شرح الأربعين النووية - الحديث العشرون


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري -قيل: البدري: لأنه سكن بدراً- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري .

إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق

قوله صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناسُ بالرفع، ورواية أخرى بالنصب: إن مما أدرك الناسَ وفاعل (أدرك) في الأولى: الناسُ، وفي الثانية: ما حُكي من كلام النبوة الأولى.

ومهما يكن فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من كلام النبوة الأولى ما أدرك الناس أو أدركه الناس -أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم- ومن هذا الكلام هذه العبارة: (إذا لم تستح) قيل: بحذف الياء وبإثباتها؛ لأنها إما من الحياء، وإما من الاستحياء.

الحيا: ضد الموت، والحياء: هو الخلق والغريزة، فمن أثبت ياءً يكون حذف الياء الأخرى: استحييتُ، ومن أثبت الياء يكون حذف الياء الأولى لحرف الجزم (لم)، ومن حذف الياءين ولم يثبت شيئاً (من الحياء).

وقوله صلى الله عليه وسلم هنا يشعر بارتباط النبوات كلها، وأن مما وصلنا وأدركناه من ذاك الكلام مما لم يُغير أو يُحرف أو يُبدل هذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم.

ومن جانب آخر: الحديث في جملته حثٌ على الحياء، وهو عند العلماء من أعلى الأخلاق ومكارمها وذروتها، مما يُعطي لنا دلالةً واضحة أن مكارم الأخلاق قدر مشترك بين النبوات وبين جميع الرسالات، ويؤيد هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق هناك مكارم أخلاق في الرسالات الأولى، وهناك مكارم أخلاق جاء بها الأنبياء المتقدمون، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يتمم ما جاء به من قبله.

وإذا نظرنا إلى هذا الحث الشديد منه صلى الله عليه وسلم على لزوم الحياء وهو قمة الأخلاق نجد أن أهم ما في سلوك المسلم وأهم ما في تعاليمه هو مكارم الأخلاق، ولذا المولى سبحانه مع تكريمه لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التكريم حينما وصفه سبحانه في ذاته، وصفه بقوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

وهكذا يقول العلماء: من كرمت أخلاقه، وحسن سلوكه، ربما ترك المعاصي حياءً من الله.

ومن الناس من لم يعص الله مروءةً، كما قال صلى الله عليه وسلم: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه يعني: يترك عصيان الله حياءً من الله، وقد يترك المعصية مروءةً وإباءً، كما جاء عن هند عند بيعة النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزنين)، قالت: يا رسول الله! أوتزني الحرة؟! تستبعد وتستنكر، ولا يخطر في بالها أن الحرة الأبية ترضى أن يعلوها رجل غير بعلها!.

إذاً مكارم الأخلاق هي حفاظ الأمم والأفراد.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ودريد بن الصمة في أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده من الطائف، وقال له: انزل إلى مكة واسمع من هذا الرجل الذي يذكرونه، واعقل لي ما يقول، فذهب ورجع وقال: يا أبت! إنه يأمر بالصدق في الكلام، وبصلة الأرحام، وبإطعام الطعام، وأداء الأمانة، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق.

إن لم يكن ما يقوله ديناً بعث به من الله ووجب اتباعه عليه طاعة لله فهو مكارم أخلاق لا يعيبها العقلاء، وجميع الأديان مما وصل إلينا تدعو إلى تلك الأخلاق الفاضلة، كما اتفقت جميع الديانات على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.

الحياء شعبة من شعب الإيمان

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يقول العلماء على سبيل الإجمال: هذا الحديث يدل على أحد أمرين:

الأمر الأول: إذا أردت أن تعمل شيئاً فانظر هل هذا العمل يستحى منه عند الناس أم لا؟ فإن كان لا يستحى منه عند الناس فاصنعه، أي: أنه حسن وليس قبيحاً، وهذا الوجه ضعيف.

الأمر الثاني: (إذا لم تستح) أي: إذا فقدت الحياء، وإذا لم يكن عندك هذه الخصلة وهذه الغريزة وهذا الخلق الفاضل، فحينئذ لا عليك، كأنه يقول: إذا لم يستح فحينئذ كل شيء لا يستنكر منه.

وجاء في حديث -وإن كان ضعيفاً- : (إن الله إذا أراد هلاك عبد نزع منه الحياء فلا تلقاه إلا مقيتاً ممقتاً أو بغيضاً مبغضاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة، وإذا نزع منه الأمانة فلا تلقاه إلا خائناً مخوناً، وإذا أصبح خائناً مخوناً نزع منه الرحمة، فإذا نزع منه الرحمة أصبح غليظاً مغلظاً، وإذا أصبح غليظاً مغلظاً نزع من رقبته ربقة الإيمان فلا تراه إلا شيطاناً ملعنا) وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنهم يذكرونه في بيان نتائج عدم الحياء.

