شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإننا وصلنا في الحديث على أركان الإيمان إلى (الإيمان باليوم الآخر)، وأوردنا أدلة البعث من كتاب الله فيما يذكره العلماء، وهي أربعة: خلق الإنسان من عدم، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بعد موتها، وإحياء بعض الموتى في الدنيا من الإنسان والحيوان والطيور والحوت.

وقلنا: إن مجرد الإيمان بالبعث أو باليوم الآخر ليس هو المقصود وحده، ولكن المقصود الإيمان بما يكون في ذلك اليوم من أحداث غيبية، ومن حساب وجزاء وعقاب، وما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

خروج الروح

يتفق العلماء على أن بداية اليوم الآخر لكل إنسان بحسبه، أما يوم البعث ويوم الحشر فهو للجميع.

وبداية اليوم الآخر بالنسبة لكل فرد من بداية النزع، ولحظات سكرات الموت ومفارقة الدنيا والإقبال على الآخرة، ولذا يقول الفقهاء: من مات فقد قامت قيامته، يعني: انتهت دنياه وبدأ في طريق الآخرة.

أما الموت فلا ينكره أحد؛ لأنه شيء محسوس معاين، وتحدى الله سبحانه الخلائق كلها أن يوقفوا حركة الموت: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87].

وهل ارتجعت روح إنسان قط؟ لا والله، قد حاول العالم في الآونة الأخيرة إبقاء حياة فردٍ كان يحكم قريباً من نصف العالم، وغاية ما استطاعوا إمداد حركة القلب فقط مع موت الدماغ، والطب يقول: ليس الموت موت القلب ولكن الموت موت الدماغ، أما القلب فإنما هو آلة تضخ الدم، ويمكن الاستعاضة عنه بقلب اصطناعي، أما المخ فلا.

هذا الشخص اجتمعت له أطباء العالم حتى من معسكر خصمه، وبقي أسبوعاً وقلبه ينبض، ولكن ليس هناك حياة، فعجزوا ثم دفنوه واستراح، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61]، والمقصود بالساعة الساعة اللغوية، أي: لا يستأخرون عنها.

ومن عند الموت تبدأ أحوال الآخرة وأولها عملياً البرزخ، وكلمة البرزخ بدلاً من القبر؛ لأن البرزخ أعم من القبر، فمن أحرق فهو في برزخ، من أغرق وأكلته الحيتان فهو في برزخ، من أكلته السباع في الخلاء فهو في برزخ.

ويقول ابن كثير : ولو أحرق وذري في الهواء فهو في برزخ، أي: برزخٌ بين الدنيا والآخرة؛ لأن مرحلة وجود الإنسان أولاً في عالم الذر، وعندما أخرج الله ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. هذه مرحلة رجعوا منها إلى أصلاب الآباء وجاءوا منها إلى الأرحام فهي مرحلة.

ثم خرجوا إلى الدنيا، وهي محطة الزرع والتزود وينتقلون منها إلى البرزخ. وهذه مرحلة.

ثم تأتي المرحلة النهائية وهي يوم القيامة واليوم الآخِر، وبحث العلماء في موضوع البرزخ هو: عذاب القبر ونعيمه وتفاوت الناس فيه، وسؤال العبد في قبره، وكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؛ عياذاً بالله!

السؤال في القبر

أما السؤال في القبر فبالإجماع أنه واقع، وأشرنا بأن من الملائكة الذين نؤمن بهم: منكراً ونكيراً، وقالوا: هما في حق المؤمن: مبشر وبشير.

ومنكر ونكير، أي: على خلقة ليست على خلقة البشر ولا على خلقة الملائكة، إنما خلقوا لهذا الأمر.

والسؤال في البرزخ واقع باتفاق أهل السنة جميعاً، كما جاءت الأحاديث وتكاد أن تكون متواترة، وفي الحديث عن أنس وغيره قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نقبر ميتاً لنا بالبقيع، فأخذ عوداً وكنا مطرقين كأن على رءوسنا الطير، فقال: وذكر صلى الله عليه وسلم قال: أنا خير الأولين والآخرين يوم القيامة، وساق حديث الشفاعة العظمى، وذكر ما يتعلق بالقبر وقال: إن روح المؤمن إذا حضرتها النزع: وجاء ملك الموت لقبض روحه، جاءت ملائكة الرحمة بحنوط وكفن من الجنة، فلا تمهل الروح في يده طرفة عين، فيأخذونها يكفنونها ويحنطونها بما معهم من كفن وحنوط الجنة، ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا أطيب ما تكون ريحاً؛ فتفتح لها أبواب السماء وتقول الملائكة: من هذا؟ فيقال: فلان بن فلان، ويذكرونه بأطيب أسمائه، ثم يشيعه من كل سماء مقربوها، حتى يصعدون بروحه إلى المولى سبحانه فيقول: أعيدوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، فإذا أعادوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، جاءه الملكان وأجلساه وسألاه: من ربك؟ فيجيب: ربي الله، من نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقال له: نَم نوْمة العروس.

