طرائف من العصر المملوكي:
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
شعراء أميون
للأستاذ محمود رزق سليم
ما الأمية؟ وما مبلغ صلتها بالشعر؟
أول ما يطالعنا من معاني الأمية أنها الجهل بمبادئ القراءة والكتابة، اللذين هما مفتاح الثقافة، والطريق المؤدى إلى العالم. غير أننا نجد أحياناً أناساً ممن مهروا في القراءة والكتابة، ونالوا من العلم والثقافة حظاً، ينحدرون إلى جهالة جهلاء وضلالة عمياء، إذ لا يفرقون بين حق وباطل، ولا يميزون بين فضيلة ورذيلة، ولا يؤدون حق العلم عليهم بالترفيه عن قومهم، وبخدمة أوطانهم، أولئك والأميون سواء، بل أن بعضاً من الأميين الذين لم يمحصهم أدب، ولم يوقحهم تعليم، قد يكونون أسلم نية، وأطهر طوية، وأصدق عاطفة، وأعرف بأقدار الناس وحقوق الأوطان.
وقد استعاضوا بالذكاء والتجربة عن أميتهم، ودرسوا علوم الحياة في مدرستها فتخرجوا فيها فضلاء يشاءون أولئك الذين أخرجتهم الكتابة من ربقة الجهل، وخلصتهم القراءة من حظيرة الأمية، ولكن لا تزال بنفوسهم من الجهل الأصيل علقة، ومن الأمية الراسخة لوثة. وليس معنى ذلك أننا نتجنى على الكتابة والقراءة، ونضلع مع الأمية، ونحط من قدر الثقافة.
كلا وحاشا: ولكننا نحبها جميعاً على أن تكون الطريق الموصلة إلى فهم الحق فهماً صحيحاً؛ وبلوغ الفضيلة بلوغاً كاملاً. ويبدو أن هذا المعنى الذي نفهمه الآن عن الأمية، لم يكن معروفاً قبل أن تسلك الكتابة الخطية سبيلها إلى الانتشار والذيوع.
فكان الأميون هم العامة لا الخاصة، والأوشاب لا الأشراف، والإمعات المغمورين لا الرؤساء المشهورين، ولهذا أطلق اليهود قديماً لفظ (الأميين) على عرب الجاهلية استهانة بأمرهم، وتحقيراً لشأنهم، حتى رفع الله هذا اللفظ وشرفه وكرمه، فنعت به النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. أما الشعر فهو فطرة موهوبة لأخلة مكسوبة، ولحن إلهي لا نغم تعليمي، تكسبه المقادير في نفوس جبلت منذ أزلها على أن تكون شاعرة، نفوس تتوثب عاطفاتها، وتتوقد احساساتها وتسجل عليها الأيام ما يطيب لها من جادثات بشرية ومشاعر إنسانية. وتولد هذه النفوس أمية كسائر النفوس، فإذا خرجت عن أميتها ونزعت منزع الثقافة زادت حذقاً وفراهة، وأصبحت دانية إلى كمالها. وقد أنجبت البشرية، وولدت قبل عهد الكتابة والقراءة، كثيراً من الشعراء.
وشعراء العرب في العصر الجاهلي كانوا يمتون إلى هذه الأمية بأوشج الصلات.
غير أن هذه الأمية لم تمنعهم أن يكونوا شعراء، ولم تمنع نفوسهم أن تتغنى بما تجيش به وأن يكون غناؤهما على جانب من الرونق والجودة والصدق والسمو، أستأهل إعجاب الأجيال، وأستحق أن يكون موضع دراسة، بل باباً من أبواب العلم والثقافة حتى اليوم.
وقد أفادتهم - بلا ريب - زجاجة عقولهم وثقوب نظرهم وسمو تجاربهم، عوضاً عما عانوه من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة. ويتبين لنا مما سبق أنه لا غضاضة على عصر - أدبي من عصور الكتابة والقراءة أن يكون من بين شعرائه قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون.
بل العجيب حينذاك ألا تطرد طبيعة الأقدار وفطرة البشرية، فتقصر الشاعرية على قوم من المثقفين بالقراءة والكتابة، بدلاً من توزيعها على الناس والبيئات والطوائف بقسطاس مستقيم عادل، ما دامت الشاعرية فطرة موهوبة لا خلة مكسوبة - كما أشرنا - وفي الحق أن الأقدار مطردة في طبيعتها، والبشرية متشابهة في عصور فطرتها، جارية على وثيرة واحدة، وتوزيع الموهبة قائم على العدالة منذ القديم.
