شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:

فمن الجوانب المهمة في الحديث عن الصدقة: بيان أثرها على العبد في الدنيا والآخرة:

أما أثرها في الدنيا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الحث على الصدقة، وبيّن أثرها في نفسية العبد، وأنها تقي مصارع السوء، وتقي موت الفجأة، وتحفظ المال، وتزيده كما قال: ما نقص مال من صدقة، والفكرة العامة عند الناس: أن المعروف لا يضيع، كما قال الشاعر:

من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير عند الله والناس

فإذا صنعت معروفاً لمخلوق لا ينساه لك، فالمولى سبحانه لا ينسى لك ذلك من باب أولى، بل جاء في الحديث القدسي: يا عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: جاع عبدي فلان، فلو أطعمته لوجدتني عنده، يا عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب! وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان، ولو عدته لوجدتني عنده.

بل الحيوان إذا أشفقت عليه ورحمته أثابك الله عليه، وقد جاء في الحديث: أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، وجاء في الحديث: دخلت امرأة بغي الجنة بسقيا كلب، كانت تمشي في الطريق، فاشتد بها الظمأ، ثم وجدت بئراً فنزلت وشربت، فلما خرجت إذا بكلب يلحس الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! قد بلغ به من الظمأ ما بلغ بي، فرجعت إلى البئر وملأت خفها ماءً وسقته، فشكر الله لها صنيعها، فغفر لها.

ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه قالوا: ألنا في الحيوان أجر؟ قال: في كل ذي كبد رطبة أجر .

صنائع المعروف تقي مصارع السوء

صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذه حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد:

الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالساً في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعز عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له قرشين، فدفعها إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجاً هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه -يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأراً أو ويريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالاً: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالقرشين؟ فقال: أي قرشين؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ سبحان الله!!

واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان.

فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لهذين القرشين، فلا تتكاثر معروفاً تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدراً.

الثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يوماً فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غاراً فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يوماً؟! فقال: أولاً: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال: حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه، فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريباً، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد-، فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني.

وهذا مما يبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله.

وقد سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللآتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم!

أيها الإخوة: إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله، ولما جاء إعرابي وقال: (يا محمد! أنت نبي؟ قال: نعم. قال: من أرسلك؟ قال: الله. قال: من يشهد لك؟! قال: الطعام الذي تأكل منه، فرفعوا القصعة إليه وأصغى بأذنه فإذا بها تقول: لا إله إلا الله، فقال: والله! إنها لتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال رجل: اسمعنيها يا رسول الله! قال: أسمعه، فسمعها تأتي بالشهادتين، فقال الثالث: أسمعنيها؟ فقال: ضعها في الأرض) أي: يكفي شهادتين.

فإذا كان الأمر كذلك، ونحن في القرن الخامس عشر نسمع أحداثاً من تلك ونعاينها ونحسها، فلا شك أن ذلك يعطي المؤمن زيادة إيمان ويقين، والخليل عليه السلام سأل ربه كما: قال الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

إذاً: الصدقة في الدنيا لا تضيع، ولا يضيع الله على أحد شيئاً، أما البركة في المال، والزيادة، والطهر، والنماء، فهذا أمر مفروغ منه.

أثر الزكاة والصدقة في المجتمع الإسلامي

نأتي إلى النظام الإسلامي وأثر الزكاة والصدقة فيه، فنجد أنه ما وقع في العالم الإسلامي فتنة ولا غزته فكرة ولا أوتي من الخارج إلا بسبب ترك الصدقة، فلما عطلت الزكاة هدم انتظام المال في الإسلام، وجاءت الفوارق البعيدة، وتقطعت الصلات بين الأغنياء والفقراء، وشح الغني بماله، وحقد الفقير بقلبه، وجاءت الطبقات، وجاءت الدعوات، ومن قبل كان المال عارية في يد صاحبه، ويرى أن الله امتحنه به ليرى: هل يشكر ويحمد ربه ويؤدي حقه أم لا، والفقير أمسك الله عنه المال امتحاناً له لينظر أيصبر أم يجزع، وقد يكون امتحان الغني أشد: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لأن الفقير سلبي، أما الغني يطيش بيديه إلى كل جهة.

