موانع قبول الحق والعمل به (4) الكبر
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
موانع قبول الحق والعمل به (4) الكبرالحمد لله عز وجل على آلائه الجُلَّى، مما تناءَى وتدانَى، وأشكره على ما خَصَّ من نِعم تتوالى ولا تتوانى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد عبدِ الله ورسوله أزكَى البرية أَرُومةً وجَنانًا، وأوثقِها حجةً وأبلغِها بيانًا، وعلى آله الذين لم يَثنوا دون المعالي عِنانًا، وصحبه بُدور الحق الساطع عِيانًا، ومن اقتفى أثرهم بإحسان يرجو من المولى رحمةً ورضوانًا؛ أما بعد:
فتقدَّمَ معنا في سلسلة (موانع قبول الحق والعمل به) الحلقة الأولى؛ وذكرنا فيها المانع الأول مِن موانعه، وهو: الجهل به، والحلقة الثانية؛ وذكرنا فيها المانع الثاني، وهو: الحسد، والحلقة الثالثة؛ وذكرنا فيها المانع الثالث، وهو: الصحبة السيئة، ونقف في هذه الحلقة الرابعة مع المانع الرابع.
المانع الرابع: الكِبْر:
يقول الله عز وجل: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146].
تحمل هاتان الآيتان تحذيرًا عظيمًا بليغًا، وتهديدًا صريحًا أكيدًا للكِبْر وأهله، الذين يتكبرون على الله عز وجل ورسله عليهم السلام وعباده المؤمنين، وتُبيِّن أن الاتصاف بذلك يمنع صاحبه - ولا بد - من قبول الحق، وبالتالي مِن فَهْم حُجَجه وبراهينه الدالة عليه، التي هي سبب عظيم من أسباب الهدى والسعادة.
فهو يتوعَّد المتكبرين جزاءً لهم على تكبُّرهم عن الحق بأنْ يَصرفهم عنه، وأنْ يُضلهم عن الاهتداء بما جاءهم مِن الحق، وعن فَهْم الحجج والأدلة الدالة عليه - كما في أحد أوجه التفسير للآية - وذلك بسبب تكبرهم عليه وعلى الناس بغير الحق، فعُوقِبوا بحرمان الهداية؛ لعنادهم للحق وتكبرهم عليه، فأيُّ خذلان هذا؟! نسأل الله السلامة والعافية.
ولمَّا كان هذا المانع من أكثر وأعظم ما يَصرف عن الحق، قال مَن قال مِن السلف رحمهم الله: "ما تَرَكَ أحدٌ حقًّا إلا لكِبْرٍ في نفسه"[1].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكِبر والحسد"[2].
وحتى يتَّضح لنا عِظَمُ هذا الأمر ويتجلَّى، فقد ذكر بعض أهل التفسير - في أحد وجهَيْه - أنَّ هاتين الآيتين: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ ﴾ [الأعراف: 146] هما جملة معترضة، سيقت في أثناء الخطاب الذي خاطب الله عز وجل به موسى عليه السلام وقومه، لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم[3]، فتَكون جملةُ هذا الخطاب معترضةً في أثناء قصة بني إسرائيل، فهل يكون هذا إلا لبيان أهمية هذا الأمر - الذي ناسب له السياق أيَّما مناسبة - والتأكيد على أهميته، وبيان عِظَم ما في الكبر من المفاسد، وما يلحق بصاحبه من الشرور والأضرار التي يُعَدُّ مِن أهمِّها - إن لم نَقُلْ أهمها - صرْفُ صاحبه عن الحق؟! فتأمَّل.
ويَزيد الأمر وضوحًا وجلاءً أنَّ هاتين الآيتين تحملان تعليلًا صحيحًا صائبًا لكل انحراف عن الحق، ولا سيما إذا كان سببه الكِبر، فهذه نتيجة حَتْمية لانصرافهم عنه وغَمْرَتهم في الكبر.
وتؤكد على أن مَن صرفَه الله - حسب سنته في صرف العباد - لا يقبل أبدًا، ومن هنا كان التكبُّر - الذي هو ردُّ الحق، واحتقار الخلق - مِن أعظم الموانع عن اتباع الحق، فكم مَنع خَلْقًا كثيرًا مِن اتباع الحق والانقياد له بعدما ظهرت آياته وبراهينه، وظهرَتْ واشتهرت مبلغ اشتهار الشمس في رابعة النهار!
قال العلامة برهان الدين البقاعي رحمه الله: "فيا ذُلَّ مَن تكبَّرَ على الحق، ويَا عِزَّ مَن تشرَّفَ بالذل للحق والعز على الباطل، ولَعَمري لقد أجرى الله عادته - ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43] -: أنَّ مَن تعوَّد الجَراءة بالباطل كان ذليلًا في الحق"[4].
فجديرٌ بنا - والأمر كذلك - أنْ نحذر من هذا، وأنْ نلزم طريق الحق في كل شيء، فالحق أحق أن يُتَّبَعَ.
تنبيه:
قال بعض أهل العلم رحمهم الله: قوله: ﴿ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146] لا يدل على أنَّ هناك تكبُّرًا بحق؛ ولهذا لا يكون هذا القيد شرطًا، وهذه يسميها بعض العلماء (صفة كاشفة)[5]، فهذا القيد ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146] ليس له مفهوم، ولوجوده حِكمة، وقد كَتَب فيه الدكتور: فهد عبدالرحمن الرومي كتابًا.
وقال الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146] مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارًا متلبِّسًا بغير الحق، كقوله تعالى: ﴿ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ [الأنعام: 38]، ومعلوم أنَّه لا يطير إلا بجناحيه، وقوله: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 79]، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، ونحو ذلك من الآيات، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن"[6].
وبهذا نختم هذه الحلقة الرابعة من سلسلة (موانع قبول الحق والعمل به)، وقد وقفنا فيها مع المانع الرابع، وهو الكِبر، وسنقف بإذن الله عز وجل في الحلقة الخامسة من هذه السلسلة مع المانع الخامس، وهو اتباع الهوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] هو أبو عثمان النيسابوري؛ انظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 292).
[2] مجموع الفتاوى (13/ 242).
[3] روى الطبري (13/ 112) ذلك عن سفيان بن عيينة رحمه الله، قال: "يقول: أنزعُ عنهم فَهم القرآن، وأصرفُهم عن آياتي"، قال ابن جرير: "وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أنَّ هذا الكلام كان عنده مِن الله وعيدًا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، دون قوم موسى؛ لأنَّ القرآن إنما أُنزِل على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، دون موسى عليه السلام".
[4] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (4/ 561).
[5] الصفة الكاشفة: هي المبينة لحقيقة متبوعها، يقول أبو البقاء الحسيني الكفوي: "الصفة على أربعة أوجه: فإن الموصوف:
إما ألَّا يُعْلَم، فيُراد تمييزه من سائر الأجناس بما يكشفه؛ فهي الصفة الكاشفة.
وإما ألَّا يُعْلَم أيضًا، لكن الْتبسَ مِن بعض الوجوه، فيُؤتى بما يرفعه؛ فهي الصفة المخصِّصة.
وإما أنه لم يلتبس، ولكنْ يُوهم الالتباس، فيُؤتَى بما يُقرِّره؛ فهي الصفة المؤكِّدة.
وإلَّا فهي الصفة المادحة والذامَّة، والصفة الكاشفة خبر عن الموصوف"؛ الكليات (ص: 857).
[6] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 232).