فلكل جيل شعراؤه، وكذلك لكل بيئة ولكل طائفة.
لا تبالي الأقدار في توزيعها واختيارها بأن تخص من يقرءون ويكتبون بأوفر حظ من الموهبة، وأوفى نصيب، دون سواهم. ومنذ ذلك العصر الذي وجدت فيه الكتابة الخطية سبيلها إلى الوجود والحياة والقوة والاستمرار، واتخذت منهجاً أولياً، تعليمياً، وللراغبين في العلم، والساعين إلى الثقافة، ومن ثم فرقت الناس إلى شطرين: عالم يقرأ ويكتب، وجاهل أمي لا يقرأ ولا يكتب.
ومنذ ذلك العصر الذي تولدت فيه اللغات العلمية، وافترقت فيه لغة العامة عن لغة الخاصة.
نقول: منذ العصرين المذكورين، والطبيعة سائرة على وتيرتها، مطردة في بابها، توزع موهبتها توزيعها العادل.
ولهذا كثيراً ما ترى مخايل الشاعرية، ودلائل الفنية بادية في أوساط الأميين. غير أن حرص أهل الفصحى ومؤرخيها عليها، وحفاظهم الشديد على سلامتها، نفرهم من الأمية والعامية، ومن أدبائهما، وشعرائهما.
لا يلمون بحياتهم ونتاجهم إلا في حذر وإباء، وأنفة وكبرياء.
ولهذا طغى عليهم سيل الحرمان، وسحب عليهم ذيل النسيان.
فعاشوا نكرات مغمورة، وأغفالاً مهجورة.
وبعد فنحن لا ندري بالضبط، ما موقفنا من الشعراء العوام، وما رأينا في إنتاجهم الشعري؟ أنحمده لهم أم نجحده، ونشكره أم نكفره.
وهل نغبط عصرهم عليهم أم نفمطه، ونهنئه بهم أم نعزيه؟.
وقد قلنا (الشعراء العوام) لا (شعراء العامة)، لأننا نقصد أولئك الأدباء، الذين شبوا أميين لم يتعلموا الكتابة والقراءة، ولذلك لم يسلكوا سبيلهم إلى المطالعة والبحث والتحصيل والدرس، ولكن غلبت عليهم حرفة الأدب، ونزعت بهم نازعة الشعر، فنظموا بالفصيحة السليمة شعراً قوياً بارعاً، ومشرقاً ساطعاً، يتضمن الجديد من المعنى، والمفيد من الرأي، والسلس من الحديث - فضلا عما نظموه من الشعر العامي. فهل أمثال هؤلاء وصمة في جبين عصرهم؟ من حقنا أن نشوهه بهم، ونعيره بوجودهم؟ أم نعتبرهم حلية من حلاه، وزينة من زيناته، لأنهم استطاعوا على رغم عاميتهم وأميتهم، أن ينفذوا بفنهم وشاعريتهم، إلى الفصحى، فينظموا بها، ويصوغوا الأبيات مصقولة بصقالها؟. هؤلاء كشعراء الجاهلية ولكن بفرق يسير.
وهو أن شعراء الجاهلية كانوا يعيشون والفصحى سليقة في اللسان، تجري مع الخاطر مجرى الطباع.
أما شعراؤنا العوام فقد عاشوا في بيئة عامية اختلطت لغاتها وتبلبلت لهجاتها، فكانت محرفة اللسان سقيمة البيان. هكذا عاش عدد من الشعراء في العصر المملوكي.
ولكنهم برغم هذا، قادتهم فطرتهم السليمة، وأذواقهم المصقولة، إلى أن يدلفوا إلى الفصيحة المعربة من، بابها ويعيشوا ردحاً في رحابها، وينظموا الأبيات الرائقة في جنابها.
فوعت بطون الأسفار طرفاً من أخبارهم، وروت لمعامن أشعارهم، تنم عن فنهم وتدل عليه، كما نم الأرج عن الزهر، ودل الحرير على النهر. وكان بعضهم يحكم عاميته، ينظم كذلك الأزجال، وما إليها؛ ولكنه يضرب في وديان من الظرف واللطف، ويفيض بألوان من السحر والبيان. ونحن فيما يلي ننوه ببعض هؤلاء فمنهم: الأمير بيبرس الفارقاني.
