ما حكم الاستدلال بتعامل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود، على التطبيع؟
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
السُّؤالُ:هل يَصِحُّ الاستِدلالُ بتَعامُلِ الرَّسولِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مع اليهود ِ وعَقْدِه الصُّلحَ معهم، على جوازِ التَّطبيعِ مع اليهودِ في هذا العَصرِ (ما يُسمَّى دولة إسرائيل) والتبادُلِ التِّجاريِّ معهم، وهل هذا مِن جِنسِ الصُّلحِ المذكورِ في كُتُبِ الفِقهِ؟
الجوابُ:
الحَمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسولِ اللهِ وعلى آلِه وصَحبِه ..
أمَّا بعدُ ..
فإنَّ الاستِدلالَ بتَعامُلِ النبي ِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مع يهود، على جوازِ التطبيعِ؛ لا يَصِحُّ لأوجُهٍ عَديدةٍ:
منها: أنَّ يهودَ في العَهدِ النَّبويِّ لم يكونوا محتَلِّينَ لبلاد المُسلِمينَ، وإنَّما مُعاهَدونَ، سواءٌ كان ذلك بصُلحٍ مُؤقَّتٍ ينتهي بانتهاءِ وَقتِه، أو صُلحٍ مُطلَقٍ ينتهي متى أراد المُسلِمونَ إنهاءَه بشَرطِ إعلامِ المُصالَحينَ بذلك، وإمَّا أنهم صاروا رعايا مِن رعايا الدَّولةِ الإسلاميَّةِ بدُخولِهم في عَقدِ الذمَّة، كما في صُلحِ أهلِ نَجرانَ، وقِصَّةِ خَيبر، فمنها ما فُتِحَ عَنوةً بالقُوَّةِ العَسكريَّة، ومنها ما فُتِحَ صُلحًا، وعُلِّقَ فيه بقاؤُهم في خيبرِ بحاجةِ المُسلِمينَ؛ قال ابن عبد البرِّ: "أجمع العُلَماءُ من أهلِ الفِقهِ والأثَرِ وجماعةِ أهلِ السِّيَرِ على أنَّ خيبرَ كان بعضُها عَنوةً وبَعضُها صُلحًا".
(التمهيد، لابن عبد البر :645) .
وقال أبو العباس ابنُ تيميَّةَ عن أهلِ خيبرَ وفَتحِها: "فإنَّها فُتِحَت سنةَ سَبعٍ قبل نزولِ آية الجِزيةِ، وأقرَّهم فلَّاحينَ وهادَنَهم هُدنةً مُطلَقةً، قال فيها: ((نُقِرُّكم ما أقَرَّكم اللهُ))".
(الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح :1/216-217).
"ولهذا أمَرَ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عند موتِه بإخراج اليهودِ والنَّصارى مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأنفذ ذلك عُمَرُ رَضِيَ الله عنه في خلافتِه".
(أحكام أهل الذمة، لابن القيم :2/478).
فاليهودُ الذين تعاملَ معهم النبيُّ- صلَّى اللُه عليه وسلَّم- لم يكونوا مُحارِبِين ولا مُحتَلِّينَ، بل كانوا مُسالِمينَ خاضعينَ للشروطِ الإسلاميَّة بالعهد، وقد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ثمَّ هم في حالةِ ضَعفٍ لا يَقدِرونَ على نَشرِ ما يُريدونَ من ثقافةٍ وفِكرٍ، بعَكسِ واقِعِ اليهودِ اليومَ؛ فهم محارِبونَ غيرُ مُسالِمينَ، كما نرى ويرى العالَم! وهم يَفرِضونَ رُؤاهم الفِكريَّةَ والثَّقافيَّةَ وقناعاتِهم الباطلةَ؛ لِيُسَلِّمَ لهم بها الآخَرونُ رَغمًا عنهم! وقد قال الله عزَّ وجَلَّ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9].
