شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فما زلنا في شرح الحديث الثلاثين من الأربعين التي جمعها الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها)، حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.

أيها الإخوة! إن هذا الحديث النبوي الشريف -كما قال العلماء-: أجمع حديث اشتمل على جوانب التشريع الإسلامي، ولا يوجد حكم يخرج عن نطاقه؛ لأنه جمع الفرائض والحدود والمنهي عنه والمباح، وهذه هي أقسام التشريع.

(إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)، أي: حافظوا عليها، والفرائض ما أُمر بفعله، وتقدم الكلام عليها، ثم قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها)، ثم قال: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها): وتقدمت الإشارة إلى نوع من الاشتراك في: (وحد حدوداً) و: (حرم أشياء)، واختلف العلماء في المراد بالحدود، فقيل: هي العقوبات والزواجر، مثل: حد السرقة قطع، وحد الزنا رجم أو جلد، والقذف ... إلى آخره.

وقيل: المراد بـ(حد حدوداً) أي: ميَّز أحكاماً وبينها (فلا تعتدوها).

وتقدم الكلام على ما جاء في كتاب الله

من قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] فيما يتعلق بالصيام والاعتكاف.

وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]، فيما يتعلق بأمر الطلاق والنساء.

وما يتعلق بالمواريث والأنصباء في سورة النساء.

وما جاء في سورة التوبة بحفظ حدود الله.

وما جاء في سورة المجادلة في الظهار بين الرجل وزوجه.

وما جاء في سورة الطلاق في أمر العدة.

ويرى بعض العلماء أننا لو حملنا حدود الله على تلك المسميات لكان تكراراً للمعاني، (نهى عن أشياء)، (حرم أشياء)، والواقع أنه بالتأمل يظهر أن هناك فرقاً بين حدود الله وبين ما حرم الله، والكل فيه التحريم والمنع.

فمثلاً قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]، وقد ذكرنا قول أبي حيان رحمه الله: (تلك) اسم إشارة للجمع، و(حدود) مجموعة، و(تلك) إشارة لمؤنث، وقد يُشار بها إلى البعيد، فتشمل أحكام الصيام كلها.

ولو رجعنا إلى الآيات قبلها بقليل لوجدنا الوصية والقصاص.

فنقول: إن في مسمى الحدود هنا معالم محددة معدودة:

فالاعتكاف أيام معينة.

والصيام كذلك أيام معدودات.

والوصية في شيء محدود.

والقصاص في نفس ... إلى آخره.

وهكذا آية البقرة: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ ... [البقرة:229] فهو أيضاً معدود، وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا ... [البقرة:229] إلى آخره.

وكذلك آية النساء في المواريث أنصباء محددة معدودة.

وفي الظهار كفارة معينة معدودة.

وفي سورة الطلاق بيان للعدة: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1].

فيكون شيء معين محدد؛ فلا تعتدوا تلك الحدود التي حدها الله.

نأتي إلى القسم الثالث في الحديث، وهو: (وحرم أشياء)، وإذا جئنا إلى النصوص القرآنية نجد أن التحريم الوارد في كتاب الله للأشياء إنما يتعلق بصفات المحرمات، وكما يقول الأصوليون: (الحكم لا يتوجه إلى العين؛ ولكن إلى صفة فيها).

وكلمة: (وحرم أشياء) نقف عندها وقفة خفيفة، وهي: إن الحق في فرض الفرائض وتحديد الحدود وتحريم الأشياء إنما هو لله وحده، ولا يحق لمخلوق أياً كان أن يقتحم هذا الباب ويقول: هذا حلال وهذا حرام، بل عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم حينما حرم على نفسه مباحاً فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1]، بل قال سبحانه محذراً: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116]، وقال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

إذاً: حق التشريع بالفرض والتحديد والتحريم إنما هو لله سبحانه، وكذلك الإباحة والحلية كما قال الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، فلا أحد يملك ذلك.

ويقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات كلمة: (شيء)؛ إذ لا يخرج منها موجود في هذا الوجود، فكل موجود يصدق عليه أنه شيء من الأشياء، و(شيء) هنا لفظ مجمل، ولو جئنا إلى نصوص القرآن نجد -بنوع من التأمل- أن النصوص تنقسم إلى قسمين:

قسم يكون عقوبة وابتلاءً.

وقسم يكون إرشاداً وتوجيهاً لمصلحة المكلف في ذاته.

فمن القسم الأول -وهو التحريم- قول الله سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] أي: بسبب ظلمهم واعتدائهم.

وقد يكون امتحاناً كما كان لليهود في قضية طالوت مع الجنود: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [البقرة:246]، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247]، وهذه مقاييس مادية في تولية الرئاسة.

والله يرد عليهم بمقومات الرئاسة والقيادة الفعلية الصحيحة: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] أولاً اختاره الله واصطفاه، واختيار الله لا يكون إلا للأصلح، وهنا وَزَادَهُ عليكم بَسْطَةً فِي مقومات القيادة والْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ؛ فالعلم يعرف به كيف يدير الجيش، وكيف يدير المعارك، وكيف يسوس الأمة، وملك جاهل لا يستطيع أن يسوس أمة، بلقيس لما كانت عاقلة وجاءها خبر سليمان، فكرت واستشارت قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا [النمل:34]، فكرت بعقلها، ولم تقل كما قال جندها: نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ [النمل:33]، الجندي يعرف السلاح والقوة؛ ولكن الملك يعرف السياسة وبُعد النظر والتدبير، ولهذا إذا دخل العسكري في السياسة أفسدها؛ لأن عمله في الميدان.

إذاً: من مقومات القيادة السليمة: العلم والجسم؛ فالعلم يخطط ويدبر، والجسم بقوته ينفذ.

وحينما فصل طالوت بالجنود ماذا قال لهم؟

قال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ [البقرة:249] ، ما قال لهم: (معطيكم نهراً)، بل مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249].

وهنا يأتي السؤال: لماذا يبتليهم بهذا النهر؟

ليعلم حقيقة الطاعة؛ لأنه رغم أنفهم صار ملكاً عليهم، فهو بدون اختيارهم، ومن هنا تظهر نتيجة العلم، وهل يقابل عدواً بقوم لم يرتضوه ملكاً؟ وهل يثق فيهم؟ وهل الثقة متبادلة بينهم أم منفية؟

منفية من جهتهم؛ لأنهم قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247]، استبعدوا أن يكون ملكاً عليهم، فهو مفروض عليهم، فهل سيخلصون معه في قتال العدو؟

وليس الأمر كما يقول بعض المفسرين: إنهم كانوا في الصيف الحار، وإذا شربوا امتلأت بطونهم، وإذا قابلوا العدو لا يستطيعون القتال، وهذا كلامٌ لا يُقال؛ فهم ليسوا أمام العدو حتى لا تكون هناك فرصة لأن يشربوا، فما زالوا بعيدين، وما وصلوا إلى العدو إلا بعد حين.

والذي يهمنا: أن في هذا امتحاناً لهؤلاء القوم؛ ليعلم حقيقة الطاعة والامتثال.

فقال الله: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [البقرة:249] أي: أنهم بفعلهم قالوا: نحن لن نطيعه؛ وعليه فإنهم سوف يعتزلون القتال.

علي رضي الله تعالى عنه قبل محاربة الخوارج أرسل إليهم ابن عباس وناقشهم، ورجع منهم عشرة آلاف مقاتل، فقال لهم: ( أما أنتم فاجتنبوا، لا تقاتلون معنا ولا مع عدونا)، فهو لم يطمئن إليهم؛ لأنهم لتوهم رجعوا إليه، ودخلوا في صفه، فإذا جاءوا معه وقابلوا إخوانهم الذين كانوا معهم، فمن يضمن أن العاطفة تغلب عليهم، وينقلبون عليه؟ بل لا لنا، ولا علينا.

