ثنائية الإيمان والعقل لدى البابا
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
يؤمن البابا بينيديكتوس السادس عشر، على ما يحاول إظهاره وتأكيده، بأن للبشر جميعا الحق في حرية التعبير عن آرائهم وأفكارهم ووجهات نظرهم ومعتقداتهم.. ومواقفهم، فـ "العقل" عنده يعلو ولا يعلى عليه.
حتى "المشيئة الإلهية" يجب إخضاعها، بحسب إيمانه الإنجيلي، لـ "عقل الإنسان"، فلا إيمان لا يقره العقل.
وهنا، بحسب رأيه، يكمن الفرق الجوهري بين المسيحية والإسلام، فالمسيحية "تقوم على المنطق والعقل" بينما الإسلام يقوم على أساس أن إرادة الله لا تخضع لمحاكمة العقل والمنطق.
وهذا الفرق يراه البابا جزءا من كل، فالعقيدتان تختلفان، بحسب رأيه، في "صورة الذات الإلهية"، فالله ـ يقول البابا ـ في العقيدة الإسلامية "مطلق السمو، ومشيئته تعلو على عقل الإنسان، ولا تخضع له".
عند البابا، ليس من إيمان ديني لا يقره العقل، أو يكون منافيا له، فالمنافي للعقل لا يمكنه إلا أن يكون منافيا لطبيعة الله.
ويفهم البابا "نشر الدين بالعنف" على أنه منافٍ للعقل، ومنافٍ، بالتالي، لطبيعة الله، مع أن الإنجيل في إصحاح متى نسب إلى المسيح القول الآتي: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا".
هذا هو الأساس الفلسفي "الصلب" للتفكير المسيحي لدى البابا.
"الإيمان الديني" أعرفه؛ أما "العقل" الذي يقدِّسه البابا، ويريد له أن يحكم العالم، فهو الأحجية بعينها.
إنه يحدِّثنا عن كائن خرافي، لم يوجد قط، ولن يوجد أبدا، هو العقل الإنساني "العام"، الذي هو ذاته مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ومهما اختلفت مصالح البشر وحاجاتهم، ومهما اختلف البشر أنفسهم في الخواص التاريخية والاجتماعية.
هل كان البابا يظن أن أسلافه من المؤمنين بأن الأرض مسطحة وليست كروية، وبأنها لا تدور حول نفسها، وبأن الشمس هي التي تدور حولها، كانوا قوما يؤمنون بما هو منافٍ للعقل في زمانهم؟! المعرفة، في أي زمان ومكان، ليست كلها "حقائق"، فبعضها، الذي تتسع نسبته أو تتقلص، كان "أوهاما"؛ والعصور لا تختلف بحقائقها فحسب، وإنما بأوهامها، فلكل عصر حقائقه وأوهامه.
والعقل، في كل عصر، ينظر إلى أوهامه على أنها حقائق.
والأوهام التي ينظر إليها البابا بينيديكتوس السادس عشر، اليوم، على أنها حقائق، وحقائق مطلقة، يقرها العقل، ستَظْهَر، غدا، ولبشر الغد، على أنها أفكار ومعتقدات منافية للعقل، ومنافية، بالتالي، لطبيعة الله.
لقد ألَّه البابا العقل الإنساني "العام"، ضاربا صفحا عن حقيقة أن التاريخ لا معنى له، ولا معنى لحركته، إذا لم يتحوَّل "الموافِق للعقل"، فيه، وبه، إلى "منافٍ للعقل".
البابا يستطيع اليوم أن يأتينا بمئات الأفكار والمعتقدات التي قال بها أسلافه في القرون الوسطى والتي هي الآن، في رأيه، وفي رأي كثيرين من المؤمنين وغير المؤمنين، منافية تماما للعقل.
ولكن هل كان أسلافه أولئك، وبما يملكون من موازين العقل والمنطق والصواب والخطأ، يرونها منافية للعقل؟! الملحد، مثلا، لا يرى في إلحاده ما ينافي العقل، أي عقله، فهل نستنتج من ذلك أن إلحاده لا يخالف طبيعة الله؟! لو كان البابا يفهم، أو في مقدوره أن يفهم، أو لديه من المصالح ما يغريه بأن يفهم، "عقلانية" العقل الإنساني فهما نسبيا وتاريخيا لما قام بتأليهه هذا التأليه، ولأدرك الأهم من كل ذلك وهو أن ميزان المصالح الواقعية للبشر، وليس ميزان الصواب والخطأ، هو الميزان الأهم في التاريخ، فالبشر لا يتورعون عن إلغاء كل بديهية هندسية إذا ما وجدوها منافية لمصالحهم.
حتى "العنف"، أو "السيف"، لا يُفْهَم كما فهمه البابا، وكما أراد لنا فهمه، فما هو موقف البابا من العنف "المنافي لطبيعة الله" إذا ما استخدمه أناس في مواجهة من يحاول فرض معتقده عليهم بالعنف، أو السيف؟! هل، عندئذٍ، يصبح العنف الآخر، أو المضاد، موافقا لطبيعة الذات الإلهية؟! بحسب هذا العقل الذي يقدسه البابا، لو سألتموه "هل المطر مفيد أم ضار؟" لأجابكم على البديهة قائلا: "إنه مفيد وليس بضار"، أو "إنه ضار وليس بمفيد"! والمسيح ذاته، لا أحسب أنه يقف ضد السلام، إذا ما قال "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا"، فالسيف في يد الفلسطيني الذي يقاتل إسرائيل محمود؛ ولكنه مذموم في يد بوش الذي يقاتل العراقيين.
البابا حرٌّ في قوله بأن الإيمان الديني يقوم على إخضاع المشيئة الإلهية لمحاكمة العقل والمنطق؛ ولكنه ليس حرا في أن يدعونا إلى وهم "العقل الإنساني المطلق الذي لا يخضع بأحكامه وعقلانيته ومفاهيمه لمحاكمة التاريخ"، الذي يفهمه البابا على أنه شيء بينه وبين الإنسان وعقله برزخ فلا يبغيان!.