فحينما كان المال عارية مستعارة بيد الجميع، فكان يعرف حقه فلا يتعداه، فالغني يؤدي حق الله، والفقير لا يتجاوز حقه في المال، وكل يقف عند حدود الله، فيعيش العالم في أمان وطمأنينة، وكان الكل غنياً بالله.

يقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إن الله أودع في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء، وما جهد فقير إلا بتقصير غني، والله محاسبهم على ذلك حساباً شديداً، ومعذبهم عذاباً أليماً).

أي: الفقير لا يشتكي إلا بتقصير الغني، فالله سبحانه قدر مقادير كل شيء، وأعطى من المال ما يكفي لعباده، لكن الغني يمسك حق الفقير، وإذا كان لك شريك في مال وأمسكت حقه، أجعته، فالفقير له حق معلوم في مالك، فريضة من الله، فإذا أعطى الأغنياء حقوق الفقراء فلا شكوى، وإذا أمسك الأغنياء حقوق الفقراء كانت الشكوى؛ ولذا لما تنظمت الزكاة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ما شكا فقير حاجة، وكان يكتب إليه عامله على إفريقيا: إني قد جمعت الزكاة وأعطيت الفقراء والمساكين، وبقي عندي مال فماذا أفعل به؟ فيقول: انظر أي مدين فسدد دينه، فكتب إليه: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي غريب فبلغه بلده، فكتب إليه وقال: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي أعزب فزوجه، وهكذا انتظمت الحياة عند التزام شرع الله في الزكاة.

وفي القرآن الكريم بيان مصارف الزكاة في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... [التوبة:60]، وعدد ثمانية أصناف تستطيع أن تقول: هي أبواب ميزانية دولة كاملة، فالتضامن الاجتماعي بين الغني والفقير والمسكين، ورجال الوظيفة (العاملون عليها)، والساعون بالمعروف والإصلاح بين الناس، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و(المؤلفة قلوبهم) وزارة الخارجية وعلاقة الإسلام بغيره، ووزارة الطرق والمواصلات.

والجيش وفك الأسير والعاني (في سبيل الله)، وكل ذلك مرافق لمصارف الزكاة.

إذاً: الزكاة مرفق اجتماعي عظيم في الإسلام، ومن أعظم مصارف الزكاة في سبيل الله وفي الرقاب، مثل: تجهيز الغزاة، وفكاك الأسير.

إذاً: الزكاة في الدنيا شأنها عظيم، وأمرها في الآخرة أعظم : (المرء في ظل صدقته)..، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).

العذاب المترتب على منع الزكاة

مانع فريضة الزكاة متوعد بالعذاب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها في الدنيا إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه، وجنبه، وظهره، كلما بردت أحمي عليها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار! وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجيء بها أوفر ما تكون، لا تنقص فصيلاً منها، تطؤه بأظلافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرت عليه أخراها أعيد عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! وما من صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجئ بها أوفر ما تكون، ليس فيها عجفاء، وليس فيها جلحاء، تمر عليه وتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! قالوا: والخيل يا رسول الله؟ قال: أما الخيل فهي لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، أما التي هي له أجر: فرجل ارتبطها في سبيل الله، فلا تستن شرفاً، ولا تنزل وادياً، ولا ترعى مرعاً، ولا يوردها ماء يسقيها إلا كان له في ميزانه حسنات، وفي روثها له فيها حسنات، وأما التي له هي ستر فرجل اقتناها تغنياً -أي: نماءً واقتصاداً- يتغنى بها -أي: يستغني بها- وأما التي هي عليه وزر فرجل اقتناها خيلاء وكبراً، قالوا: والحمير يا رسول الله؟! قال: لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]).

وأحاديث الوعيد في ترك الزكاة كثيرة، وما دخل شر على المسلمين إلا بتعطيل الزكاة، فالزكاة تربط بين أفراد المسلمين، فلما عطلت الزكاة تخلخلت هذه الروابط، ووجدت تلك الفجوات، ووجد الفراغ، وجاءت الأفكار المسمومة، هذا ما أردنا التنبيه عليه، والله أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.