كان من المعمرين، وتوفى عام 808هـ وأسس حماماً تجاه المدرسة البندقدارية.
وكان من أهل الدين والصلاح.
وله مشاركة في العلم.
وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
ويزن الشعر بطبعه، وله شعر جيد باللغة الفصحى.
ومن قوله في الغزل، وفيه تورية: من لي بظبي غرير ...
باللحظ يسبي الممالك إذا تبدي بليل ...
جلا سناه الحوالك من حور رضوان أبهى ...
لكنه نجل مالك روى ذلك ابن إياس في البدائع. ومنهم ابن الربيع.
وهو مجاهد بن سليمان بن مرهف ابن أبي الفتح المصري التميمي، ويعرف بالخياط.
كان أديباً رقيقاً ويعتبر من كبار أدباء العوام.
عاصر الشاعر المصري البارع أبا الحسين الجزار، والأديب ناصر الدين بن النقيب، وغيرهما من أدباء الحلبة الأولى في العصر المملوكي.
وكانت بينه وبين كثير منهم مراسلات ومساجلات.
وقد سل لسانه زمناً على الشاعر أبي الحسين الجزار، فهجاه وهجا شعره.
ومن هجائه قوله: أبا الحسين تأدب ...
ما الفخر بالشعر فخر وما تبللت منه ...
بقطرة وهو بحر وإن أنيت ببيت ...
وما لبيتك قدر لم تأت بالبيت إلا ...
عليه للناس حكر ومن شعره في التشوق والحنين، مخاطباً البرق: أعد يا برق ذكر أهيل نجد ...
فإن لك اليد البيضاء عندي أشيمك بارقاً فيضل عقلي ...
فوا عجباً تضل وأنت تهدي ويبكيك السحاب وأنت ممن ...
تحمل بعض أشواقي ووعدي بعثت مع النسيم لهم سلاماً ...
فما عطفوا عليَّ له برد وقد توفي مجاهد عام 672هـ.
وتحدث عنه صاحب فوات الوفيات. ومنهم أيضاً شرف بن أسد المصري.
قال عنه صاحب الفوات (شيخ ماجن متهتك ظريف خليع، يصحب الكتاب، ويعاشر الندماء، ويشبب في المجالس على القيان).
ونقل أيضاً عن صلاح الدين الصفدي قوله عن هذا الأديب، قال (رأيته غير مرة بالقاهرة وأنشدني كثيراً من البلاليق والأزجال والموشحات وغير ذلك.
وكان عامياً مطبوعاً، قليل اللحن.
يمتدح الأكابر ويستعطي الجوائز.
وصنف عدة مصنفات في شاشات الخليج والزوائد التي للمصريين والنوادر والأمثال، ويخلط ذلك بأشعاره وهي موجودة بالقاهرة عند من كان يتردد إليهم. وقد توفى ابن أسد المصري عام 738هـ. ولم يرو له الصفدي شيئاً من شعره الفصيح.
وروي له موشحه زجلية طريفة يخاطب بها شهر رمضان في دعابة وتفكه ويبدو أن رمضان إذ ذاك كان شديد الحرارة، فأثارت حرارته في الشاعر هذه الدعابة. ومن لطيف ما رواه الصفدي لهذا الأديب العامي، مقامة منثورة مسجوعة، فيها فكاهة وفيها حوار بين أحد النحاة وأحد الأساكفة، يطلب فيها النحوي من الإسكافي نعلا، طفق ينعتها له، ويصف شروطها.
فرد عليه الإسكافي رداً محنقاً ملأه بالكثير من الكلمات الغريبة. ومما جاء في هذه المقامة، وصفاً للنعل على لسان النحوي قوله: (ظاهرها كالزعفران، وباطنها كشقائق النعمان.
أخف من ريشة الطير، شديدة البأس على السير، طويلة الكعاب، عالية الأعتاب، لا يلحق بها التراب.
ولا يعرفها ماء السحاب تصر صرير الباب، وتلمع كالسراب، وأديمها من غير جراب.
جلدها من خالص جلود الماعز.
ما لبسها ذليل إلا أفتخر بها وعز).
الخ ومن الشعراء الأميين أيضاً إبراهيم بن علي الحراني، ويعرف بعين بصل.
