهم قال الرسول لابنته فاطمة: {أَثَمّ لكع؟ أَثَمّ لكع؟ -(يعني هل الطفل موجود)- هاتيه؟ قال أبو هريرة رضي الله عنه: فحبسته شيئاً -أخرت المجيئ بولدها الحسن رضي الله عنه، فظننتها تلبسه سخاباً أو تغسله} يقول: توقعت أنها تلبسه سخاباً، والسخاب كما قال بعض الشراح: هو قلادة من طيب كانت تلبس للصبيان ذكورهم وإناثهم-، وقيل: هي من الخرز. فالمهم أنها قلادة توضع للصبي لتجميله وتطييب رائحته، أو تغسله وتنظفه وتجمله حتى يكون مناسباً أن يذهب إلى جده، ونعم الجد جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم دفعته إلى رسول الله أرسلته فجاء يشتد يسرع -جاء يركض- إلى جده عليه الصلاة والسلام فعانقه الرسول وقبله وقال: اللهم أحببه وأحب من يحبه}.

وفي بعض الروايات {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا}- يعني فتح النبي ذراعيه للحسن {فقال الحسن بذراعيه هكذا} فقد اعتاد هؤلاء الصبيان أنَّ النبي يلاطفهم ويفتح لهم صدره فيجلسون في حجره، فيضمهم، ويقبلهم، ويحنو عليهم، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه للـحسن جاء الحسن مسرعاً حتى ألقى بنفسه في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وعانقه وجعل ذراعيه على عنقه الطاهر وقبله، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه وقال {اللهم أحببه وأحب من يحبه}.

هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ من وقته للصبيان، يذهب إليهم ويتعهدهم ويقبلهم ويضعهم في حجره ويدعو لهم، ويدعوهم، فما أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتذكروا العطف والحنو، فإذا مد ذراعيه مد الصبي ذراعيه، وإذا رأى الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً أسرع إليه -ركض إليه، وألقى بنفسه في حجره.

تقبيله صلى الله عليه وسلم للحسين

وحادثة رابعة: تروى من طرق عديدة أذكر منها طريقاً رواه الطبراني وغيره بسند رجاله ثقات عن السائب بن يزيد { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً فجيء يوماً بـالحسين ابن بنته، ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقبله، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأعراب، اسمه الأقرع بن حابس، وفي الأعراب من الجفاء وغلظ القلوب وغلظ الأكباد ما فيها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو السيد الشريف المطاع والنبي المصطفى المختار- يقبل هذا الصبي ويلاطفه تعجب الأقرع!! وقال: أو تقبلون صبيانكم؟! والله إن لي عشرة من الولد، ما قبلت أحداً منهم، فقال النبي: لا يرحم الله من لا يرحم الناس }.

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة التي يجعلها الله تعالى في قلوب عباده، هي سبيلٌ إلى الحصول على رحمة الله جل وعلا، فإذا أردت أن يرحمك الله فارحم الناس، ومن أعظم من يُرحَم الضعفاء، كالصبيان والنساء والفقراء والمرضى ونحوهم.

صعود الحسن أو الحسين على ظهره في الصلاة

الحادثة الخامسة: يرويها النسائي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه وعن أبيه {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم في إحدى صلاتي العشاء -إما المغرب وإما العشاء- وهو حامل حسناً، أو حسيناً على كتفه، فتقدم صلى الله عليه وسلم فوضع الصبي ثم صلى بهم وكبر، فلما كان في سجدة، بين ظهراني الصلاة أطال السجود جداً} حتى قال شداد:فرفعت رأسي فإذا الصبي فوق ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرجعت فسجدت، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال الناس: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تصنعه، قد أطلت سجدة بين ظهراني صلاتك حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ أو أنه يوحى إليك - أي: أنه أطال السجود حتى إن الناس قد أصابتهم الريبة، فربما شكّوا هل أصاب رسول الله شيء؟ هل نـزل به أمر؟ أم أنه يوحى إليه، فهذا الرجل رفع رأسه فعرف القصة أما بقية الناس فلم يكونوا يعرفون- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس شيئ من ذلك كان، غير أن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته، وينـزل من تلقاء نفسه}.

