شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا بحق الإسلام)

فالحق هنا حق الإسلام الذي هو دين الله، ولم يقل: بحق المسلمين، أو بحق الرسول .. (إلا بحق الإسلام) أي: الحق الذي جاء به الإسلام من عند الله، وهنا يرد سؤال: ما هو حق الإسلام؟.

جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، والنفس بالنفس -أو قاتل النفس- والتارك لدينه المفارق للجماعة).

ثبوت القتل بالرجم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام

ويهمنا هنا أن هذا الحديث الصحيح يثبت وجود الرجم، وقد أنكر بعض الناس الرجم، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس على المنبر وقال: (أيها الناس! لا يطولنّ الزمان بالناس فيقولون: أين الرجم لم نجده في كتاب الله؟ لقد نزلت آية الرجم، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا معه، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها)، وقد أجمع أنه كان فيما أنزل من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله وكان الله عزيزاً حكيماً)، ونُسخت وبقي حكمها، وكل علماء الأصول يعلمون أن النسخ: إما نسخ اللفظ وبقاء الحكم، أو نسخ الحكم وبقاء اللفظ. وقد يرد سؤال: ما الحكمة من النسخ بهذه الكيفية؟

قالوا: نسخ الحكم وبقاء اللفظ للتعبد، ليتذكر الناس تخفيف الله عليهم، ونسخ اللفظ وبقاء الحكم: للابتلاء والامتحان، هل يتركون العمل به بمجرد عدم وجوده، أم يظلون ممتثلين أمر الله ولو رُفع اللفظ؟

ثم إن بعض العلماء يقول: ما نسخ لفظ الرجم، بل إنه موجود كما في قصة اليهود، ففي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (جيء بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ائتوني بأعلم رجلين، فجاءوا بابني صورية، فقال لهما: ما حكم ذلك في كتابكما؟ قالا: إن رهباننا قد غيّروا وجعلوا التحميم -تسويد الوجه- وتنكيس الوجوه في الركوب، فقال عبد الله بن سلام : مرهم فليأتوا بالتوراة فليقرءوها، فجاءوا بالتوراة وقرءوها، ولم يقرءوا آية الرجم، فقال ابن سلام : مره فليرفع يده -أي: القارئ- فرفع يده فإذا آية الرجم موجودة في التوراة)، فقالوا: إن وجود آية الرجم في التوراة، وطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقرأ على الحاضرين، علاوة على دلالة القرآن الكريم عليها والإحالة إلى موضعها في التوراة، لهو إثبات للرجم.

وهنا مبحث: هل شرع من قبلنا شرع لنا، أم لا؟

الجمهور: على أنه شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما ينسخه أو يدل على منعه.

ويكفي في إثبات الرجم الأحاديث المتواترة في ذلك، وقضية ماعز وقضية الغامدية وكل منهما قد رجم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

ووقعت بعض الوقائع في زمن عمر ولم يكن نصاب الشهود كاملاً، فلم يطبق هذا الحد.

وهنا يبحثون أيضاً: لماذا يشترطون أربعة شهود في حد الزنا؟ بينما في القتل لو شهد اثنان على قتل أربعة لواحد لقتل الأربعة؟

قالوا: لأن كل جريمة شهادة على جانب واحد، لو أن إنساناً قتل إنساناً، نحن في حاجة إلى شهادة على القاتل أنه قتل، ولكن في الزنا هناك زان ومزني بها، فهناك طرفان، قالوا: وشهادة الأربعة لا تخص واحداً من الطرفين في الزنا، هذا فيه وجه آخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يطلب الأربعة الشهود إلا أن يكون الطرفان موجودان، وما جاءت قضية يقر صاحبها وفتش عن الطرف الثاني.