إذاً الحياء هو رداء الكمال في الإنسان، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان) ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينصح أخاه في الحياء يقول: أنت كثير الحياء وتترك العمل، كثير الحياء ويترتب عليه كذا، فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعه! إن الحياء لا يأتي إلا بخير)وفي رواية: (الحياء خير كله) .

نعلم الحديث العام: (الحياء بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) والحياء شعبة من بضع وسبعين شعبة، إذا نظرنا إلى آثاره في العبد فما هي؟

ويقال في علاقة الحياء بالإيمان: إن حقيقة الحياء في العبد أول ما يجب عليه أن يكون أشد حياءً من الله، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إننا لنستحيي، قال: ليس ذاك، لكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن يذكر الموت والبلى) فإذا حفظ الرأس وما حوى، فماذا يحفظ في الرأس؟ يحفظ العين من أن تنظر إلى محرم، ويحفظ الأذن من أن تسمع إلى محرم، ويحفظ اللسان من أن يغتاب أو يكذب أو يتكلم بمحرم، أو يتناول طعاماً محرماً أو شراباً محرماً، فإذا حفظ الرأس بما فيه من أعضاء، وحفظ البطن وما حوى، وهذا كناية عما يتبع البطن مما فيه من اتصال غير مشروع، وهكذا، ويذكر الموت والبلى، وإذا تذكر الموت والبلى، وحفظ جوارحه من المعاصي فإنه حقاً يعيش على حذر مما بين يديه، وإذا تذكر الموت وما وراء الموت عمل لليوم الآخر.

ومن هنا كان الحياء شعبة من الإيمان، ولذا جاء في الحديث المتقدم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)وجاء في الحديث عند الترمذي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية فقال: (استحي من الله أشد مما تستحي من ذي المروءة من قومك) وقالوا: معنى ذلك: حقيقة الحياء من الله أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك، أمرك بالصوم فلا يفتقدك في الصيام، وتكون متفلتاً مع المفطرين، أمرك بالصلاة فلا يفتقدك عندما يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، نهاك عن السرقة، نهاك عن أكل مال الناس بالباطل فلا يراك تهتك الستر وتسرق المال، فلا يراك تغش وتدلس، وغريمك جاهل ومسكين لا يدري عن طرقك، أمرك بوفاء الكيل ونهاك عن تطفيفه، فإذا جاءك رجل لا يعرف شيئاً إذا بك تستغل غشامته وجهالته، وتطفف الكيل وتبخس الوزن، ونسيت أن عليك رقابة من الله.

حقيقة الحياء من الله تعالى

حقيقة الحياء من الله: مراقبة الله، وكما قالوا: أشد ما يكون الحياء لكي تشعر بذلك -كما ذكروا عن الجنيد رحمه الله- أن تتذكر نعم الله عليك، وتنظر شكرك لنعم الله، فإذا تذكر العبد ما أنعم الله به عليه أولاً في ذاته، نعمة بصره، ونعمة سمعه، ونعمة ذوقه، ونعمة نطقه، ونعمة شمه، ونعمة بطشه وحركته، وكل ما أنعم عليه بذلك، فلينظر هل أدى شكر تلك النعم أم أنه قصّر في شكرها؟ بل إنه تجاوز التقصير واستعمل نعمة الله في معصية الله.

أول ما يكون الحياء أن تعترف بنعم الله عليك، وتقدرها في نفسك، وتعظم عطاء الله عندك، ثم بعد ذلك تفكر فيم صرفت هذه النعم، هل هي في طاعة الله، أم في معصية الله؟

وكما جاء الحديث: (أنا والملأ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد).

إذاً: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إذا أردت أن تفعل شيئاً هل هذا الفعل قبيح يستقبحه الناس، وصاحب المروءة والإباء يستحي من الناس أن يفعل ما ينكرونه عليه؟ إذاً الحياء يرد الشخص، فإذا نزع منه قناع الحياء لم يبق فيه خير، فربما الحيوانات تكون أشد امتناعاً منه.

وعلى هذا يكون هذا الحديث كما قيل: يشمل جميع تعاليم الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام إما أمر بفعل واجب أو مندوب، أو نهي عن أمر محرم أو مكروه، وإذا كنت تفعل شيئاً محرماً أو مكروهاً هذا فعل يستحى منه، فإذا كنت لا تستحي فإنك ستفعل كل ما حرم الله وتقصر في كل ما أوجب الله عليك.

