شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل ...).

الحكمة في الأمر بقتل تارك الصلاة دون تارك الزكاة

وتعرض لنا هنا مسألة: لماذا فرق بين الصلاة والزكاة عند الامتناع عنهما، فالصلاة يقتل تاركها، والزكاة بخلاف ذلك؟

أما الفرق بين القتل على الصلاة، وعدم القتل على الزكاة لمن منعها؛ لأن الصلاة أمر فيه اعتقاد وفيه عمل بدني محض، لا تؤدى بإكراه، بخلاف الزكاة، تؤخذ بالقوة كما جاء في الحديث: (من أداها فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، ولكون الزكاة يمكن أن تؤخذ عنوة وقوة لا يقتل صاحبها، إنما تؤخذ منه ويخلى سبيله.

وهنا سأل بعض الإخوان: من كان ترك الصلاة مدة، ثم أراد أن يصلي، هل يلزمه قضاء ما مضى؟

حكم تارك الصلاة وما يلزمه من قضاء الفوائت بعد التوبة

أما من ترك الصلاة جحوداً لوجوبها، فهذا مرتد عن الدين -عياذاً بالله-، كمن جحد أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، والكلام عندهم فيمن كان تركها تكاسلاً وتهاوناً، ثم هداه الله وتاب ورجع إلى الله، وحافظ على الصلاة، ما حكم تلك الصلوات التي مضت؟

جمهور الأئمة الأربعة رحمهم الله على أنها دين في ذمته عليه أداؤها.

ويرى بعض المتأخرين: بأنه تكفيه التوبة، والإسلام يجب ما قبله.

إذاً: من قال بكفر تارك الصلاة يتعارض قوله مع إلزامه بأداء ما ترك منها حال كفره بعد توبته، وفي هذا الحكم تناقض؛ لأنهم إن حكموا عليه بالردة، لماذا لم يقتل ردة؟ ولماذا لم يحرموا عليه زوجته؟ ولماذا لم يعاملوه معاملة المرتدين؟ يتركونه في كل شيء، ولو مات لماذا يرثون ماله؟ وإذا مات مورثّه لماذا يرث منه، مع أنه لا ميراث بين مسلم وكافر، إذاً: يتناقضون في هذا الحكم.

اعتراض ابن عباس على من أسقط قضاء الفوائت من الصلوات

وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (يا سبحان الله! إذا كان الترك بسبب النسيان أو النوم وقد أوجب عليهما النبي عليه الصلاة والسلام القضاء مع رفع القلم عنهما، فكيف لا نوجب القضاء على من تركها عمداً ({فليصلها إذا ذكرها، فإنه لا وقت لها إلا ذلك)، وقد ثبت أن المصطفى صلى الله عليه وسلم وجمع الصحابة في عودتهم من بعض الأسفار في غزوة نزلوا وعرّسوا، فقال النبي: (من يكلأ لنا الفجر، فانتدب بلالاً، فأسند بلال ظهره إلى راحلته، واستقبل المشرق بوجهه، ينتظر الفجر ليخبر ويوقظ النائم، فنام كما نام غيره، ولم يوقظهم إلا حر الشمس، بعد أن خرج الوقت) ، هل أسقطها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى إنه ليروى في ذلك: (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استيقظ وجاء أبو بكر آسفاً، قال: يا أبا بكر! لكأني بـبلال قد جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، ثم ناداه: تعال يا بلال! أين كنت؟ قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم) ، يعني: أنا مثلكم، فاعتذر بأمر واقع، قال: (والله يا رسول الله لقد أنخت راحلتي وأسندت إليها ظهري، واستقبلت المشرق أنتظر الفجر، فإذا بالشيطان يأتي ويهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر : أشهد إنك لرسول الله)، هنا ماذا فعل رسول الله؟ هل قال: ما عليكم! خرج الوقت وانتهينا! لا؛ قال: (اجتازوا هذا الوادي فإن فيه شيطاناً، واجتاز الوادي، وتوضئوا، وأمر المؤذن فأذن، وصلوا سنة الفجر، ثم أمره فأقام وصلوا الفريضة).

فـابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (حينما تفوته بعذر مقبول شرعاً نوماً أو نسياناً تكلفونه بالأداء، وحينما يتعمد تركها تخففون عنه وتتركونه!) يعني: أمر متناقض.

إذاً: من ترك الصلاة متساهلاً، ثم هداه الله ورجع، يعلم بأن ما فات من الصلوات دين عليه، ولكن لا ينبغي أن نأتي ونقول: قم الآن وأد ما عليك قضاء السنوات الماضية، فيقعد سنة أو سنتين، أو شهر أو شهرين وهو معتكف يؤدي الذي عليه، وإنما عليه أن يكثر من قضاء الفوائت حسب الترتيب، وكما يقول الفقهاء من باب التخفيف عليه: يصلي مع كل فريضة مثلها إلى أن يقضي زمناً يعادل الزمن الذي ترك فيه الصلاة، وإن قُدر ومات في أثناء ذلك قبل أن يوفي فهو على نيته، والله أولى به.

ويقتل من ترك الصلاة، بعد رفع أمره إلى ولي أمر المسلمين المسلم، وحبسه وأمره بالصلاة؛ لكن كم ننتظر له؟ الإمام أحمد رحمه الله يقول: إلى أن يخرج وقت الصلاة التي جيء به فيها، ويقول البعض: يوم وليلة، وقول ويقول آخرون: ثلاثة أيام لأنها أكثر الجمع، فإن أصر على عدم الصلاة فيقتل، وهل يقتل ردة أم حداً، الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: حداً وأحمد يقول: ردة وكفراً.

وإذا تواطأ جماعة على تركها قوتلوا حتى يؤدوها، حتى قال بعض المالكية والأحناف: لو تركت قرية إعلان الأذان، قالوا: نصلي بلا أذان، قاتلهم الإمام على ذلك؛ لأن الأذان من شعائر الإسلام.

علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)، وأشرنا إلى أن العلة في على عدم ذكر الصيام والحج؛ لأن العبادات قسمين: بدنية ومالية، والعبادات البدنية هي: الصلاة والصوم، فإذا كانوا يقاتلون حتى يصلوا، فكذلك حتى يصوموا، والعبادة المالية هي: الزكاة، فيلحق الحج بالزكاة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في حق الحج أنه قال: (لقد هممت أن أبعث برجال لقبائل العرب ينظرون من يستطيع الحج ولم يحج فليفرضوا عليهم الجزية ما هم بمؤمنين ما هم بمؤمنين)، ولكن ما قال: أقاتل، قال: أفرض الجزية؛ لأن استطاعة الإنسان للحج ليست قطعية، قد يكون في ظاهر الأمر مستطيعاً، وفي حقيقته غير مستطيع، ولكن يؤيد ما ذهب إليه عمر رضي الله تعالى عنه نص القرآن الكريم في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] فمن استطاع ولم يحج قال عنه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] لم يقل: ومن لم يحج؛ لأن السياق وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97] ومن لم يحج، هل قال: هذا شأنه والله غني عنه! لا؛ بل قال: (وَمَنْ كَفَرَ) فأطلق الكفر على من لم يحج وهو مستطيع، وهذه خطورة كبيرة.

الجهاد وسيلة وليس غاية

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك) اسم الإشارة (ذلك) راجع إلى كل ما سبق من النطق بالشهادتين معاً، -ولا تجزئ إحداهما عن الأخرى- وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصوم والحج كما قدمنا.

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) ويتفق علماء اللغة على أن (حتى): حرف غاية، وما بعدها مغاير لما قبلها، من هنا يجب أن يقف المسلم وكل كاتب وخطيب وأديب وكل من يتعاطى الدعوة إلى الله ليعلن للعالم كله أن القتال في الإسلام ليس غاية لذاته، ولكنه وسيلة للوصول إلى غاية وهي: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)، أي: يعبدوا ربهم الذي خلقهم، فإذا فعلوا ذلك: كانوا معصومي الدم.

إذاً: القتال من حيث هو، والجهاد من حيث هو في شرع الإسلام، ليس غاية لذاته، إذاً: لماذا يعيب أولئك على المسلمين حينما يعلنون القتال، وحينما يجاهدون في سبيل الله، لا في سبيل أنفسهم، ولا في سبيل مغنم يغتنمونه، ولا سلطان يقيمونه، كلا: إنما هو في سبيل الله، لكي يعبد الخلق خالقهم.