وهنا طالوت امتحنهم.

نأتي إلى هذه الأمة، ونجد أيضاً موضوع الامتحان في قول الله سبحانه: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94] ابتلاء (ليبلونكم)، وقال: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95].

إذاً: هنا ابتلاء، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94].

فهم خافوا الله، والله يعلم منهم ذلك، فإن الله لا يخفى عليه شيء من قبل أن يوجد العالم؛ لكن ظهرت فضيلة هذه الأمة، وعلم الناس حقيقة مكانة الأمة المحمدية، لماذا؟

لأن هناك أمة قد ابتُليت بمثل هذا، وامتُحنت فرسبت، قال الله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، فماذا فعلوا؟

ما صبروا، وألقوا الشِباك يوم الجمعة، وجاءت الحيتان يوم السبت، وأخذوا الشباك يوم الأحد مليئة بالحيتان.

فتلك أمة احتالت على ما حرم الله في الصيد، وهذه أمة حافظت على حدود الله ومحارمه؛ فلما خرجوا في عمرة الحديبية ما امتدت يد صحابي واحد إلى صيد من طير أو من غزال أو من حيوان في الأرض، ويأتي الصيد يتحداهم، كما وصفه الله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ [المائدة:94]، يأتي الصيد فيقف على سن الرمح الذي هو أداة صيده، أَمِنَ ويتحدى ويقف على سن الرمح، وتناله اليد! فيقال له: اذهب لا تمتحني فيك.

أبعد من هذا: يمر صلى الله عليه وسلم بظبي يستظل في ظل شجرة، يريد أن يستريح، فيوقِف عنده رجلاً لئلا يهيجه أحد، ليس فقط نكف عن صيده، بل نحافظ عليه وعلى أمانه وراحته لئلا يأتي واحد فيروعه ويفر.

إذاً: هذا (ابتلاء) ليعلم حقيقة هذه الأمة التي وصفها الله بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].

مقارنة بين ابتلاء بني إسرائيل وأمة محمد عليه الصلاة والسلام

الشيء بالشيء يُذكر، امتُحن بنو إسرائيل في مادةٍ امتُحنت فيها هذه الأمة، ورسب بنو إسرائيل، ونجحت هذه الأمة.

حينما خرج بنو إسرائيل من البحر وقال لهم الله: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ... [المائدة:22] إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، قالوا كلمة تستحي منها العجائز! الله يقول: الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، أي: وعدهم الله أنهم سوف يأخذونها، وقال رجلان منهم: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23].

ومع هذا كله يقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24]، وأما هذه الأمة في غزوة بدر، يخرجون وهم نفر قليل (314) شخصاً، معهم (70) بعيراً فقط، وفرسان، ويذهبون لأخذ قافلة لقريش بلغهم خبرها، وليس هذا من قطع الطريق، بل هو جزءٌ من المعاملةٍ بالمثل؛ لأن من هاجروا من مكة تركوا ديارهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون هناك.

صهيب رضي الله عنه لما خرج مهاجراً، لحق به أهل مكة، وقالوا له: والله! لا تذهب، جئتنا صعلوكاً لا مال لك، فصرت غنياً، ثم تريد أن تخرج بنفسك وبمالك! هذا لا يكون، قال: أرأيتم إن وصفت لكم مكان مالي، أتذهبون تأخذونه وتتركونني؟ وتعلمون أني رامٍ، والله! لا يطيش لي سهم أبداً، وكنانتي مليئة، فترك لهم المال، وأخذوا ماله عنوةً، بيعٌ رابح وصفقة رابحة، كما قال له صلى الله عليه وسلم: (ربحت الصفقة).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قيل له: (أين تنزل غداً يا رسول الله؟! يعني: في أي البيوت؟

قال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو عقار؟!) فهم أخذوها وباعوها.

إذاً: المشركون سبقوا بالتعدي على أموال المهاجرين، وهذه قافلة خرج إليها صلى الله عليه وسلم؛ ولكن يريد الله أمراً كان مفعولاً.

