معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين (1)
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين
محمد بن صامل السلمي
الخلفاء الراشدون هم الأئمة الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي
الله عنهم أجمعين-، وهم الذين خلفوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيادة
الأمة، ومدة خلافتهم من انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى في 12
ربيع الأول سنة 11هـ إلى مقتل علي بن أي طالب في 17 رمضان سنة ... 40 هـ[1] : تسع وعشرون سنة وستة أشهر وخمسة أيام. وإذا أضيفت لها خلافة الحسن بن علي (من مقتل أبيه عن تنازله لمعاوية بن أبي سفيان 25 ربيع الأول سنة41هـ) [2] تكون ثلاثين سنة بالتمام، وقد اختصوا بوصف الراشدين لصفات تميزوا بها في سلوكهم الذاتي وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم لدينها وعقيدتها وحفاظهم على النهج الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدعوة، والجهاد، وإقامة العدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والرشد ضد الغي والهوى وهو الاستقامة الكاملة على المنهاج النبوي، وقد جاء وصفهم بهذه الصفة في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: " ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور " [3] . كما جاء وصف خلافتهم في بعض الأحاديث النبوية: أخرج الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة- رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ...
) الحديث [4] . وفي حديث سفينة -رضي الله عنه- تحديد لزمن الخلافة الراشدة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) [5] ، قال سفينة: أَمست خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-سنتين، وخلافة عمر -رضي الله عنه-عشر سنين، وخلافة عثمان -رضي الله عنه- اثني عشر سنة، وخلافة علي -رضي الله عنه-ست سنين. وقد تميز عصرهم من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات التي تميزه عن غيره، وصار العصر الراشدي مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً، تسعى الأمة الإسلامية وكل مصلح إلى محاولة الوصول إلى ذلك المستوى السامق الرفيع، ويجعله كل داعية نصب عينيه فيحاول في دعوته رفع الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريباً منه، ويجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة للأجيال الإسلامية، ومن ثم صار كل مصلح وكل حاكم عادل وكل إمام مجتهد يقاس بهذا العصر ويوزن بميزانه، حتى لقب كثير من العلماء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الراشدين) [6] ، ونسبوه إليهم، وذلك لأنه سار بسيرتهم، وسلك طريقهم، وأعاد في خلافته رغم قصرها (99-101هـ) معالم نهجهم، وأحيا طريقتهم في الحكم والإدارة وسياسة الرعية. وفي هذه المقالة نتعرف على بعض معالم عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-؛ لتكون مثالاً يحتذى وصدىً يهتدى بها في طريق الدعوة إلى الله. 1- توحيد مصدر التلقي: ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة المطهرة، وهذه قضية مهمة جداً، فما وقع التفرق والاختلاف إلا عندما قصَّرَ المسلمون في فهم الكتاب والسنة وزاحموهما بمصادر ومقررات خارجية من فلسفات الأمم وأهواء النفوس، والبشرية لا يمكن لها أن تتقارب وتتوحد إلا إذا وحدت مصادر فهمها وتلقيها، فإن الناظر في الفلسفات البشرية والمذاهب الفكرية والسياسات العملية يجد بينها بونا ً شاسعاً واختلافاً كبيراً يصل إلى التضاد والتناقض، ولذلك فإنه لا سبيل لوحدتها وإزالة ما بينها من اختلاف وتناقض، ويبرأ من النقص والهوى ويخضع له الجميع سوى وحي الله المنزل في كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لأنه من تشريع الله الخالق لكل شيء، الحكيم الخبير الذي أحاط علمه بكل شيء، قال تعالى: ...
[ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً] [مريم: 64] ،وقال تعالى: [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ] [البقرة: 255] ، وقال: [وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] [النساء: 26] ، وقال تعالى: [الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَمْ يَتَّخِذْ ولَداً ولَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً] [الفرقان: 2] ، وقال تعالى: [ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] [الأعراف: 52] ، وقال تعالى: ...
[واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] [الحجرات: 16] فما كان الخلفاء الراشدون يتلقون أو يأخذون نظمهم ولا سياستهم ولا مناهج علمهم وكافة أمورهم إلا من الكتاب المنزل من الله والسنة الموحى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن الاقتصار منهم على الوحي الرباني عن فقر في العلوم والثقافة في عصرهم ولكنه عن علم وقصد واتباع لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ] [الجاثية: 18] . فكل ما خالف الوحي فهو هوى وجهل وعمى، وقال تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [الروم: 30] . ولقد غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) [7] ، وأقوال الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومواقفهم توضح ذلك وتبينه. قال الخليفة الأول صديق هذه الأمة بعد أن بويع بالخلافة في خطبة عامة: إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني [8] . وقال عمر الخطاب -رضي الله عنه-: (قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -سيدبر أمرنا- أي: يكون آخرنا -، وإن الله قد أبقى فيكم الذي به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم [9] (يعني: أبا بكر) . وقال أيضاً: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) [10] .