الفرق بين الصدقة والهدية

السؤال: ما هو الفرق بين الصدقة والهدية؟

الجواب: افرق كبير جداً، ويظهر ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع سلمان الفارسي لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، سمع به سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد تنقل من فارس إلى الموصل إلى الشام إلى الحجاز، وكل ذلك بحثاً عن الدين الحق، وأخيراً عرف الطريق، وجاء مع قوم، وباعوه، ثم بيع في المدينة لرجل يهودي، فكان يعمل عنده، وينتظر مقدم نبي آخر الزمان من الحرم، وعلم أنه مهاجر إلى بلدة أرضها سبخة ذات نخيل بين حرتين، وكان يظنها خيبر، ثم اتضح له أنها المدينة، فكان يعمل في بستان رجل يهودي، وسمع بمجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عنده ثلاث علامات، وكان في زمن الصيف، فجاء بقفة من الرطب، وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك، وعلى أصحابك، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (إني لا آكل الصدقة وقربها إلى الآخرين)، فقال سلمان : هذه واحدة، ومن الغد جاء بمثلها، وقال: يا محمد! هذه هدية مني إليك ولأصحابك، فأكل منها، فقال سلمان : هذه الثانية، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وكشف له عما بين كتفيه لينظر العلامة الثالثة، فنظر سلمان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهوى على خاتم النبوة يقبله، وأعلن إسلامه حالاً، وقصة سلمان طويلة، ثم اشترى نفسه من صاحبه بكذا أوقية، وأن يغرس له مائة ودية، إلى آخر قصته.

ومما يبين الفرق بين الصدقة والهدية ما جاء في قضية بريرة، عندما دخل صلى الله عليه وسلم البيت، فقدموا له إراماً، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟! قالوا: إنه لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية).

ويقول الأصوليون: الأعمال بالمقاصد، وفي الحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وهي قطعة لحم واحدة، وهي من يد صاحبها إلى بريرة صدقة، وهي -القطعة بعينها- من يد بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأكل منها صلى الله عليه وسلم.

إذاً: فرق بين الصدقة والهدية، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لذوي الأرحام والأقارب خير من الصدقة للأجانب؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: : (صدقة وصلة)، فتصل رحمك وتتصدق، ولكن لا يكون المتصدق عليه من رحمك ممن تلزمك نفقته، لأنه إن كان ممن تلزمك نفقته، فلا يجوز أن تتصدق عليه؛ لأنك تؤدي واجب النفقة من صلة الزكاة، وهذا لا يجوز، والهدية كما قيل: من أكبر ما يكون بين الأفراد في علاج أحنة الصدر، وفي المؤاخاة، وفي غرس المحبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا)، فإذا أهديت إلى إنسان ولو عود أراك، فإنه يذكرك به، وينزل منزلة في نفسه، فيكون مدعاة إلى زيادة المحبة بينك وبينه.

إذاً: الهدية عامة، يهدي الإنسان لصديقه، أو لأخيه وجاره، والصدقة يتقرب بها إلى الله، ولها مصارفها الخاصة، مثل الفقراء، المساكين، وغيرها من أبواب البر التي يعلمها الجميع.

صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذه حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد:

الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالساً في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعز عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له قرشين، فدفعها إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجاً هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه -يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأراً أو ويريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالاً: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالقرشين؟ فقال: أي قرشين؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ سبحان الله!!

واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان.

فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لهذين القرشين، فلا تتكاثر معروفاً تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدراً.

الثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يوماً فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غاراً فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يوماً؟! فقال: أولاً: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال: حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه، فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريباً، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد-، فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني.

وهذا مما يبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله.

وقد سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللآتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم!

أيها الإخوة: إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله، ولما جاء إعرابي وقال: (يا محمد! أنت نبي؟ قال: نعم. قال: من أرسلك؟ قال: الله. قال: من يشهد لك؟! قال: الطعام الذي تأكل منه، فرفعوا القصعة إليه وأصغى بأذنه فإذا بها تقول: لا إله إلا الله، فقال: والله! إنها لتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال رجل: اسمعنيها يا رسول الله! قال: أسمعه، فسمعها تأتي بالشهادتين، فقال الثالث: أسمعنيها؟ فقال: ضعها في الأرض) أي: يكفي شهادتين.