العير نجت، والنفير أقبلت، وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، توقيت من الله سبحانه وتعالى.

ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن العير التي هي الغاية فاتت، ومعه وعد من الله، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7] لا بعينها، ولكن واحدةً منهما، وهذا نوعٌ من الترغيب؛ ولكن أيُّهما يا رب؟ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] هذه رغبتكم؛ ولكن الله يريد أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ [الأنفال:7].

فلما علم بأن العير قد نجت، والنفير قد أقبلت، استشار أصحابه، وتكلم المهاجرون وأحسنوا، وقال قائلهم: (والله يا رسول الله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله! لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ويقول سعد : يا رسول الله! لعلك تعنينا معشر الأنصار! قال: نعم. فيتكلم رضي الله تعالى عنه ويقول: والله إنا لصبر عند اللقاء، والله! لو خضت بنا إلى برك الغماد لجالدناهم عليه).

هؤلاء يقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وهؤلاء يقولون: نخوض البحر معك!

إذاً: كان الحكم على هذه الأمة بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، حكم بحيثياته وموجباته، وهذا فضل من الله سبحانه.

إذاً: التحريم ابتلاء وامتحان لتظهر حقيقة المكلف.

وكل التكاليف ابتلاءات تعبدية، والواقع أنها -وإن كانت تعبدية- فهي لعلل موجودة ترجع إلى المكلف.

الشيء بالشيء يُذكر، امتُحن بنو إسرائيل في مادةٍ امتُحنت فيها هذه الأمة، ورسب بنو إسرائيل، ونجحت هذه الأمة.

حينما خرج بنو إسرائيل من البحر وقال لهم الله: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ... [المائدة:22] إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، قالوا كلمة تستحي منها العجائز! الله يقول: الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، أي: وعدهم الله أنهم سوف يأخذونها، وقال رجلان منهم: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23].

ومع هذا كله يقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24]، وأما هذه الأمة في غزوة بدر، يخرجون وهم نفر قليل (314) شخصاً، معهم (70) بعيراً فقط، وفرسان، ويذهبون لأخذ قافلة لقريش بلغهم خبرها، وليس هذا من قطع الطريق، بل هو جزءٌ من المعاملةٍ بالمثل؛ لأن من هاجروا من مكة تركوا ديارهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون هناك.

صهيب رضي الله عنه لما خرج مهاجراً، لحق به أهل مكة، وقالوا له: والله! لا تذهب، جئتنا صعلوكاً لا مال لك، فصرت غنياً، ثم تريد أن تخرج بنفسك وبمالك! هذا لا يكون، قال: أرأيتم إن وصفت لكم مكان مالي، أتذهبون تأخذونه وتتركونني؟ وتعلمون أني رامٍ، والله! لا يطيش لي سهم أبداً، وكنانتي مليئة، فترك لهم المال، وأخذوا ماله عنوةً، بيعٌ رابح وصفقة رابحة، كما قال له صلى الله عليه وسلم: (ربحت الصفقة).

ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قيل له: (أين تنزل غداً يا رسول الله؟! يعني: في أي البيوت؟

قال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو عقار؟!) فهم أخذوها وباعوها.

إذاً: المشركون سبقوا بالتعدي على أموال المهاجرين، وهذه قافلة خرج إليها صلى الله عليه وسلم؛ ولكن يريد الله أمراً كان مفعولاً.

العير نجت، والنفير أقبلت، وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، توقيت من الله سبحانه وتعالى.

ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن العير التي هي الغاية فاتت، ومعه وعد من الله، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7] لا بعينها، ولكن واحدةً منهما، وهذا نوعٌ من الترغيب؛ ولكن أيُّهما يا رب؟ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] هذه رغبتكم؛ ولكن الله يريد أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ [الأنفال:7].