إلى هذا الحد كانت شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لطفه وتسامحه، أولاً: خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يحمل الحسن على كتفه هذا مشهد لم نره قط، ولو حدث من إنسان من العلماء أو الدعاة لربما تعجب الناس منه، فكيف إذا حدث من سيد الدعاة، وأعظم العلماء؛ النبي صلى الله عليه وسلم يخرج هذه المرة، والحسن أو الحسين على كتفه ثم يجعله إلى جواره، فيتسلل هذا الصبي ويتسلق حتى يرتقي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يعجله الرسول حتى يقضي حاجته.

ولسنا نشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ساجد كان يناجي ربه؛ والسجود هو من أعظم حالات القرب من الله جل وعلا كما في الحديث: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} وكان عليه الصلاة والسلام يحمد ربه بمحامد ويسبحه ويثني عليه ويقول: {أما السجود فادعوا الله أن يستجيب لكم} ولما نـزل قوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى:1] قال: {اجعلوها في سجودكم} فكان مستغرقاً في تسبيح ربه ودعائه وتحميده واستغفاره، ولكن مع ذلك كان من عادته عليه الصلاة والسلام في صلاته أن يجعل قيامه وركوعه وسجوده واعتداله بين السجدتين قريباً من السواء، أما هذه المرة فقد أطال هذه السجدة لعارض وهو أن ابنه ارتحله، فكره أن يعجله، حتى يقضي حاجته.

موقفه مع أم خالد

الحادثة السادسة: رواها البخاري رحمه الله في صحيحه (باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديداً) عن أم خالد رضي الله عنها وما أدراك ما أم خالد؟! أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص وهي جويرية صغيرة السن، ورد في بعض الروايات [أنه أُتي بها تُحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول رضي الله عنها: إنه أوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثياب فكان منها خميصة سوداء -ثوب أسود- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حضر من أصحابه: من ترون نَكْسُ هذه؟ فسكت القوم ولم يتكلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوني بـأم خالد فجيء بها تحمل، وكانت جويرية صغيرة السن، فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب وألبسها إياه بيده الشريفة].

كان عليه السلام في شغل أي شغل! في عبادة ربه، في غزوه وجهاده، في دعوته إلى الله عز وجل، في انشغاله بأمور الناس، وفي استقباله للوفود، وفي عنايته بأمورهم.

فكلما نظرت إلى جانب من جوانب حياته، قلت كان مستغرقاً في هذا الجانب حتى كأنه لا شغل له غيره، والله إن من يقرأ سيرة رسول الله يقول هذا الكلام.

اقرأ -مثلاً- ما يتعلق الآن بحاله مع الأطفال يخيل إليك كأنه متخصص في تربية الأطفال ورعايتهم والعناية بهم ومراقبة أمورهم، لو تقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم مع زوجاته تقول كأنه عليه الصلاة والسلام لا هَمَّ له ولا شغل إلا العناية بأمور زوجاته، مثلاً: قصة عابرة في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي كان يدور على نسائه بعد العصر -تسع زوجات عنده صلى الله عليه وسلم وكل واحدة يجلس عندها وقت- ففي يوم من الأيام أطال الجلوس عند حفصة، فاستبطأته عائشة رضي الله عنها، وأزعجها الأمر، فأرسلت الخادم تستطلع الموضوع، فقال لها الخادم: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يشرب عسلاً؛ عند حفصة، فكرهت عائشة رضي الله عنها ذلك كرهاً شديداً فلا تحب أن يطيل الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء عند حفصة أو يشرب عندها عسلاً، فاتفقت مع سودة وقالت لها: إذا جاءك الرسول صلى الله عليه وسلم فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير! -المغافير صمغ كريه الرائحة- أي: إني أجد منك ريح مغافير، فأمنا سودة رضي الله عنها تقول: والله ما إن أقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ووقف على الباب، حتى كدت أبادره بالكلام قبل أن يقترب مني فرقاً منك يا عائشة -خوفاً منك- لكنها صبرت، حتى اقترب منها الرسول عليه الصلاة والسلام بحيث يمكن أن تشم رائحة فمه، فقالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة. قالت: إذاً يا رسول الله جرست نحله العرفط، أي: هذا العسل الذي شربته أكلت النحل الذي أخرجته العرفط. وهو -أيضاً- نبات كريه الرائحة.

