شرح الأربعين النووية - الحديث السادس [1]


الحلقة مفرغة

معنى الحلال والحرام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فهذا الحديث السادس من هذه المجموعة المباركة عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب رواه الشيخان البخاري ومسلم .

يعتبر هذا الحديث عند العلماء ركن من أركان الإسلام، وفيه مباحث عديدة، من جوانب متعددة.

قوله صلى الله عليه وسلم: إن الحلال بيّن، يقول العلماء: حرف إن من أدوات التوكيد، والخبر يلقى مؤكداً للاهتمام به، أو لتنزيل السامع منزلة الغافل لينبه، كما قالوا في قول الشاعر:

جاء سليك عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح

الأصل: بنو عمك فيهم رماح، فجاء بإن؛ لأنه جاء معترضاً برمحه، وكأن عدوه ليس مستعداً للقتال والدفاع، فكان في منزلة المستهتر بعدوه المتغافل عن سلاحه، وهذا الحديث يشير إلى أمور يغفل عنها الناس: لا يعلمهن كثير من الناس، فجاء في بادئ الأمر بأداة التوكيد تنبيهاً للسامع لأول وهلة، وكان مقتضى إلقاء الخبر عادياً أن يقول: (الحلال بيّن، والحرام بيّن) ولكن جاء بإن قبل الجملة ليؤكد مضمون هذا الخبر، ويسترعي الانتباه إليه.

والحلال ما أحله الله، وأصل حلّ من باب ضرب نصر، حَلَّ يَحِلُ كضَرَبَ يَضرِبُ، وحَلَّ يَحُلُ كنصر ينصُر، قالوا: اللازم من باب ضرب، والمتعدي من باب نصر، تقول: حلّ الحبل يحُله حلاً؛ لأنه متعدٍ إلى الحبل، وتقول: حلّ بالمكان يحل، يعني: نزل به، والحلال مادة مستقلة بذاتها، تقول: حلّ هذا الشيء يحِل أي يصير حلالاً، ولا تقل: يحُل، بل حل الحلال يحِل، بمعنى ثبت الحكم ونزل واستقر، كمن يأتي إلى مكان ويحل به ويستوطن ويستقر، فلا يتغير هذا الحكم ولا يتحول.

(إن الحلال) هو: ما أحله الله صرفاً، و(بيّن) من البيان والوضوح، ويقابل هذا: (وإن الحرام بيّن) والحرام هو: الممنوع، ومن شواهد ذلك:

جالت لتصرعني فقلت لها: اقصري إني امرؤ صرعي عليكِ حرام

يعني: ممنوع، ومنه: حريم البيت الذي يمتنع الدخول إليه، ومنه: محارم الإنسان وحرمه الممنوعات على غيره، ومنه: حرمة الرجل، أي: أنها محرمة وممنوعة على غيره، فالحرام ما حرمه الله، وهو بين وواضح.

معنى الشبهات

قال: (وبينهما أمور مشتبهات)، ولم يقل: متشابهات، وفرق بين المتشابه والمشتبه، قال الله في وصف ثمار الجنة: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25] أي يقولون: الذي أكلنا قبل هذا هو شبيه به ولكن ليس هو، فمتشابه أي: بعضه يشابه بعضاً، وهذا يدل على وجود شيئين، ولكن مشتبه هو في ذاته، وليس هناك طرف ثان، والمادة متقاربة، فالمشتبه هو: ما يدور بين طرفين متغايرين يشبه هذا من جهة، ويشبه هذا من جهة أخرى، فيصبح في نفسه مشتبهاً، بخلاف المتشابهين، مثل: أخوين توأمين يكونان متشابهين، ولكنهما متغايران، كل واحد بشخصية مستقلة، لكن الأمر المشتبه يدور بين أمرين متغايرين، يأخذ من هذا بوجه، ويأخذ من هذا بوجه، فيصبح مشتبهاً في ذاته.

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: من أحكام الشريعة، ومن معاني القرآن، ما هو بين واضح ليس فيه شبهة ولا يعذر أحد بجهله، سواء كان في الأوامر أو كان في النواهي، وتفسيره تلاوته، وذلك مثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، وقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، فكل هذا من الأمور الواضحة، وكذلك في المحرمات قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3]، وقوله: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [المائدة:4]، فهذا بين واضح لا لبس فيه، وقوله: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:57]، وقوله: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]، فالحلال واضح بين لا شبهة فيه، والحرام واضح بين لا شبهة فيه، ومثل قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33]، وقوله: لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12]، فهذا حرام بيّن.

أقسام تفسير القرآن

يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء:

1- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي.

2- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [عبس:31] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر : فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل.

ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال:

فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت

يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب.

3- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنها عثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه.

4- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقيل: الوقف على قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].

العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله): الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15]، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله.

إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.

حكم ترك الشبهات

قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه، فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟

يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين.

مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، ولهذا يقول الغزالي وغيره: إذا عرفت إنساناً يتعامل بحلال وحرام فإن في ماله شبهة، وهذا المشتبه إلى أي حد؟ هل تمتنع بالكلية عن أن تتعامل معه؟ وهل تمتنع بالكلية عن أن تأكل طعامه وتقبل ضيافته؟ أو يكون هناك جزء فيه حلال؟ أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف. قال الله: مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ [المائدة:4]، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله. ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.

متى يكون ترك الشبهة واجباً؟

والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته. وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟

حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام.

يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟

هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه.

والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين:

فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت.

ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.

عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة

بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حكم الشبهات، وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، وقد جاء في الحديث وسيأتي إن شاء الله: (البر ما اطمأنت إليه النفس)، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم.. يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالأمر تعمله خفية، ولا تحب أن أحداً ينظر إليك؛ لأنه فيه إثم.

إذاً: البر ما اطمأنت إليه النفس، فإذا وجدت في النفس طمأنينة فهو واضح بعيد عن المشتبه، وإذا وجدت في نفسك شبهة، وترددت في أصل الأمر هل هو حلال أو حرام؟ فلو أقدمت عليه فستجد نفسك قلقلة.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3185 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3134 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3115 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3067 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2994 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2890 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2876 استماع