إذاً: القتال للمشركين ليس غاية في ذاته، ولهذا كان القتال في الإسلام هو آخر ما يمكن أن يعالج به المسلمون عقول وأفكار الكفار، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم) والمسلمون الذين يجاهدون عشرات السنين، إذا جاءوا إلى أمة ووقفت أمامهم، ودخلوا معها في قتال، واستشهد من المسلمين من استشهد، فإذا قال العدو: لا إله إلا الله، كفوا عنه.

والذين قتلوا في سبيل ذلك من المسلمين ماذا بشأنهم؟ هؤلاء أجرهم عند الله، لا يتحمل المشركون دية الذين استشهدوا من المسلمين على أيديهم، مع أنه لو كان قتالاً بين المسلمين أنفسهم لتحملت كل طائفة ديات القتلى من الطائفة الأخرى، لكن هنا هم يستشهدون إلى ربهم؛ لأن الله قد عقد معهم صفقة ربح إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111] أجر المجاهد عند الله، لا يرجع المسلمون على الكفار بعوض ما فات على المسلمين من رجال وأموال.. لا؛ لأنهم خرجوا في سبيل الله، فكيف يعاب على المسلمين إذاً؟!.

قال: (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد كتب عليهم) فقال هنا: الله، ليس الرسول أو أي أحد، بل الله؛ لأن هذا هو حق الله، خمس صلوات في اليوم والليلة، يقف المصلي يقول: الله أكبر، يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى، يركع ويقول: سبحان ربي العظيم، فهي حق لله، (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وليست الزكاة ضريبة، ولا غنيمة للمسلمين، وكما جاء عن بعض السلف: أرسل عاملاً للزكاة فجاء وقال: أين الزكاة؟ قال: أرسلتني مزكياً أو جابياً؟ قال: مزكياً، قال: أخذتها من حيث كنا نأخذها زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقتها حيث كنا نصرفها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذتها من الأغنياء ورددتها إلى الفقراء، وهكذا فهي منهم ولهم، وهذا يجسد التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، وهو أمر إنساني، ولو لم يأت الإسلام به لتعين على كل مجتمع التضامن الاجتماعي.

إذاً: ما حظ المسلمين من ذلك؟ حظهم الشهادة في سبيل الله، وقد بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم) بأي شيء؟ بمجرد القيام بحق الله، ولذا غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً على أسامة في بعض المعارك حينما قتل رجلاً مشركاً في المعركة وهو في الميدان بعد أن قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما أخبر بذلك رسول الله قال: (قتلته بعد أن قالها! ماذا تفعل بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! قالها تحت شعاع السيف -أي: قالها خوفاً من السيف- قال: هل شققت عن قلبه؟ -بمعنى: هل أتدري ما في قلبه؟- إني لم أؤمر أن أفتش عن بطونهم).

وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أن من نطق بالشهادتين ولو تحت ظلال السيف فإنه يكف عنه، وتقدم لنا في الموطأ قول عمر رضي الله تعالى عنه: (لأن يسند العلج في الجبل فيقول: مترس، فيقتله إنسان، إلا جعلته مثلة لغيره) مترس بمعنى: مأمن أو أمان أو أمني.. إلى آخره، فيعيب عمر رضي الله تعالى عنه على من يقتل أعجمياً أو كافراً في الميدان بعد أن يطلب الأمان.

إذاً: القتال ليس غاية للمسلمين، وليس تشفياً من أعداء المسلمين، ولكنه كما يقول بعض الإخوان المسلمون في موقف الجهاد مثلهم كمثل إنسان نظر إلى شخص يعيش في دياجير الظلام يتخبط، لا يدري أيطأ شوكاً أو ورداً.. أيمسك حية أو حوتاً، لا يدري ماذا يفعل؟ في ظلام وجهالة وضلال، فأتاه وفي يده مشعل يضيء الطريق، فجاء وطرق الباب على هذا الضال الضائع، وقال: يا هذا! خذ هذا المشعل واستنر به.