فإذا كان الأمر كذلك، ونحن في القرن الخامس عشر نسمع أحداثاً من تلك ونعاينها ونحسها، فلا شك أن ذلك يعطي المؤمن زيادة إيمان ويقين، والخليل عليه السلام سأل ربه كما: قال الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

إذاً: الصدقة في الدنيا لا تضيع، ولا يضيع الله على أحد شيئاً، أما البركة في المال، والزيادة، والطهر، والنماء، فهذا أمر مفروغ منه.

نأتي إلى النظام الإسلامي وأثر الزكاة والصدقة فيه، فنجد أنه ما وقع في العالم الإسلامي فتنة ولا غزته فكرة ولا أوتي من الخارج إلا بسبب ترك الصدقة، فلما عطلت الزكاة هدم انتظام المال في الإسلام، وجاءت الفوارق البعيدة، وتقطعت الصلات بين الأغنياء والفقراء، وشح الغني بماله، وحقد الفقير بقلبه، وجاءت الطبقات، وجاءت الدعوات، ومن قبل كان المال عارية في يد صاحبه، ويرى أن الله امتحنه به ليرى: هل يشكر ويحمد ربه ويؤدي حقه أم لا، والفقير أمسك الله عنه المال امتحاناً له لينظر أيصبر أم يجزع، وقد يكون امتحان الغني أشد: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لأن الفقير سلبي، أما الغني يطيش بيديه إلى كل جهة.

فحينما كان المال عارية مستعارة بيد الجميع، فكان يعرف حقه فلا يتعداه، فالغني يؤدي حق الله، والفقير لا يتجاوز حقه في المال، وكل يقف عند حدود الله، فيعيش العالم في أمان وطمأنينة، وكان الكل غنياً بالله.

يقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إن الله أودع في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء، وما جهد فقير إلا بتقصير غني، والله محاسبهم على ذلك حساباً شديداً، ومعذبهم عذاباً أليماً).

أي: الفقير لا يشتكي إلا بتقصير الغني، فالله سبحانه قدر مقادير كل شيء، وأعطى من المال ما يكفي لعباده، لكن الغني يمسك حق الفقير، وإذا كان لك شريك في مال وأمسكت حقه، أجعته، فالفقير له حق معلوم في مالك، فريضة من الله، فإذا أعطى الأغنياء حقوق الفقراء فلا شكوى، وإذا أمسك الأغنياء حقوق الفقراء كانت الشكوى؛ ولذا لما تنظمت الزكاة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ما شكا فقير حاجة، وكان يكتب إليه عامله على إفريقيا: إني قد جمعت الزكاة وأعطيت الفقراء والمساكين، وبقي عندي مال فماذا أفعل به؟ فيقول: انظر أي مدين فسدد دينه، فكتب إليه: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي غريب فبلغه بلده، فكتب إليه وقال: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي أعزب فزوجه، وهكذا انتظمت الحياة عند التزام شرع الله في الزكاة.

وفي القرآن الكريم بيان مصارف الزكاة في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... [التوبة:60]، وعدد ثمانية أصناف تستطيع أن تقول: هي أبواب ميزانية دولة كاملة، فالتضامن الاجتماعي بين الغني والفقير والمسكين، ورجال الوظيفة (العاملون عليها)، والساعون بالمعروف والإصلاح بين الناس، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و(المؤلفة قلوبهم) وزارة الخارجية وعلاقة الإسلام بغيره، ووزارة الطرق والمواصلات.

والجيش وفك الأسير والعاني (في سبيل الله)، وكل ذلك مرافق لمصارف الزكاة.

إذاً: الزكاة مرفق اجتماعي عظيم في الإسلام، ومن أعظم مصارف الزكاة في سبيل الله وفي الرقاب، مثل: تجهيز الغزاة، وفكاك الأسير.

إذاً: الزكاة في الدنيا شأنها عظيم، وأمرها في الآخرة أعظم : (المرء في ظل صدقته)..، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).