ومنها: ما أشرتَ إليه في سؤالِكَ بقولكَ: هل هذا مِن جِنسِ الصُّلحِ المذكورِ في كُتُبِ الفِقهِ؟ وجوابُه: أنَّك ذكَرْتَ في سؤالكَ مُصطَلَحينِ مُختَلِفينِ، وهما (الصُّلحُ) و(التَّطبيعُ)، وببَيانِ مَدلولِ كُلٍّ منهما يظهَرُ الفَرقُ بينهما في الحُكمِ.
فمُصطلح (الصُّلح) في كتُبِ الفِقهِ يُطلَقُ على مُعاهدةِ الكُفَّارِ، بما في ذلك عَقدُ الذِّمَّةِ الذي يَدخُلُ به غيرُ المُسلِمِ في رعايةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ على الدَّوام، والغالِبُ استِعمالُ لَفظِ الصُّلحِ رديفًا لمصطَلَح (الهُدنة) عند عُلماء الإسلام، والهُدنة هي: المُعاقَدةُ بين إمامِ المسلمين أو مَن يُنيبُه، وبين أهلِ الحرب، على المسالَمة، مُدَّةً مَعلومةً أو مُطلَقةً، ولو لم يدخُلْ أحَدٌ منهم تحتَ حكم دارِ الإسلام؛ فهي تعني المُسالَمةَ المؤقَّتةَ عند جميع الفُقَهاء، وتشمَلُ المسالَمةَ المُطلَقةَ غيرَ المُؤَبَّدةِ على رأيِ عددٍ مِن المحقِّقينَ مِن أهلِ العِلمِ، وهو الذي تَسندُه الأدلَّةُ الشرعيَّةُ، ومرادُهم بالمُطلَقةِ: التي لا يُصرَّحُ عند الاتفاقِ عليها بمدَّةٍ محدَّدةٍ، بل تبقى دونَ مدَّةٍ، ويكونُ العَقدُ فيها جائزًا، أي: إنَّ لكُلٍّ مِن الطَّرَفَينِ أن يُعلِنَ انسِحابَه منها بعد إشعارِ الطَّرَفِ الآخَرِ بمُدَّةٍ كافيةٍ؛ لأخذِ الحَذَرِ منه، فهي مُطلَقةٌ لا مُؤبَّدةٌ.
(ينظر: العقود، لابن تيمية: 219، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 29/140، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم: 2/476 وما بعدها).
بخلاف المؤقَّتة؛ فالعَقدُ فيها واجِبٌ، بمعنى أنَّه لا يجوزُ لأحَدِ الطَّرَفَينِ أن ينقُضَها قبل انتهاء المدَّةِ، ولو فعل ذلك أهلُ الكُفرِ، فإنَّ تصَرُّفَهم هذا يُعَدُّ نقضًا للعهدِ؛ ومِن ثَمَّ ينتهي تمتُّعُهم بآثار عَقدِ الهُدنة، ويتحَوَّلونَ مِن مُعاهَدينَ إلى مُحاربينَ، كما كانوا قبل الهُدنة؛ فالهُدنةُ والصُّلحُ عند الفُقَهاءِ في كتابِ الجهاد ِ شَيءٌ واحدٌ؛ ولذلك يُعَرِّفونَ أحَدَهما بالآخَرِ، فليس هناك صلحٌ دائِمٌ إلَّا مع الذِّمِّيينَ الذين هم في الحقيقةِ مِن رَعايا دولةِ الإسلامِ.
أمَّا الصُّلحُ في القانونِ الدَّوليِّ، وفي اللُّغةِ السِّياسيَّةِ الدَّارجة، فالمرادُ به السَّلامُ الدَّائِمُ! فالقانونيُّونَ الدَّوليونَ يرَونَ أنَّ الهدنةَ مُدَّةٌ تَسبِقُ الصُّلحَ مهما طالت مُدَّتُها، كما هي الحالُ بين شَطرَي كوريا، فهما متهادِنانِ منذ تقسيمِها، وأمَّا الصلحُ عندهم فهو تسويةٌ نِهائيَّةٌ، أي: إيقافُ القِتالِ بصِفةٍ نِهائيةٍ دائِمةٍ.