فلما علم بأن العير قد نجت، والنفير قد أقبلت، استشار أصحابه، وتكلم المهاجرون وأحسنوا، وقال قائلهم: (والله يا رسول الله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله! لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ويقول سعد : يا رسول الله! لعلك تعنينا معشر الأنصار! قال: نعم. فيتكلم رضي الله تعالى عنه ويقول: والله إنا لصبر عند اللقاء، والله! لو خضت بنا إلى برك الغماد لجالدناهم عليه).

هؤلاء يقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، وهؤلاء يقولون: نخوض البحر معك!

إذاً: كان الحكم على هذه الأمة بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، حكم بحيثياته وموجباته، وهذا فضل من الله سبحانه.

إذاً: التحريم ابتلاء وامتحان لتظهر حقيقة المكلف.

وكل التكاليف ابتلاءات تعبدية، والواقع أنها -وإن كانت تعبدية- فهي لعلل موجودة ترجع إلى المكلف.

هذه الجملة في هذا الحديث: (وحرم أشياء)، تأتي على كلِّ ما حرمه الله، وما حرمه الله بالتصوير الكلي في أمر الإسلام ينقسم إلى أقوال وأفعال.

المعتقدات المحرمة

من المعتقدات المحرمة: الشرك بالله، وتكذيب الرسل، قال الله سبحانه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]؛ لأنه قبلها قال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، وحرموا بعض بهيمة الأنعام مثل البحيرة والسائبة وغيرهما، والله هنا ناقشهم في ذلك: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، الإبل والبقر والضأن والماعز، كأنه قال لهم: الذكور والإناث ما العلة في التحريم لأحدهما: الذكورة أم الأنوثة؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي [الأنعام:143]؛ لأنها لا تخرج عن ذلك؛ إما لعلة الذكورة أو الأنوثة أو اشتمال الرحم عليه، فلا موجب للتخصيص.

ثم قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ... [الأنعام:145].

ثم هناك فيما بعد في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فإذا جئنا إلى هذا التقسيم فيما يتعلق باعتقادات وأقوال وأفعال نجد من أول المعتقدات: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، فمن أول ما يكون محرماً في الاعتقاد: الشرك بالله، وما يتعلق بتصديق الرسل، وبأخبار الأنبياء والمرسلين والأمم الماضية، وكل ما جاءك عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتقد صدق ذلك أو وجوب العمل به إذا صح لك سنده.

إذا جئنا إلى الأقوال المحرمة، فهي: كل ما كان مغايراً للحق من كذب أو غيبة أو نميمة، أو كل ما يتكلم به اللسان، ويتفاوت بعضه عن بعض، ومنه الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

إذاً: من الأشياء التي حرمها الله ما يتعلق بالمنطق أو باللسان.

نأتي إلى غير العقائد وغير الأقوال: الأفعال: نجد محرمات في المطعومات والنكاح وفي الأزمنة والأمكنة.

المطعومات المحرمة

قال الله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ.. [الأنعام:145]، وقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ... [المائدة:3]، وكل هذه المسميات في هذه الآية حرام.

وتأتي السنة في هذا الباب وتزيد: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وتأتي السنة أيضاً بتحريم الحمر الأهلية؛ فسواء كان التحريم في نص كتاب الله، أو في سنة رسول الله فهي داخلة ضمن: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها).

ومما يدل على عموم استحقاق السنة وتأهيلها للتشريع استقلالاً ما جاء في هذه المسميات: كل ذي ناب، وكل ذي مخلب، والحمر الأهلية، وتكلم العلماء في جزئيات من المحرمات تدخل تحت قاعدةٍ عامة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفة مكتوبة في التوراة والإنجيل وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فالخبائث: جمع خبيثة، وما هي تلك الخبائث التي اندرجت تحت هذا العنوان؟