فقد لقنتها عائشة رضي الله عنها وعنهم أجمعين هذا الكلام، فخرج من عندها الرسول عليه السلام فجاء لـعائشة فلما اقترب منها، قالت: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ قال: لا، شربت عسلاً عند حفصة. قالت: إذاً جرست نحله العرفط فقال: شربت عسلاً عند حفصة ولا أعود.

خرج إلى زينب رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، أكلت مغافير؟، قال: لا، شربت عسلاً. قالت: جرست نحله العرفط، فقال: لا أعود، فلما جاء اليوم الثاني على حفصة قالت: أسقيك عسلاً. قال: لا حاجة لي به.

عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فانـزعجت لذلك سودة وحزنت، وقالت: لقد حرمناه. قالت لها أمنا عائشة رضي الله عنها: اسكتي، اسكتي.

المهم إذا قرأت سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام في أي جانب تقول: كأنه لا هم له إلا هذا، وإذا قرأت أخباره في الغزو، والفتوح فهذا أمر يطول الكلام فيه، وكذلك أخباره في استقبال الوفود، وفي تعليم الناس، فسبحان الذي أعطاه وخصه بما لم يخص أحداً من العالمين، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].

فالمهم أنه ألبس صلى الله عليه وسلم، هذا الثوب لـأم خالد، وكان فيه أعلام -أي خطوط- فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أعلامه بيده وينظر إليها، ويقول: سنى يا أم خالد، سنى يا أم خالد، وكلمة (سنى) باللغة الحبشية معناها حسن، أي: هذا حسن، هذا جميل- يقول: انظري إلى هذه الخطوط الجميلة، إلى هذه الأعلام الجميلة في الثوب حتى تفرح بهذا الثوب وتسر به، ومما يزيدها سروراً وتِيْهاً أن يكون الذي ألبسها إياه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة.

وكما ذكرت لكم أن أم خالد هذه هي بنت خالد بن سعيد، وهي زوج الزبير بن العوام، ولدت له أولاداً وكانت ممن هاجر إلى الحبشة. ونقل للنبي صلى الله عليه وسلم سلام النجاشي.

بنت أبي العاص

الحادثة السابعة: يروي لنا أبو قتادة رضي الله عنه كما في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت زوج أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها}.

زاد مسلم في روايته {وهو إمام الناس في المسجد} جدها لأمها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولـأبي العاص وزينب

قصة طويلة، وذلك أن زينب هاجرت مع أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أبو العاص فبقي كافراً بـمكة وهو زوجها، ثم خرج يوماً من الأيام بمالٍ لقريش فأسره المسلمون، وجيء به إلى المدينة وكان ذلك في معركة بدر، حيث كان من ضمن الأسرى، فلما طلب الفداء لم يجد أبو العاص شيئاً يقدمه، فأرسلت إليه زوجه زينب بقلادتها -القلادة التي ألبستها ليلة زفافها وكانت من خديجة رضي الله عنها- فأرسلت زينب بهذه القلادة إلى زوجها أبي العاص حتى يدفعها للمسلمين. لاحظوا بنت الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها يدفع الفداء مثل ما يدفع أي واحد من المشركين من غير تمييز.

فلما قدم أبو العاص القلادة للمسلمين وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً خنقته العبرة وأجهش بالبكاء.

لقد أثارت هذه القلادة شجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتذكر أيامه السالفات مع خديجة رضي الله عنها، وكان يحبها حباً شديداً، وإذا تذكرها أو ذكرها تأثر، وكان العام الذي توفيت فيه يسمى عام الحزن لشدة حبه لها، وحزنه عليها، حتى غارت منها السيدة عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول: إنها إذا ذكرت تأثر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد، فكلما ذكرت أثنى عليها الرسول عليه الصلاة والسلام حتى غارت منها عائشة وهي لم تلتقِ معها تحت سقفٍ واحد، فلم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة إلا بعد وفاة خديجة بزمن، لكن مع ذلك غارت منها لكثرة ما يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت تقول له: {يا رسول الله ما تذكر من عجوزٍ هلكت في الدهر الأول أبدلك الله خيراً منها امرأة كبيرة في السن ماتت في زمن غابر، وأبدلك الله خيراً منها -تعني نفسها- فلماذا تكثر من ذكرها؟! فيقول: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد}.