قوله: (فاصنع ما شئت) للتهديد

قوله صلى الله عليه وسلم: (فاصنع ما شئت) هل هو للإباحة في أن يصنع كل شيء؟ لا، إنما هو على سبيل الوعيد والتهديد كما في قوله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] باختياركم! الذي يريد أن يؤمن فلنفسه، والذي يريد أن يكفر فعلى نفسه ومآله إلى النار، هل هذا تخيير أو تهديد؟ يكون تهديداً.

قوله صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناسُ بالرفع، ورواية أخرى بالنصب: إن مما أدرك الناسَ وفاعل (أدرك) في الأولى: الناسُ، وفي الثانية: ما حُكي من كلام النبوة الأولى.

ومهما يكن فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من كلام النبوة الأولى ما أدرك الناس أو أدركه الناس -أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم- ومن هذا الكلام هذه العبارة: (إذا لم تستح) قيل: بحذف الياء وبإثباتها؛ لأنها إما من الحياء، وإما من الاستحياء.

الحيا: ضد الموت، والحياء: هو الخلق والغريزة، فمن أثبت ياءً يكون حذف الياء الأخرى: استحييتُ، ومن أثبت الياء يكون حذف الياء الأولى لحرف الجزم (لم)، ومن حذف الياءين ولم يثبت شيئاً (من الحياء).

وقوله صلى الله عليه وسلم هنا يشعر بارتباط النبوات كلها، وأن مما وصلنا وأدركناه من ذاك الكلام مما لم يُغير أو يُحرف أو يُبدل هذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم.

ومن جانب آخر: الحديث في جملته حثٌ على الحياء، وهو عند العلماء من أعلى الأخلاق ومكارمها وذروتها، مما يُعطي لنا دلالةً واضحة أن مكارم الأخلاق قدر مشترك بين النبوات وبين جميع الرسالات، ويؤيد هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق هناك مكارم أخلاق في الرسالات الأولى، وهناك مكارم أخلاق جاء بها الأنبياء المتقدمون، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يتمم ما جاء به من قبله.

وإذا نظرنا إلى هذا الحث الشديد منه صلى الله عليه وسلم على لزوم الحياء وهو قمة الأخلاق نجد أن أهم ما في سلوك المسلم وأهم ما في تعاليمه هو مكارم الأخلاق، ولذا المولى سبحانه مع تكريمه لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التكريم حينما وصفه سبحانه في ذاته، وصفه بقوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

وهكذا يقول العلماء: من كرمت أخلاقه، وحسن سلوكه، ربما ترك المعاصي حياءً من الله.

ومن الناس من لم يعص الله مروءةً، كما قال صلى الله عليه وسلم: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه يعني: يترك عصيان الله حياءً من الله، وقد يترك المعصية مروءةً وإباءً، كما جاء عن هند عند بيعة النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزنين)، قالت: يا رسول الله! أوتزني الحرة؟! تستبعد وتستنكر، ولا يخطر في بالها أن الحرة الأبية ترضى أن يعلوها رجل غير بعلها!.

إذاً مكارم الأخلاق هي حفاظ الأمم والأفراد.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ودريد بن الصمة في أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده من الطائف، وقال له: انزل إلى مكة واسمع من هذا الرجل الذي يذكرونه، واعقل لي ما يقول، فذهب ورجع وقال: يا أبت! إنه يأمر بالصدق في الكلام، وبصلة الأرحام، وبإطعام الطعام، وأداء الأمانة، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق.

إن لم يكن ما يقوله ديناً بعث به من الله ووجب اتباعه عليه طاعة لله فهو مكارم أخلاق لا يعيبها العقلاء، وجميع الأديان مما وصل إلينا تدعو إلى تلك الأخلاق الفاضلة، كما اتفقت جميع الديانات على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يقول العلماء على سبيل الإجمال: هذا الحديث يدل على أحد أمرين:

الأمر الأول: إذا أردت أن تعمل شيئاً فانظر هل هذا العمل يستحى منه عند الناس أم لا؟ فإن كان لا يستحى منه عند الناس فاصنعه، أي: أنه حسن وليس قبيحاً، وهذا الوجه ضعيف.

الأمر الثاني: (إذا لم تستح) أي: إذا فقدت الحياء، وإذا لم يكن عندك هذه الخصلة وهذه الغريزة وهذا الخلق الفاضل، فحينئذ لا عليك، كأنه يقول: إذا لم يستح فحينئذ كل شيء لا يستنكر منه.

وجاء في حديث -وإن كان ضعيفاً- : (إن الله إذا أراد هلاك عبد نزع منه الحياء فلا تلقاه إلا مقيتاً ممقتاً أو بغيضاً مبغضاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة، وإذا نزع منه الأمانة فلا تلقاه إلا خائناً مخوناً، وإذا أصبح خائناً مخوناً نزع منه الرحمة، فإذا نزع منه الرحمة أصبح غليظاً مغلظاً، وإذا أصبح غليظاً مغلظاً نزع من رقبته ربقة الإيمان فلا تراه إلا شيطاناً ملعنا) وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنهم يذكرونه في بيان نتائج عدم الحياء.

