أرشيف المقالات

تفسير قوله تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
تفسير قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾
 
قال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 9 - 17].
 
المناسبة:
لما ذكر أنه جَاءَهم من الأنباءِ ما فيه مزدجرٌ، شَرَعَ في تَعْدَادِ بعض هذه الأنباء على سبيل التفصيل.
 
القراءة:
قرأ الجمهور (أني) بفتح الهمزة، وقرئ بكسرها، وقرأ الجمهور (فالتقى الماء)، وقرئ (فالتقى الماءان)، وقرأ الجمهور (كفر) مبنيًّا للمفعول، وقرئ (كفر) مبنيًّا للفاعل.
 
المفردات:
(ازدجر) انتهر وأُوذِي، (مغلوب) مقهور، (فانتصر)؛ أي: فانتقم لي منهم، (منهمر) منصب بشدة وغزارة، (فجرنا) شققنا، (أمر) حال، (قدر) قضي في الأزل، (ذات ألواح ودسر) كناية عن السفينة، والألواح: الأخشاب العريضة، والدسر: المسامير، (آية) عبرة ظاهرة أو علامة واضحة، (مدكر) معتبر ومتعظ، وأصل مدكر: مذتكر أبدلت التاء دالًا، وكذلك الذال، ثم أدغمت الدال في الدال، (نذر) إنذاري، (يَسَّرنا) سهلنا وهيَّأنا، (للذكر) للحفظ والتذكُّر.
 
التراكيب:
قوله: (كذبت قبلهم قوم نوح) التأنيث في كذبت لمراعاة معنى قوم، وهو الأمة والجماعة، والضمير في (قبلهم) لقريش، وقوله: (فكذبوا عبدنا) الفاء فيه لتفصيل الإجمال، كقوله: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ ﴾ [هود: 45]، وقوله: (وازدجر) يجوز أن يكون معطوفًا على قالوا؛ أي: لم يكتفوا بهذا القول، بل ضموا إليه زجره ونهره، ويجوز أن يكون من مقول القول المذكور؛ أي: قالوا: هو مجنون واستطير جنونًا؛ أي: ازدجرته الجن، وذهبت بِلُبِّهِ وتخبَّطَتْه، والظاهر الأول، وقوله: (أني مغلوب) بفتح الهمزة على تقدير بأني مغلوب، وهذا على حكاية المعنى، ولو جاء على حكاية اللفظ لقال بأنه مغلوب.
 
ومَن قَرَأَ بكسر الهمزة فهو: إما على إضمار القول أي: فقال: إني مغلوب، وإما إجراء للدعاء مجرى القول، وهو مذهب الكوفيين، وقوله: (بماء منهمر) الباء فيه للتعدية على جعل الماء كالآلة التي يفتح بها مبالغةً، ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وانتصب عيونًا في قوله: (وفجرنا الأرض عيونًا) على التمييز المحول عن المفعول به أي: (فجرنا عيون الأرض)، وتحويله للتمييز أبلغ من أصله؛ لأن الأرض جعلت كلها كأنها عيون مفجرة، وقوله: (فالتقى الماء) على قراءة الجمهور بإفراد الماء لإرادة الجنس، كأنه قيل: فَالْتَقَى ماءُ السماءِ ماءَ الأرضِ، ولإفادة تحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب، بل بطريق الاختلاط والاتحاد، ومن قرأ (الماءان) بالتثنية فلاختلاف النوعين، والضمير المنصوب في (وحملناه) لنوح عليه السلام، وقوله: (تجري) في محل جر صفة لسفينة المكنى عنها بذات ألواح ودُسُر، وجمع الأعين في قوله: (بأعيننا) لإضافته إلى (نا)، وقد لوحظ أنه إذا وردت العين أو اليد بلفظ المفرد، أضيفت إلى ياء المتكلم أو ضمير الواحد فقط؛ كقوله: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39]، وكذلك إذا وردت بلفظ التثنية، وأما إذا وردت بلفظ الجمع فإنها لا بد من أن تكون مضافة إلى (نا) التي هي للجمع أو للواحد المعظم كما في هذا المقام، فلا تدل على إثبات أكثر من عينين لله عز وجل؛ لأن الجمع فيها للتعظيم ومناسبة الضمير، والثابت لله تعالى عينان بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تأويل، وانتصب جزاء في قوله: (جزاء لمن كان كفر) بفعل مقدر؛ أي: أُغرقوا جزاء وانتصارًا، وقوله: (لمن كان كفر) يعني: نوحًا عليه السلام، والتعبير بـ(كُفر) لبيان أنه كان نعمة ساقها الله لهم فجحدوها، ومن قرأ (كفر) بالبناء للمعلوم فتقديره: أغرقوا عقابًا للكافرين، وقوله: (ولقد تركناها آية فهل من مدكر) الضمير المنصوب في تركناها قيل: للسفينة، وقيل: للفعلة، و(مدكر) مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: فهل مدكر موجود؟ والمراد من الاستفهام التوبيخ على عدم الادكار مع ظهور أسبابه، وقوله: (فكيف كان عذابي ونذر) الاستفهام فيه للتقرير والتعظيم والتعجُّب، و(كيف) خبر كان إن كانتْ ناقصة، وأما إذا كانت تامة فهي في موضع نصب على الحال، وقوله: (ولقد يسَّرنا القرآن للذِّكر فهل من مدَّكر) تكررتْ هذه الآية والآية السابقة في آخر القصص الأربع، تقريرًا لمضمون ما سبق من قوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)، وتنبيهًا على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار فيها، وإشعارًا بأنَّ تكذيب كل رسول مقتضٍ لنزول العذاب، وليجددوا عُقيب سماع كل نبأ اتعاظًا واستئنافًا للتنبيه والإيقاظ؛ لئلا يغلب عليهم السهو والغفلة.
 
المعنى الإجمالي:
أنكرتْ قبلَ قريشٍ جماعةُ نوح عليه السلام، فنسبوا عبدَنا الصالح نوحًا إلى الكذب والافتراء، وقالوا: به مَسٌّ من الجن ونهروه، فسأل ربه بأني مقهورٌ فانتقم من هؤلاء المكذبين، فاستجبنا له، وجعلنا السماء ترسلُ عليهم الماء الغزير من أبوابها جميعًا، وشققنا الأرض عيونًا، فاختلط ماء السماء بماء الأرض على حال قضاها الله تعالى في الأزل.
 
وحملنا نوحًا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، تسير بسرعة فائقة فوق الماء تحت أبصارنا، فأغرقنا الكافرين انتصارًا لعبدنا الصالح الذي كان نعمة الله عليهم فجحدوها، ولقد أبقينا هذه السفينة أو هذه الفعلة، برهانًا واضحًا على قدرتنا وانتقامنا من أعدائنا، فهل من مُتَّعِظٍ موجودٍ؟
 
لقد نزل بهم عذابي، ووقع عقابي موقعه، ولقد هَيَّأْنَا القرآنَ وسهلناه للحفظ والتذكر، فهل من مُتَّعِظٍ موجودٍ؟

ما ترشد إليه الآيات:
1- لقريشٍ سلفٌ سيئ في تكذيبِ الأنبياءِ ونسبتهم إلى الجنون.
2- انتصارُ الله لعباده الصالحين.
3- إغراقُ المكذبين بعذاب بئيس.
4- إثباتُ العينين لله عز وجل بلا تشبيه ولا تمثيل.
5- تيسيرُ القرآن للحفظ والتذكُّر.

شارك الخبر

المرئيات-١