كان حائكاً، وكان عامياً أمياً، نظم الشعر الفصيح في الغزل والوصف وغيرهما. ومن غزلياته قوله من قصيدة: جسمي بسقم جفوته قد أسقما ...
ريم بسهم لحاظه قلبي رمى كالريح معتدل القوام مهفهف ...
مُرَّ الجفا لكنه حلو اللمى رشأ أحل دمي الحرام وقد رأى ...
في شرعه وصلى الحلال محرما رب الجمال بوصله وبهجره ...
القي وأصلي جنة وجهنما وله قصيدة جيدة في وصف دمشق وجناتها يقول في مطلعها: ولوع جلق للأوطار أوطان ...
وليس فيها من الندماء ندمان كم لي مع الحب في أقطارها أرب ...
إذ نحن في ساحة الجيرون جيران أيام تجرير أذيالي بها طرباً ...
ولي مكان له في السعد إمكان إذ بت أنشد في غزلانها غزلا ...
لما عزت كبدي باللحظ غزلان ومنها يقول: قم يا نديمي إلى شرب المدام بها ...
من قبل يدرك بدر السعد نقصان فأنت في جنة منها مزخرفة ...
وقد تلقاك بالرضوان رضوان وأنت فيها عن اللذات في كسل ...
أنهض فما بلغ اللذات كسلان أما ترى الأرض إذ أبكى السحاب بها ...
آذارها ضحكت إذ جاء نيسان والزَّهر كالزُّهر حياه الحيا فبدت ...
في الروض منه إلى الأبصار ألوان زمرد قضب فيها مركبة.
...
جواهر ويواقيت ومرجان.
الخ ومن يقرأ هذه القصيدة بتمامها، يستروح فيها أنساماً من قصيدة أمير الشعراء شوقي بك في وصف دمشق؛ ولا سيما أن القصيدتين من بحر واحد وروي واحد. هذا، ويقول صاحب فوات الوفيات: أن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان (المتوفى عام 681هـ) - كان قد قصد هذا الشاعر، واستنشده من شعره فقال له: أما القديم فلا يليق وأما نظم الوقت الحاضر، فنعم.
وأنشده: وما كل وقت فيه يسمح خاطري ...
بنظم قريض رائق اللفظ والمعنى وهل يقتضي الشرع الشريف تيمماً ...
بترب وهذا البحر يا صاحبي معنا ومن الأميين أيضاً: ذلك الأديب الشاعر الرقيق صاحب البيتين المشهورين: قد بلينا بأمير ...
ظلم الناس وسبح فهو كالجزار فينا ...
يذكر الله ويذبح ذلك الشاعر هو إبراهيم المعمار.
قال عنه صاحب الدرر الكامنة: شاعر مشهور عامي، لكنه ذكي الفطرة، قوي القريحة، لطيف الطبع ولم يتمدح بأحد.
وقال إنه مات عام 749هـ. وبمناسبة ذكر عام وفاته، نشير إلى أن المؤرخين اختلفوا فيه والذي يبدو لنا أنه من شعراء النصف الأول من القرن الثامن. وقد نظم الشعر في أغراض كثيرة منها: النقد، والفكاهة، والغزل والمجون والخمريات والوصف.
وقد اصطنع البديع وبخاصة التورية.
وكان سلس الأسلوب، واضح المعاني؛ غير أن له أخطاء لغوية أحياناً. وإلى جانب شعره الفصيح، نظم الزجل والمواليا، في نفس الأغراض الشعرية التي طرقها. ومن شعره قوله؛ وفيه اقتباس: قال لي العاذلون أنحلك الحب ...
وأصبحت في السقام فريدا أئذا صرت من جفاهم عظاما ...
أبوصل تعود خلقاً جديداً ما رأينا ولا سمعنا بهذا ...
قلت كونوا حجارة أو حديداً ومنه وفيه تورية: يا قلب صبراً على الفراق ولو ...
روعت ممن تحب بالبين وأنت يا دمع إن ظهرت بما ...
يخفيه قلبي سقطت من عيني وبعد فهؤلاء خمسة شعراء أميين لا يقرءون ولا يكتبون، جاد بهم عصر المماليك، فجادوا الناس بالبديع الممتع من الشعر، فلا أقل من أن نذكرهم بالحمد والشكران بدل الذم والنسيان. حلوان محمود رزق سليم مدرس الأدب بكلية اللغة العربية