إذاً الحياء هو رداء الكمال في الإنسان، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان) ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينصح أخاه في الحياء يقول: أنت كثير الحياء وتترك العمل، كثير الحياء ويترتب عليه كذا، فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعه! إن الحياء لا يأتي إلا بخير)وفي رواية: (الحياء خير كله) .

نعلم الحديث العام: (الحياء بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) والحياء شعبة من بضع وسبعين شعبة، إذا نظرنا إلى آثاره في العبد فما هي؟

ويقال في علاقة الحياء بالإيمان: إن حقيقة الحياء في العبد أول ما يجب عليه أن يكون أشد حياءً من الله، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إننا لنستحيي، قال: ليس ذاك، لكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن يذكر الموت والبلى) فإذا حفظ الرأس وما حوى، فماذا يحفظ في الرأس؟ يحفظ العين من أن تنظر إلى محرم، ويحفظ الأذن من أن تسمع إلى محرم، ويحفظ اللسان من أن يغتاب أو يكذب أو يتكلم بمحرم، أو يتناول طعاماً محرماً أو شراباً محرماً، فإذا حفظ الرأس بما فيه من أعضاء، وحفظ البطن وما حوى، وهذا كناية عما يتبع البطن مما فيه من اتصال غير مشروع، وهكذا، ويذكر الموت والبلى، وإذا تذكر الموت والبلى، وحفظ جوارحه من المعاصي فإنه حقاً يعيش على حذر مما بين يديه، وإذا تذكر الموت وما وراء الموت عمل لليوم الآخر.

ومن هنا كان الحياء شعبة من الإيمان، ولذا جاء في الحديث المتقدم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)وجاء في الحديث عند الترمذي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية فقال: (استحي من الله أشد مما تستحي من ذي المروءة من قومك) وقالوا: معنى ذلك: حقيقة الحياء من الله أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك، أمرك بالصوم فلا يفتقدك في الصيام، وتكون متفلتاً مع المفطرين، أمرك بالصلاة فلا يفتقدك عندما يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، نهاك عن السرقة، نهاك عن أكل مال الناس بالباطل فلا يراك تهتك الستر وتسرق المال، فلا يراك تغش وتدلس، وغريمك جاهل ومسكين لا يدري عن طرقك، أمرك بوفاء الكيل ونهاك عن تطفيفه، فإذا جاءك رجل لا يعرف شيئاً إذا بك تستغل غشامته وجهالته، وتطفف الكيل وتبخس الوزن، ونسيت أن عليك رقابة من الله.

حقيقة الحياء من الله: مراقبة الله، وكما قالوا: أشد ما يكون الحياء لكي تشعر بذلك -كما ذكروا عن الجنيد رحمه الله- أن تتذكر نعم الله عليك، وتنظر شكرك لنعم الله، فإذا تذكر العبد ما أنعم الله به عليه أولاً في ذاته، نعمة بصره، ونعمة سمعه، ونعمة ذوقه، ونعمة نطقه، ونعمة شمه، ونعمة بطشه وحركته، وكل ما أنعم عليه بذلك، فلينظر هل أدى شكر تلك النعم أم أنه قصّر في شكرها؟ بل إنه تجاوز التقصير واستعمل نعمة الله في معصية الله.

أول ما يكون الحياء أن تعترف بنعم الله عليك، وتقدرها في نفسك، وتعظم عطاء الله عندك، ثم بعد ذلك تفكر فيم صرفت هذه النعم، هل هي في طاعة الله، أم في معصية الله؟

وكما جاء الحديث: (أنا والملأ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد).

إذاً: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إذا أردت أن تفعل شيئاً هل هذا الفعل قبيح يستقبحه الناس، وصاحب المروءة والإباء يستحي من الناس أن يفعل ما ينكرونه عليه؟ إذاً الحياء يرد الشخص، فإذا نزع منه قناع الحياء لم يبق فيه خير، فربما الحيوانات تكون أشد امتناعاً منه.

وعلى هذا يكون هذا الحديث كما قيل: يشمل جميع تعاليم الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام إما أمر بفعل واجب أو مندوب، أو نهي عن أمر محرم أو مكروه، وإذا كنت تفعل شيئاً محرماً أو مكروهاً هذا فعل يستحى منه، فإذا كنت لا تستحي فإنك ستفعل كل ما حرم الله وتقصر في كل ما أوجب الله عليك.