نعلم جميعاً أن كل ما نص عليه الشارع بالتحريم فهو خبيث شرعاً، بقي العرف والعادة، فهناك أشياء لم يأتِ النص عليها بأعيانها، وقد بحث هذه المسألة والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في أضواء البيان عند قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ... [الأنعام:145] إلى آخر الآية، وذكر في هذا البحث ما فيه خلاف أو وفاق، على مبدأ: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فذكر من الطيور بعض ما لم يأتِ مسماه كالبوم والغراب والحشرات والحيوانات، وذكر الخلاف في الخيل والبغال والحمير وبقية السباع والضبع، وذكر حكم الزواحف، ومن كره الضب، ومن أباح الحيات والعقارب، وعند المالكية خلاف في الحيات هل تؤكل أو لا تؤكل؟ وكل ما يتعلق بحشرات الأرض، وذكر كل موضع وفاق أو خلاف.

وإذا كان الإسلام يحرم الخبائث فهو دين النزاهة، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [المائدة:4].

إذاً: الخبائث محرمة.

وما حد الاستخباث؟ وهل كل ما استقذره الإنسان فهو خبيث؟

يقولون: المقياس في ذلك هم ذوو المروءات من أوساط الناس في المجتمع، لا في شدة الجوع، ولا في زيادة الترف، بل في الحالات العادية.

الأنكحة المحرمة

إذا جئنا إلى ما يتعلق بالأسرة وبالنكاح نجد قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... [النساء:23]، وذكر التحريم بالنسب وبالسبب وبالمصاهرة.

فالتحريم بالنسب: الأصول والفروع مثل: الأمهات وجداتها، والبنات وبناتها، والأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ.

ثم جاء إلى المصاهرة: ما كان من زوجة الأب أو زوجة الابن.

ثم جاء إلى السبب: وهو الرضاع، الأخت من الرضاع والأم من الرضاع.

وجاء القرآن بنوع: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23] والسنة جاءت بزيادة: (لا تجمعوا بين المرأة وخالتها أو المرأة وعمتها).

الأزمنة المحرمة

ثم نأتي إلى الأزمنة: إذا نظرنا إلى التشريع في الإسلام من الزمان: فالله سبحانه وتعالى فاضَلَ في الأزمنة كما فاضَلَ في الأمكنة وكما فاضَلَ في الخلائق كلها.

فمن الأزمنة الفاضلة من أيام الأسبوع: يوم الجمعة، ومن أيام السنة: يوم عرفة، ومن ليالي السنة: ليلة القدر.

إذاً: هذه أزمنة فاضلة.

ولكن التفاضل في جانب، والذي يهمنا في باب التحريم قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، تلك الأربعة الحرم حرم الله سبحانه الاعتداء فيها، بل وجعل النسيئة زيادة في الكفر، وكان العرب حينما يمر عليهم ثلاثة أشهر: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم يستطيلون تحريم ثلاثة أشهر لا يقاتلون فيها ولا يسلبون ولا ينهبون.

وقد أشرنا سابقاً إلى الحكمة الإلهية الجليلة في تحريم تلك الأشهر الحرم؛ لأن العرب كانوا يعيشون نظاماً قبلياً: (من عَزَّ بَزَّ، ومن غلب سلب)، وكانوا يحجون إلى البيت وهم على شركهم، فمنهم من يأتي من أقصى الجزيرة من الخليج، ومنهم من يأتي من أقصى الجنوب من اليمن، وإذا أراد أن يحج فالقبائل أمامه تعترضه، فالله جعل أشهر الحج ضمن الأشهر الحرم التي يحرم الاعتداء فيها، قال الله سبحانه: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، فكانوا يحترمون الهدي إذا سيق إلى البيت، والقلائد، وآمين البيت الحرام، فإذا عرفوا أنهم عمَّار أو حجاج كفوا عنهم.

فجعل الله الحج متزامناً مع الأشهر الحرم ليأمن الحاج من أقصى الجزيرة إلى البيت ذهاباً وإياباً فكان يأتي في ذي القعدة وجزء من ذي الحجة، ويرجع في جزء من ذي الحجة وكامل المحرم، وهكذا يتم حجه في الأشهر الحرم آمناً على نفسه وهديه، ورجب الفرد محرم أيضاً.

