التوحيد في سورة الجمعة
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
التوحيد في سورة الجمعةوهي السورة الخامسة التي بدئت بتسبيح، سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ [الجمعة: 2].
روى الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّا أُمة أميةٌ لا نكتب ولا نحسب)، ومعنى الأمية هنا: أنهم على أصل ولادتهم، فالإنسان يولد لا يعلم شيئًا، فهم على جِبِلَّتهم الأولى؛ فالأمي نسبة إلى أمه التي ولدته، وقيل: نسبةً إلى أمة العرب، وقيل: إلى أم القرى، وقيل: الأمي في مقابل الكتابي، وذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسيره الموضوعي عن خصائص الرؤية والهلال في منهج القرآن الكريم عند حديثه عن الطريق إلى معرفة طلوع الهلال، وهو الرؤية لا غيرها، وذكره لعشرة أحاديث في هذا الباب، تكلم عن حديث ابن عمر السابق، وبيَّن ما دل عليه الحديث، ومغزى ذكره في هذه القضية، وهي قضية الحساب في الشهور، والأهِلَّة، وبيَّن أن المعنى أننا أمة لا نكتُب ولا نحسب؛ أي: فيما يخص هذه القضية ولا يتعداها، فيقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، هو خبر تضمن نهيًا؛ فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرَّم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين نهيًا عنهما، وأيضًا فقوله: (إنا أمة أميَّة): ليس هو طلبًا، فإنهم أميون قبل الشريعة؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ [الجمعة: 2]، فالأمة التي بعثه الله إليها منهم من يقرأ ويكتب كثيرًا، كما كان في الصحابة، وفيهم من يحسب، وقد بعث صلى الله عليه وسلم بالفرائض (المواريث) التي فيها من الحساب ما فيها، فإنما "الأمي" هو في الأصل المنسوب إلى الأمة التي هي من جنس الأميين، فقد كانت فطرتهم مستعدة للعلم أكمل من استعداد سائر الأمم بمنزلة أرض الحرث القابلة للزرع، لكن ليس لها من يقوم عليها، فلم يكن لهم كتاب يقرؤونه منزَّل من عند الله كما كان لأهل الكتاب، ولا علوم قياسية مستنبطة، كما للصابئة ونحوهم، وكان لهم من العلم ما ينال بالفطرة التي لا يخرج بها الإنسان عن الأمية العامة كالعلم بالصانع سبحانه، وتعظيم مكارم الأخلاق، وعلم الأنواء والأنساب والشعر، فاستحقوا اسم الأمية من كل وجه، كما قال فيهم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ [الجمعة: 2]، فجعل الأميين مقابلين لأهل الكتاب، فالكتابي غير الأمي، فلما بعث فيهم ووجب عليهم اتباع ما جاء به من الكتاب، وتدبُّره وعقله والعمل به، صاروا أهل كتاب وعلم، بل صاروا أعلم الخلق، وأفضلهم في العلوم النافعة، وزالت عنهم الأمية المذمومة الناقصة، وصار من لم يقرأ الفاتحة، أو لم يقرأ شيئًا من القرآن، تسميه القراء في "باب الصلاة" أميًّا، ويقابلونه بالقارئ، فيقولون: لا يصح اقتداء القارئ بالأمي، ويجوز أن يأتم الأمي بالأمي (مثله)، وغرضهم بالأمي هنا الذي لا يقرأ القراءة الواجبة، سواء كان يكتب أو لا يكتب، يحسب أو لا يحسب.
ويقول رحمه الله: وقد اختلف الناس هل كتب يوم الحديبية بخطه معجزة له، أم لم يكتب؟
إذا تبيَّن هذا: فكتاب أيام الشهر، وحسابه من هذا الباب، والخلاصة أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أنَّا أيتها الأمة الأمية لا تكتب هذا الكتاب، ولا تحسب هذا الحساب، فعاد كلامه إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال وطلوعه، وظهر بذلك أن الأمية المذكورة هنا صفة مدح وكمال من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال؛ (انظر كتاب التفسير الموضوعي لشيخ الإسلام ابن تيمية، الجزء الأول، الناشرون العرب، دار الاعتصام، صفحة 95 - 115).
قلت: فأما الكتاب والحساب فهما من لوازم هذه الأمة التي جعل الله معجزة نبيها القرآن الذي أمر بالقراءة وبالكتابة والحساب، وهما طريق العلم وأداته، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد علمه الله تعالى بغير قلم، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، ولا يقبل ولا يعقل بحال أن نتصور أن الإسلام يأمر بترك الكتابة والحساب، وقد جاء الأمر بالكتاب في غير موضع؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282].