فحينما جاء ماعز ، ما قال له: بمن زنيت؟ وحينما جاءت الغامدية ما قال لها: من الذي زنى بك؟ لأن ذلك تفتيش وتنقيب عن الفواحش، والأمر مبني على الستر، فلما جاءت الغامدية اكتفى بمجيئها، ولما جاء ماعز اكتفى بمجيئه، لأنه: لو قال ماعز : زنيت بفلانة، وجيء بفلانة وقالت: يكذب، هل قوله: يسري عليها، لا.. وكذلك لو جاءت الغامدية وسئلت: من صاحبك، وقالت: فلان، وجيء بفلان، وقال: كذبت علي، هل يؤخذ بادعائها عليه، لا يؤخذ، إذاً ما الفائدة من المجيء، ولكن في قضية العسيف كما تقدم في الموطأ: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فأفتيت بأن على ابني الرجم فافتديت ولدي بوليدة ومائة شاة، فاقض بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، أقضي بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم يردان عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام).

إذاً: هذا هو الحكم بكتاب الله؛ لأن ولده بكر ليس بمحض، والتغريب من كتاب الله، لا كما تقول بعض المذاهب: زيادة على النص فهو ساقط، وعليه تغريب عام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لماذا أرسل إلى امرأة هذا؟ الاعتراف جاء من المرأة والأجير من قبل، ولكن اختلفوا في الحكم، فأُفتي ممن لم يعلم الحكم، فقام الرجل وافتدى ولده، والحدود لا يفتدى فيها، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وذهب أنيس إلى المرأة فاعترفت فرجمها.

المقاصد الشرعية من تغليظ حد الثيب الزاني

إذاً فممن يستحل دمه: الثيب الزاني، والثيب: هو الذي سبق أن تزوج، ودخل بامرأته في عقد لا بملك يمين، ووطأها وطئاً صحيحاً ولو مرة واحدة، بل كما يقول العلماء: ولو بمجرد مغيب الحشفة، ويرتبون على مغيب الحشفة نحواً من عشرين حكماً في الفقه، فإذا تزوج ودخل بالزوجة، ولو طلقها في الحال، أو ماتت أصبح ثيباً.

الخلاصة أن البكر إذا زنت تجلد مائة جلدة، والثيب إذا زنت رجمت.

الزنا واحد، والإيلاج واحد، وقضاء الوطر واحد.. فلماذا اختلف الحكم؟

ونجد البعض يقول: إن البكر لم يتذوق أمر النكاح، فهو لا يدري شيئاً عنه، ولذا فهو أقدر على الصبر عليه، أما الثيب فقد تذوق ولا يقوى على الصبر والعفة، فلماذا شدد في حكم الثيب دون البكر؟

أقول: إن الذي يتتبع مقاصد الشريعة يجد أن الحكمة فيما جاء به الشرع؛ لأن الثيب غالباً ما تكون ذات زوج، والبكر لا زوج لها، فإذا زنت البكر وحملت، وظهر حملها وجاء ولدها، هل يمكن أن يلصق بأحد؟ لا، متميز بذاته، ولكن الثيب إذا زنت وحملت من غير زوجها، فإنها تلحق بزوجها من ليس منه.

إذاً جرم الثيب أكبر، وجرأة الثيب في التساهل أكثر؛ لأنها ترى عليها غطاءً يسترها ألا وهو زوجها، والبكر لا تجد ذلك، إذاً: القضية ليست محل اجتهاد، وإنما هو تخرص واستنتاج، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب الزاني) وتفاصيل هذا الأمر في كتب الفقه في باب الحدود.

أقوال العلماء في قتل النفس بالنفس

قال عليه الصلاة والسلام: (والنفس بالنفس، أو القاتل...) أجمع العلماء على أن من قتل يقتل، لقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] وبيّن في موضع آخر: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ))[البقرة:178].

فإن قتل حر عبداً، أو العكس، أو قتل ذكر أنثى أو العكس، ماذا يكون الحكم؟ بينه قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45] فالذكر يُقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالذكر، ولكن بعض المذاهب يقول: إذا قتل رجل امرأة وطلب أهل المرأة القصاص من الرجل، دُفع لهم نصف الدية؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، فيدفعون نصف الدية أو يقتلون الرجل، والجمهور يقولون: لا ( النفس بالنفس ) رجل بامرأة وامرأة برجل سواء، أما الحر بالعبد، فالجمهور يقولون: لا، الحر إذا قتل عبداً، العبد مال يقوّم، ويدفع لسيده قيمته مهما بلغت، ولو زادت عن دية الحر، وإذا قتل العبد حراً، ماذا يكون الحال؟ ليس على سيد العبد إلا تسليم العبد، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا امتلكوا، أو باعوا وأخذوا القيمة، ثم هناك القصاص في الجروح دون النفس وهذا له بحث خاص في موضعه.