(ينظر على سبيل المثال: القانون بين الأمم، لجيرهارد فان غلان: 3/72).
وهذا النوع يُعَدُّ مِن المُعاهَداتِ المحرَّمةِ بالإجماع، وشدَّد العُلَماءُ في إنكارِه؛ لأنَّه يؤدِّي إلى إبطالِ ما عُلِمَت شرعيَّتُه بالضَّرورةِ، وهو جِهادُ العَدُوِّ، بل غلَّظ بعضُ الفُقَهاءِ في إنكارِه، حتى حكى بعضُهم رِدَّةَ مَن قال بمشروعيَّتِه!
ومع ذلك شذَّ بعضُ فُقَهاءِ العَصرِ- مِن الفُضَلاءِ- فأجازوا الصُّلحَ المؤبَّدَ، بتأويلاتٍ مَردودةٍ بالأدلَّةِ الشَّرعيَّة الواضحةِ، وقد ردَّ قَولَهم عددٌ مِن العُلَماءِ، وكشفوا ضَعفَ هذا الرأيِ المردودِ بالإجماعِ، ولله الحمد.
فالصُّلحُ الدَّائمُ لا يجوزُ مع غيرِ المحتَلِّ بالإجماعِ، فكيف يجوزُ مع المحتَلِّ؟! ولهذا اتَّفق فُقَهاءُ العَصرِ الأجلَّاءُ على تحريمِ الصُّلحِ الدَّائمِ مع الكيانِ الصهيونيِّ اليهوديِّ، حتى مَن شذَّ في القَولِ بالصُّلحِ الدائِمِ حرَّم الصُّلحَ مع اليهودِ.
(ينظر: موسوعة الأسئلة الفلسطينية، إصدار مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية:220- 269، ففيها العديدُ من الفتاوى الجماعيَّة والفردية).
وأمَّا التَّطبيعُ فيُرادُ به: الصُّلحُ الدَّائِمُ الذي يتِمُّ بمُقتَضاه الدُّخولُ في جملةٍ مِن الاتِّفاقاتِ مُتنوعةِ الجوانِبِ، بما في ذلك الجانِبُ الثَّقافيُّ، والاقتِصادي، والأمني، وغيرها، حتى غُيِّرَت مناهِجُ التعليمِ في بعضِ بلاد المُسلِمينَ وحُذِفَت نصوصٌ قُرآنيَّةٌ منها؛ رُضوخًا لمتطَلَّباتِ التَّطبيعِ!! فهو في التكييفِ الفِقهيِّ الشَّرعيِّ صُلحٌ مُؤبَّدٌ مُضافٌ إليه جملةٌ مِن الشروطِ التي يَحرُمُ قَبولُها في شريعة الإسلامِ ..
فلا يقولُ بجوازِ التَّطبيعِ- دِيانةً- مَن عَرفَ حقيقتَه مِن عُلَماءِ الإسلامِ، ولا سيَّما أنَّ الكِيانَ اليهوديَّ لا يَقبَلُ بأقَلَّ مِن بقائِه على الدَّوامِ في قَلبِ العالَمِ الإسلاميِّ، بزَعمِ أنَّ الأرضَ لهم! وهذا هو نشيدُهم الوطنيُّ:
" طالما في القلب تكمُن ..
نفسٌ يهوديَّةٌ تَتُوق ..
وللأمامِ نحوَ الشَّرقِ ..
عينٌ تَنظُر إلى صهيون ..
أمَلُنا لم يَضِعْ بعدُ ..
حُلمٌ عُمرُه ألفا سنة ..
أن نكونَ أمَّةً حرَّةً على أرضنا ..
أرض صهيون والقدس ..
" (الموسوعة الإنجليزية).
وآثارُ التطبيعِ على الحكوماتِ التي ارتضَته ظاهِرةٌ في انتهاكِ سيادتِها، والعَبَثِ بخَيراتها؛ ولذلك رفضَتْه الشُّعوبُ المُسلِمةُ، وكوَّنَت لأجلِ ذلك لجانًا وجَمعياتٍ كثيرةً.