فالاعتصام بالكتاب والسنة والتلقي منهما قضية مسلمة لا تقبل النقاش، ولقد استمرت الأمة على هذا الفهم قروناً، ولكنها أصيبت في الأعْصُر المتأخرة بالانحرافات حتى جهلت المسلمات ووجد من أبنائها من يجادل في هذا، بل وربما وجد فيمن ينتسبون إلى الدعوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. 2- حماية جانب العقيدة: لقد جاءت الشريعة بسد باب الذرائع المؤدية إلى الشرك ومحاربة البدع والمحدثات في الدين، ولهذا لم يكن الخلفاء الراشدون وظيفتهم تقف عند حفظ الأمن والحكم بين الناس، بل إنها تتعدى ذلك لتشمل كافة مصالح الأمة الدنيوية والأخروية، ومن ثم قاموا على نشر العقيدة الصحيحة وسدوا كافة المنافذ المؤدية إلى الابتداع في الدين أو النقص منه أو الانحراف في فهمه، وقاوموا كل مبتدع أو مشكك في الدين، وطبقوا قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [11] . والوقائع التاريخية والمواقف المنقولة عنهم في هذا المعنى، كثيرة نذكر نماذج منها: - موقف الصديق -رضي الله عنه-في الردة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد واجه المرتدين بكل قوة وصلابة وحزم وشجاعة، ورفض مهادنة مانعي الزكاة رغم قلة الجند الإسلامي ومشورة كثير من الصحابة له بذلك منهم عمر بن الخطاب، فقال -رضي الله عنه- قولته الشهيرة: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) [12] . وقال لعمر بن الخطاب: (أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟ [13] ..
فهو يعلم -رضي الله عنه- أن واجب الخليفة حراسة الدين من الزيادة والنقصان، لذلك قال مستفهماً هذا الاستفهام: (أو ينقص وأنا حي؟) أي: إن ذلك غير ممكن ولا أقبل به أبداً مادمت حياً، ولذلك قال أيضاً: (والله لأقاتلنهم ما استمسك السيف في يدي، ولو لم يبق في القرى غيري) [14] . - مواقف عمر بن الخطاب كثيرة: فقد كان -رضي الله عنه-شديداً على أهل الأهواء والبدع، فقد ضرب صبيغ بن عسل التميمي بجريد النخل وعراجينه عندما أخذ يثير بعض الأسئلة المشككة، حتى قال له: والله لقد ذهب ما أجد يا أمير المؤمنين، ثم بعث به إلى والي البصرة أبي موسى الأشعري وأمره بمنعه من مخالطة الناس، فحجز حتى تاب واستقام أمره وأقلع عن بدعته [15] وقولته -رضي الله عنه- عند تقبيله الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما ...
قبلتك) [16] ...
دليل واضح على المتابعة الدقيقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإبعاد لأي اعتقاد ينشأ عند بعض الناس بأن الحجر ينفع أو يضر بذاته. وكذلك قطعه للشجرة التي بايع تحتها رسول -صلى الله عليه وسلم- أهل الحديبية بيعة الرضوان، عندما بلغه أن بعض الناس يقصدها بعبادة كالصلاة عندها أو الدعاء والتبرك بها [17] . - موقف عثمان -رضي الله عنه- في سد باب الفتنة والاختلاف في القرآن الكريم: حيث سارع -عندما قدم عليه حذيفة بن اليمان من أرمينية وأخبره بما رأى من الاختلاف في قراءة القرآن- إلى الأمر بكتابة مصحف واحد من عدة نسخ، وبعث إلى كل قطر وناحية نسخة، وأمر بإحراق بقية النسخ والصحف الموجودة عند الناس، فجمع الناس على مصحف واحد، وقطع الله بعمله هذا دابر الفتنة، وحقق الله على يديه صيانة كتابه وحفظه من الزيادة والنقصان [18] . - قتال علي -رضي الله عنه- للخوارج وللشيعة الذين غلوا فيه حتى ألَّهوه - رضي الله عنه- فنصحهم عن ذلك، ثم لمَّا لم ينتهوا أمر بإحراقهم بالنار، وقال: (لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناراً ودعوت قنبراً) [19] . -يتبع- __________ (1) تاريخ الطبري 3/217، 5/143، ويذكر قولاً للمدائني في تاريخ قتل علي مقارب لهذا. (2) تاريخ الطبري 5/163 ويذكر ذلك عن بن شبة عن المدائني قال: سلم الحسن بن علي الكوفة إلى معاوية، ودخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال: من جماد الأول. (3) رواه أبو داود 4/201، والترمذي 5/44 وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند 4/ 126. (4) المسند 4/273، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/189: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات وقد حسنه الشيخ الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 5. (5) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة وهذا لفظه والترمذي في باب 16. (6) انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين) ، والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/120. (7) رواه أحمد 3 / 387، من حديث مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله وقال الحافظ في الفتح 13 / 234: رواه ابن أبي شيبة والبزار، وسكت عنه وقد صرح في " مقدمة الفتح " أن ما يسكت عنه هو حسن عنده ويشهد لمعناه ما رواه البخاري في صحيحه 13 / 333 -الفتح- عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي انزل على رسول الله أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب؟ ! . (8) تاريخ الطبري 3 / 224. (9) البداية والنهاية 6 / 301 وقال: إسناده صحيح. (10) رواه الحاكم في المستدرك 1/ 62 وقال: صحيح على شرطهما وسكت عنه الذهبي وقال الألباني: صحيح. (11) رواه مسلم 3 / 1344 حديث رقم 1718، ط فؤاد عبد الباقي. (12) رواه مسلم في صحيحه 1 / 206 بشرح النووي. (13) قال في الرياض النضرة في مناقب العشرة،، 247: خرجه النسائي بهذا اللفظ ومعناه في الصحيحين. (14) البداية والنهاية 6 / 304. (15) سنن الدرامي 1/ 54، 55، ومسند أحمد. (16) رواه الجماعة انظر المنتقى من صحيح الأخبار، حديث رقم (2536) . (17) طبقات ابن سعد 2 / 100، وأخبار مكة للفاكهي 5 / 78. (18) انظر صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن. (19) ابن حزم، الفصل 4 /186.