فكان يحبها حباً شديداً عليه الصلاة والسلام، فلما رأى القلادة تذكر أيام خديجة وزفاف زينب وأيامه الماضيات فأجهش بالبكاء عليه الصلاة والسلام.

جيء بالمال للفداء فكان المال يفدى به قلادة زينب

لم يشدَّ النبي عينيه عنها أي حلوٍ مر من الذكريات

تذكر أموراً مضت عليه السلام وقال عليه الصلاة والسلام: {إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا فقالوا: نعم يا رسول الله، وأطلقوا الأسير وردوا القلادة إلى زينب.

فالمهم رجع أبو العاص إلى مكة، ورد الأموال لأهلها، فلما قال: هل بقي لأحد منكم شيء؟ قالوا: لا، قد وفيت فجزاك الله خيراً، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم رجع إلى المدينة، ورد الرسول صلى الله عليه وسلم إليه زينب بالنكاح الأول فكانت زوجه، وكان من ولده

يقول أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه مسلم وغيره: {إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم} - يعني بذلك ابنه إبراهيم عليه السلام {ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم - كما يقول أنس في روايته - إلى أم سيف، وهي امرأة كان زوجها قيناً } أي: حداداً يصنع السيوف، فدفعه النبي إليها لتقوم برعايته {ثم ذهب عليه الصلاة والسلام يوماً فاتبعه أنس إلى بيت أم سيف، فلما أقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان أبو سيف ينفخ في كيره وقد امتلأ البيت دخاناً } قال أنس: {فأسرعت بين يدي رسول الله فقلت: يا أبا سيف أمسك - توقف- فقد جاء رسول الله، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والدخان يملأ البيت، ثم رفع ابنه إبراهيم فقبله عليه السلام.

يقول أنس -في إحدى الروايات-: (والله ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم ){وما أسرع ما نـزل قضاء الله تعالى وقدره بإبراهيم، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه أشد الحب، ويضمه إلى صدره ويقبِّله، فأخبر النبي بأن ابنه إبراهيم وجع وأنه يجود بنفسه، فجاء النبي مسرعاً إلى أبي سيف-كما في الرواية الأخرى، وهي في الصحيحين {ثم رفع إليه الصبي فلما نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان معه جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن عبادة} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه، الذي هو فلذة كبده وقطعة منه يجود بنفسه، رآه يموت {فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه وأجهش فقال له سعد: هذا وأنت رسول الله! فقال له: هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده} ثم أتبعها بأخرى {إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل}.

قال تعالى: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93] ويولد له عليه الصلاة والسلام أولاد وبنات، فيفرح بهم أشد مما يفرح أي أبٍ بولده، ثم يتعهدهم إلى من يحضنهم ويرعاهم، ولا يغفل عنهم صلى الله عليه وسلم على كثرة مشاغله وأعماله، فبين الفينة والفينة، يأخذ من وقته شيئاً يسيراً ليزور أطفاله، ويقبّلهم، ويضعهم في حجره، ويحنو عليهم صلى الله عليه وسلم، فإذا نـزل بهم وجعٌ، أو مرض حزن لذلك، فإذا جاءهم الموت بكى، وهلت دموعه على خديه عليه الصلاة والسلام كما رأيتم في مثل هذه الواقعة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر كما قال عنه ربه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93].

واقعة أخرى: يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهي في صحيح البخاري يقول: (ولد لي غلامٌ فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم، وحنكه ودعا له بالبركة، ثم دفعه إليَّ).