ومن المؤسِفِ أنَّنا نرى التطبيعَ الإعلاميَّ في إعلامِ العَرَب والمُسلِمين يُسابِقُ التَّطبيعَ السياسيَّ! ومِن ذلك: كَثرةُ تَردادِ الأسماء والمُصطَلحات العِبريَّة، مثل: (حاجز إيريز) بدل مَعبَر بيت حانون، و(حائط المَبكَى) بدل حائط البُراق، و(إيلات) بدل أم الرَّشراش، و(أشكيلون) بدل عَسقلان، و(تل أبيب) بدل تل الربيع ..
و(الأراضي الفلسطينيَّة) بدل فلسطين ، وفيه الإقرارُ بأنَّ ما تبقَّى حَقٌّ ليهودَ! و(إسرائيل) للإشارةِ للكيان اليهوديِّ الصهيوني المحتَلِّ أو للأراضي المحتَلَّة عام 1948م، والإيحاء بأنَّ هذا الجزءَ المحتَلَّ صار حقًّا ليهود، لا يجوز حتى التفاوضُ عليه، بخلاف الأراضي المحتلَّة عام 1967م فما زالت تستَحِقُّ أن يُتفاوَضَ عليها! (ينظر للمزيد: مصطلحات يهودية احذروها- من إصدارات مركز بيت المقدس).
وممَّا ينبغي التنَبُّهُ له أنَّ بعضَ النَّاسِ قد غَلِطَ على شيخِنا العلَّامة/ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- حين نَسَبوا إليه جوازَ الصُّلحِ مع اليهود بالمفهومِ العُرفيِّ الدَّوليِّ- الصلح المؤبَّد- مع أنَّه- رحمه الله- قد أوضح ما عناه وبيَّنه بقَولِه: "الصلحُ بين وليِّ أمرِ المُسلِمينَ في فلسطين وبين اليهودِ- لا يقتضي تمليكَ اليهودِ لِما تحت أيديهم تمليكًا أبدِيًّا، وإنما يقتضي ذلك تمليكَهم تمليكًا مُؤَقَّتًا حتى تنتهيَ الهُدنةُ المُؤقَّتةُ، أو يَقْوَى المُسلِمونَ على إبعادِهم عن ديار المُسلِمينَ بالقُوَّة في الهُدنة المُطلقَة، وهكذا يجِبُ قِتالُهم عند القدرةِ حتى يدخُلوا في الإسلامِ أو يُعطُوا الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرونَ ...
"(مجلة البحوث الإسلامية: العدد (48) ص: 130-132).
فالصُّلحُ مع العدُوِّ على أساسِ تثبيتِ الاعتداءِ؛ باطِلٌ شَرعًا، بخلافِ الصُّلحِ على أساسِ رَدِّ ما اعتدى عليه العدوُّ إلى المسلمينَ.
والخُلاصةُ:
أنَّ الاستِدلالَ بتعامُلِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع يهودَ، على مَشروعيَّةِ التَّطبيعِ مع الكِيانِ الصهيونيِّ- استِدلالٌ لا يستقيمُ، بلْهَ أن يَصِحَّ؛ لأنَّ اليهودَ في فلسطينَ مُحتلُّون محارِبونَ كما يشاهِدُ العالَمُ، لا يَرقُبونَ في صغيرٍ ولا كبيرٍ إلًّا ولا ذمَّةً، بخلافِ مَن كان يتعامَلُ معهم النبيُّ- صلَّى اللُه عليه وسلَّم-؛ فقد كانوا معاهَدينَ خاضعينَ لحُكمِ الإسلامِ، أو مُوفِينَ بعَهدِهم مع النبيِّ- صلَّى اللُه عليه وسلَّم- حينَها.
واللهُ تعالى أعلمُ.
نسأل اللهُ عزَّ وجَلَّ أن يُعيدَ للأمَّةِ عِزَّتَها ومكانَتَها، وَينصُرَها على أعدائِها، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصَحْبِه.
الكاتب: الدكتور سعد بن مطر العتيبي