إذاً: هذه أشهر حرَّمها الله فلا تعتدوا فيها على أحد.

الأمكنة المحرمة

المكان المحرم: الحرم بكامله والمدينة: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وإنما أبيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار) .

فإذا قتل المحرمُ صيداً ماذا عليه؟

فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، فيُعاقَب.

الأموال المحرمة

إذا جئنا إلى الأموال بصفة عامة؛ فإن الله يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ [البقرة:188].. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين:1-2].

فحرم الأموال، وجاءت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تقرر هذا في الحج: (أي يوم هذا؟! أي شهر هذا؟! أي بلد هذه؟! -أسئلة عجيبة! وأسلوب فيه تنبيه وإيقاف لم يعرفه العرب! سؤال عن المعلوم، ليستجمعوا قواهم ويسمعوا- فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، أليس هو اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام؟! قالوا: بلى -يعني: تحريم ثلاث مرات- ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)، فحرُمت تلك المقومات الثلاث:

الأموال، والأعراض، والدماء.

وهي مقومات كل مجتمع، وكما يقول الأصوليون: الجواهر الست هي:

الأديان.

والعقول.

والأبدان.

والأموال.

والأنساب.

والأعراض.

وهذه إذا لم تحفظ في أي مجتمع فلا قوام له، وإذا اضطرب الأمن لا يأمن الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه، فلا استقرار ولا حياة.

إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها): يجب أن نحافظ على ما حرم الله، وكما قال الشافعي : لو أن الأمة أخذت بسورة وَالْعَصْرِ [العصر:1] لكفتها، ونقول: لو أن الأمة أخذت بهذا الحديث لكفاها.

لكن هل بيَّن تفصيل المحرمات ما هي؟

لا، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم.

فلو أن الأمة جماعات وأفراد وقفوا عند ما حرم الله، ولم ينتهكوا حرمات الله؛ لكانت السعادة.

وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرام ما بين لابتيها، وما بين عَير إلى ثور يحرم فيها الصيد؛ ويكاد يتفق العلماء بأن الصيد في المدينة فيه تعزير، وليس فيه جزاء، وبعضهم يقول: يؤخذ سلب الصائد، إلى غير ذلك من أحكام أخرى.

ويهمنا أن الله حرم من الأزمنة أوقات، ومن الأمكنة أماكن، ومن المطعوم مطعومات، ومن الزواج زوجات، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية بيَّن الله سبحانه وتعالى ما يحل له وما يحرم.

فضل الله في الترخيص في بعض المحرمات للضرورة

ومن فضل الله سبحانه الترخيص للضرورة فيما هو حرام من المطعوم فقط فقال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، وقال: فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119].

فتلك المطعومات بعمومها محرمة، وعند الضرورة تباح، ويتفق الجميع على ذلك بالنص القرآني: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... [المائدة:3]، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، قالوا: الباغي: الذي كان في سفره باغياً.

والعادي: الذي يتعدى حاجته في الأكل، أي: يجوز أن يأكل قدر حاجته ولا يتزود منها.

والآخرون يقولون: إذا كان في فلاة وليس أمامه إلا هذه الميتة، ولا يعلم أنه سيجد ميْتةً ثانية أو لا، فإن له أن يتزود منها إلى أن يجد الطعام الحلال، وهذا تيسير واسع، ومن فضل الله سبحانه أنه لم يجعل على المسلم طريقاً مسدوداً أبداً.

فهذا المطعوم الحرام عند الاضطرار يحل وليحيي نفسه، من باب ارتكاب أخف الضررين، ولو تأملت جميع ما جاء النص فيه بالتحريم لوجدت الحكمة من وراء ذلك ترجع إلى المكلفين، فإن الله غني عن أن يشرِّع لنفسه أو لحكمة ترجع إليه، وتقدم لنا: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً).