وكان هذا الولد أكبر أولاد أبي موسى الأشعري فكان من عادة أصحاب النبي إذا ولد لأحد منهم ولد أن يأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذه النبي ويقبله، ويضمه إليه، ويدعو له بالبركة، فإن كان معه شيء -تمرٌ، أو غيره- مضغه النبي صلى الله عليه وسلم، ولينه وخلطه بريقه الطاهر، ثم وضعه في حنك الصبي-يحنكه- فيكون أول ما يصل إلى جوف الصبي هو ريق النبي، وفي هذا له خير كبير، وبركة عظيمة، وقد كان هذا من عادة الصحابة رضي الله عنهم.

فهذا أبو موسى يأتي بابنه إبراهيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسميه إبراهيم، ويحنكه، ويدعو له بالبركة ويقول له: (بارك الله فيه - أو بارك الله لك فيه) أو ما أشبه ذلك، ثم يدفعه إلى والده، وربما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصبي في حجره.

وفي هذا قصص كثيرة جداً، وهو ما ذكرته عائشة رضي الله عنها، وهو في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بصبي يحنكه -من أجل أن يحنكه- فبال هذا الصبي على النبي فلم يزد النبي عليه الصلاة والسلام على أن أمر بماءٍ فأتبعه إياه}.

وثبت هذا -أيضاً- من حديث أم سلمة، وأم الفضل، ومن حديث لبابة بنت الحارث ومن حديثأم قيس بنت محصن {أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام فبال في حجره}.

ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام: {يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام} فإذا كان الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً ذكر اكتفى برشه، وإن كانت جارية فإنه يغسل ثوبه، وقد يدفعه صلى الله عليه وسلم إلى بعض زوجاته لتقوم بغسله.

والكلام في موضوع الجارية والغلام يطول وهو مبحث فقهي تكلم فيه الفقهاء ولا أجدني بحاجة إلى الحديث عنه الآن؛ لكن الشاهد أنه كان من عادة أصحاب النبي أن يبعثوا أطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يولدون، وقد يبعثون معهم شيئاً من التمر فيحنكهم النبي، ويدعو لهم، وقد يسميهم ابتداءً كما سمى ولد أبي موسى إبراهيم، وكما سمى جماعة من أبناء الصحابة، سمى ابن أبي طلحة عبد الله وسمى عبد الله بن الزبير وسمى جماعة، وقد يغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه إذا كان غير جميل، وغير مناسب وغير حسن.

فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة بولد فقيل له إن اسمه القاسم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو عبد الرحمن، فغير النبي اسمه؛ وذلك لأن أباه سماه القاسم وكان أكبر أولاده، فكان أبوه سيكنى أبا القاسم.

وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم فقد ينادي رجل هذا الأنصاري فيقول له يا أبا القاسم، فيسمعه النبي فيلتفت له، فيظن أنه يقصده، فلهذا نهى النبي عن أن يكنى الرجل بـأبي القاسم فذهب جماعة كبيرة من أهل العلم إلى أن هذا خاص بحياته عليه الصلاة والسلام.

وقال آخرون: بل هذا خاص بمن اسمه محمد، وقالت طائفة: لا، بل التكني بأبي القاسم لا يصلح مطلقاً، والأول أقوى.

أما التحنيك: فإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد أن أحداً من الصحابة، أو التابعين جاء بابنه إلى أبي بكر -وهو أفضل الأمة بعد النبي- ولا لـعمر ولا لـعثمان ولا لغيرهم من الصحابة، فهو خاصٌ به عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن التبرك بآثاره الحسية جائز، كالتبرك بشعره عليه السلام، أو ببقية وضوئه، أو بثيابه، أو بعرقه، أو بما أشبه ذلك، كما هو ثابت متواتر عن أصحابه رضي الله عنهم، أما غيره فليس ذلك له.

وأما قضية الدعاء له بالبركة فإن هذا لا شك أنه من أفضل الأعمال، أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم لأولادهم وصبيانهم، ويدعو للآباء بأن يرزق الله تعالى أولادهم برهم، وأن يكونوا خيراً لهم في الدنيا والآخرة.

ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن صبياً من الأنصار كما هو في الصحيح دُفِعَ إلى النبي فلما حنكه تلمظ الصبي -أي: لما وجد التمر وحلاوته في فمه حرك فمه يريد هذه الحلاوة- فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {حُبُّ الأنصار التمر} هذا حب الأنصار للتمر؛ لأن الأنصار أهل زراعة وحرث، فيولد معهم حب التمر.