كلام العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (التارك لدينه المفارق للجماعة)

قال صلى الله عليه وسلم: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهذا باب واسع يُبحث في باب الردة، ومن أراد أن يرجع إليه فليرجع، وفيه دقائق قد تخفى على كثير من العلماء، ومن تلك الدقائق: كل من سخر بعمل في الإسلام ولو كانت السخرية في سنة أو مندوب لكونه في الإسلام فهي ردة عن الإسلام، فإن رأى إنسان إنساناً بلحية طويلة فنظر إليه بسخرية وضحك منه لهذا الأمر، أو سخر إنسان من إنسان لأنه رآه يستاك، قال العلماء: كل من سخر من أي شيء ينسب إلى الإسلام أو استهان بشيء في الدين فإن الفقهاء يعتبرونها ردة.

وقوله:(التارك لدينه المفارق للجماعة)، لا يفارق الجماعة إلا إذا انعزل عنها، وترك تعاليمها، وأبى أن يكون ضمن الأمة بكاملها في أوامرها ونواهيها وتعاليم دينها.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)

قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله) هذا من القواعد العامة أن المسلم لا ينبغي له أن ينقب ويتجسس ويتتبع عورات الناس، وها هو صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى، وقد بيّن الله له حال المنافقين تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273] فيكاد يسميهم القرآن واحداً واحداً، وكان حذيفة يعرفهم بأفرادهم، حتى يأتيه عمر ويقول: (هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين)، عمر يخشى من ذلك، بينما ابن أُبي رئيس المنافقين حين هم بعض أصحاب النبي بقتله، منعه وقال له: (لا؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) يتركهم لشأنهم، فحسابهم على الله.

النصيحة أولى من تتبع العورات

إذاً: لا ينبغي لولي أمر المسلمين، ولا لطالب علم، ولا لمتقدم للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتتبع عورات الناس، وإنما يكلهم إلى الله.

جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أنه رأى رجلاً مسرعاً، فقال له: ما لك؟ قال: جاري يشرب الخمر في بيته، وأنا ذاهب إلى صاحب الشرط لأشتكيه، قال: هل نصحته، قال: لا، قال: اذهب إليه أولاً فانصحه).

وهكذا: يروى عن أحمد رحمه الله أنه سئل: إذا نهيت جاري عن منكر يفعله فلم ينته، هل أستعدي عليه الحاكم؟ قال: لا. مهمتك أن تنصحه وتنهاه، ما دام مستتراً ليس لك عليه سبيل، دعه في شأنه، لعل الله يهديه، وحاول بنصحك له، والتلطف معه، لعل الله يرحمه، أما إذا جاهر صاحب المنكر وأظهر منكره، فهذا كان في ستر الله فهتك الستر عن نفسه، وأصبح مرتكباً جرمين: جرم المنكر الذي يفعله، وجرم الاستهانة بإحساس المجتمع، ونشر الرذيلة على غيره، فهو كمورد الرذائل للمجتمع، فهذا أصبح بؤرة فساد وإغواء، فلا يترك، وعلى كل فرد من الأفراد أن يرفع أمره إلى الحاكم، ولا ينتظر من هو معين أو مسئول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا نُصح فلم ينتصح، ووُعظ فلم يتعظ، وأصبح يجاهر ويستهتر، ويفعل المنكر غير مبال، فهذا لا حرمة له.

إذاً: (وحسابهم على الله) فيما هو بينهم وبين الله، أما إذا كشف صفحته فهذا شيء آخر، وقد جاء في الحديث: (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فمن كشف لنا صفحته أخذناه بفعله) إذاً ما دام يعصي الله سراً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتوب عليه.

فالحق هنا حق الإسلام الذي هو دين الله، ولم يقل: بحق المسلمين، أو بحق الرسول .. (إلا بحق الإسلام) أي: الحق الذي جاء به الإسلام من عند الله، وهنا يرد سؤال: ما هو حق الإسلام؟.

جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، والنفس بالنفس -أو قاتل النفس- والتارك لدينه المفارق للجماعة).