لو تأملتم جميع أنواع المحرمات لوجدتم الحكمة ترجع إلى المكلفين، حتى في الابتلاء؛ لكي يتأدبوا، وقضية الابتلاء ظهر فيها المخالف من الموافق، وقضية الصيد فترة تمرين وتدريب؛ لأنه ليس الصيد وحده المنهي عنه، بل زوجته معه، وتكون معه في فراشه وسفره، فلا تمتد يده إليها، لماذا؟

لأنه في فترة يقول فيها: (لبيك اللهم لبيك)، والذي يقول هذا لا يلبي داعي الغريزة في ذلك الوقت، فإذا استطاع أن يرفض دواعي الغريزة وينصرف إلى تلبية الله وحده، واستطاع أن يكف يده عن الصيد المباح؛ فلَأَن يكف نفسه ويعفها وهي محرمة عن مال الغير، وحيوان الغير فمن باب أولى.

وكذلك إذا جئنا إلى الميتة والدم ولحم الخنزير حتى ما أهل لغير الله به، تجد الحكمة راجعة إلى المكلفين؛ لِمَا فيها من أضرار بالغة، وهذا باب واسع في بيان حكمة التشريع.

ولو جئنا إلى الربا: فيه الفساد الأخلاقي، والفساد الاقتصادي، بعض الدول الآن بدأت تقلل من نسبة الربويات أو الفوائد الربوية؛ لِمَا وقعوا فيه، وكارثة الدولار والأسهم في أوروبا التي ضج لها العالم كان سببها ارتفاع نسبة الربا.

يهمنا: أنك لن تجد شيئاً حرمه الله لغير حكمة، حتى في النكاح، فإن الأمهات والبنات والأخوات ما حرمها الله إلَّا لحكم متعددة، وليس لحكمة واحدة.

إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها)، وهناك في الحدود: (فلا تعتدوها)، وهنا لماذا لم يقل: ( فلا تقربوها )؟ لأن التحريم كحجاب قائم بين العبد المكلف وبين ما حرم الله، فاجعل هذا الحجاب قائماً وحافظ عليه، واجعل لك وقاية من عذاب الله بعدم ارتكاب المحرم، والذي يرتكب المحرم فكأنه انتهك الحجاب الذي أقامه الله؛ لأنه يقتحم الحمى، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).

من المعتقدات المحرمة: الشرك بالله، وتكذيب الرسل، قال الله سبحانه: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]؛ لأنه قبلها قال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام:136]، وحرموا بعض بهيمة الأنعام مثل البحيرة والسائبة وغيرهما، والله هنا ناقشهم في ذلك: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143]، الإبل والبقر والضأن والماعز، كأنه قال لهم: الذكور والإناث ما العلة في التحريم لأحدهما: الذكورة أم الأنوثة؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي [الأنعام:143]؛ لأنها لا تخرج عن ذلك؛ إما لعلة الذكورة أو الأنوثة أو اشتمال الرحم عليه، فلا موجب للتخصيص.

ثم قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ... [الأنعام:145].

ثم هناك فيما بعد في سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فإذا جئنا إلى هذا التقسيم فيما يتعلق باعتقادات وأقوال وأفعال نجد من أول المعتقدات: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151]، فمن أول ما يكون محرماً في الاعتقاد: الشرك بالله، وما يتعلق بتصديق الرسل، وبأخبار الأنبياء والمرسلين والأمم الماضية، وكل ما جاءك عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتقد صدق ذلك أو وجوب العمل به إذا صح لك سنده.

إذا جئنا إلى الأقوال المحرمة، فهي: كل ما كان مغايراً للحق من كذب أو غيبة أو نميمة، أو كل ما يتكلم به اللسان، ويتفاوت بعضه عن بعض، ومنه الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

إذاً: من الأشياء التي حرمها الله ما يتعلق بالمنطق أو باللسان.

نأتي إلى غير العقائد وغير الأقوال: الأفعال: نجد محرمات في المطعومات والنكاح وفي الأزمنة والأمكنة.