وفي رواية {حب الأنصار التمرُ} يعنى: التمر حبيب الأنصار منذ أن يكونوا صبياناً صغاراً.

ومما يتعلق بهذا الباب أن المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين لما قدموا المدينة أشاع اليهود أنه لا يولد لهم، وأن اليهود قد سحروهم وشاعت هذه القالة بين الناس حتى ظن أنه لن يولد للمهاجرين أحد، وكانت أسماء بنت أبي بكر -زوج الزبير رضي الله عنهم- متماً -أي حاملاً - قد قربت ولادتها عند الهجرة، فكان أول مولودٍ من المهاجرين هو عبد الله بن الزبير ففرح به المهاجرون فرحاً عظيماً؛ لأنه أبطل هذه الشائعة اليهودية التي تقول: إن المهاجرين لن يولد لهم بعد مقدمهم إلى المدينة، وأن اليهود قد سحروهم، فلما ولد جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففرح به ودعا له.

الواقعة الثالثة: ما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري: {يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار -في جزء من النهار- لا يكلمني ولا أكلمه -لأنه مشغول ولا أريد أن أشق عليه، ولهيبته في قلوبهم صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم سوق بني قينقاع وكان قريباً من هذا السوق بيت فاطمة رضي الله عنها (بيت علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، فجلس النبي بفناء بيت فاطمة -بالساحة المجاورة لمنـزله- وكان يقول لها: أَثَمّ لكع؟ أّثَمّ لكع؟} يعني -الحسن موجود- هل هو موجود؟

ولكع -كلمة عربية أحياناً تطلق بمعنى اللئيم- إذا كان هناك إنسان لئيم فتقول: إنسان لكع، كما قال صلى الله عليه وسلم: {يكون في آخر الزمان أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع}. وقد يطلق على الطفل، وقد يطلق لكع على الإنسان الذي لا يصرف أموره، ولا يعرف أموره، ولا يتصرف فيها.

فالمهم قال الرسول لابنته فاطمة: {أَثَمّ لكع؟ أَثَمّ لكع؟ -(يعني هل الطفل موجود)- هاتيه؟ قال أبو هريرة رضي الله عنه: فحبسته شيئاً -أخرت المجيئ بولدها الحسن رضي الله عنه، فظننتها تلبسه سخاباً أو تغسله} يقول: توقعت أنها تلبسه سخاباً، والسخاب كما قال بعض الشراح: هو قلادة من طيب كانت تلبس للصبيان ذكورهم وإناثهم-، وقيل: هي من الخرز. فالمهم أنها قلادة توضع للصبي لتجميله وتطييب رائحته، أو تغسله وتنظفه وتجمله حتى يكون مناسباً أن يذهب إلى جده، ونعم الجد جده رسول الله صلى الله عليه وسلم، {ثم دفعته إلى رسول الله أرسلته فجاء يشتد يسرع -جاء يركض- إلى جده عليه الصلاة والسلام فعانقه الرسول وقبله وقال: اللهم أحببه وأحب من يحبه}.

وفي بعض الروايات {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا}- يعني فتح النبي ذراعيه للحسن {فقال الحسن بذراعيه هكذا} فقد اعتاد هؤلاء الصبيان أنَّ النبي يلاطفهم ويفتح لهم صدره فيجلسون في حجره، فيضمهم، ويقبلهم، ويحنو عليهم، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه للـحسن جاء الحسن مسرعاً حتى ألقى بنفسه في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وعانقه وجعل ذراعيه على عنقه الطاهر وقبله، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وعانقه وقال {اللهم أحببه وأحب من يحبه}.

هكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ من وقته للصبيان، يذهب إليهم ويتعهدهم ويقبلهم ويضعهم في حجره ويدعو لهم، ويدعوهم، فما أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتذكروا العطف والحنو، فإذا مد ذراعيه مد الصبي ذراعيه، وإذا رأى الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً أسرع إليه -ركض إليه، وألقى بنفسه في حجره.