وفي رواية أخرى: يفتح له باب من النار فيقال: ذاك كان مقعدك لو لم تؤمن، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة فيقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: يا رب أقم الساعة! ثم يأتيه رجل جميل الوجه مبتسم، فيقول له: من أنت! إن وجهك ليبشر بخير؟ قال: أنا عملك الصالح.

والكافر أو غير المسلم -عياذاً بالله- على العكس من ذلك.

عذاب القبر ونعيمه

ومن هنا أثبت أهل السنة والجماعة سؤال القبر وعذابه ونعيمه، واستدلوا بالنصوص الأخرى كما في الموطأ في كتاب الجنائز، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب في قبره من بكاء أهله.

ولما سمعت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رضي الله عنه يحدث بهذا، قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن ! ما كذب ولكنه نسي؛ إن الرسول قال ذلك في امرأة يهودية: إنهم ليبكون عليها وهي تعذب في قبرها.

وسواء كان في امرأة يهودية تعذب في قبرها، أو كان العبد يعذب في قبره ببكاء أهله عليه؛ فقد أثبت كل من الحديثين سواء على رواية ابن عمر أو على رواية عائشة أن في القبر عذاباً، سواء كان لليهودية أو كان لهذا الرجل الذي يبكي عليه أهله.

وقد جاء الحديث من غير طريق ابن عمر كـعمر وزيد وغيرهم، من: أن العبد يعذب في قبره ببكاء أهله.

قالوا: ما ذنبه حتى يعذب بفعل الغير؟

وأجابوا: بأن الإنسان بين أحد أمور ثلاثة: الأول: إما أن يأمر أهله أن يبكوا عليه لزيادة مكانته وإظهار الحزن عليه، كما أوصى طرفة أن يبكوا عليه:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

الثاني: أن لا يوصي بالبكاء، ولكن يعلم من أهله أنهم سيبكون عليه ولم ينههم وهو حي، وكان الواجب عليه أن يقول: لا تبكوا عليّ، واصبروا واحتسبوا.

الثالث: أنه يعلم ذلك لكنه حذرهم؛ فخرج من العهدة، فيكون الذي يعذب في قبره ببكاء أهله: إما أنه أوصى بذلك، وإما أنه يعلم ولم ينههم عن هذا، فيكون كالذي رضي بما سيفعلون فيما بعد، فيعذب بذلك.

إذاً: القبر فيه عذاب ونعيم، واستدل الجمهور أيضاً من القرآن الكريم فيما يتعلق بفرعون وأهله، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، أي: يعرضون عليها باستمرار صباح مساء، ويوم تقوم الساعة يدخلون النار، فيكون عرضهم على النار غدواً وعشياً قبل قيام الساعة، وهذا هو رأي الجمهور.

ثبوت أنه يفسح للمؤمن في قبره مد بصره

قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المؤمن: (ويفسح له في قبره مد البصر)، هنا بعض الناس كما يقول الطحاوي وابن كثير : يدخلون العقل فينكرون ما جاء في خبر القبر.

والعجب الذي نريد أن ننبه عليه: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وهو عالم محدث ليس عرافاً: يذكر في قضية العلاء بن الحضرمي لما ذهب إلى البحرين غازياً لهم فوجدهم قد حازوا السفن إليهم، ودخلوا في جزيرتهم، وكان قد سار حوالي شهرين من المدينة إلى البحرين، فيقف يطالع في البحر والعدو قد انحاز بسفنه إلى الجزيرة، فماذا فعل؟

حينما كان يمشي في الصحراء نفذ ماؤه وماء السرية معه، وكادوا يموتون عطشاً وهم كما يقولون: في الدهناء لا ماء ولا شجر، فدعا الله تعالى؛ فإذا بالمولى سبحانه يغيث جنده، فيرون سحابة جاءت في الظهيرة تأتي على مرأى العين تقصدهم حتى إذا كانت فوق رءوسهم وقفت وتكاثفت وأمطرت عليهم الماء، فشربوا واغتسلوا وسقوا دوابهم وملئوا قربهم ومشوا في أمان الله.

فلما وصلوا إلى البحر ووجد السفن قد ذهبت بأهلها التفت إلى أصحابه وقال: أيها الناس! إني عازم على أمر، لقد أراكم الله في البر آية وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، إني عازم على أن أخوض هذا البحر، وتقدم إلى البحر وقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله ونحن جندٌ في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله!

انظروا الأوامر من أين جاءت، انظروا إلى صياغة القرارات، أنت تجري بأمر الله، ونحن لسنا ذاهبين لتجارة ولا لزيارة ولا لغرض نفسي، بل جندٌ في سبيل الله، ونحن وأنت من جنود الله، وما دام الأمر كذلك فقد عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله، الذي أنا وأنت تحت أمره، وخاض البحر.

يقول ابن كثير : فما ترجل الفارس ولا واحتفى المنتعل، أي: الذي هو راكب ما نزل، كان لابساً نعله ما خلعه، وعبروا إلى الجزيرة وقاتلوا عدو الله وانتصروا: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، فالله ربنا لا يريد منك قوة، فالقوة من عند الله، لكن يريد منك اتجاهاً إليه، وهو يسخر لك العوالم.

لما جاءوا راجعين أدركه مرضٌ في عنقه ومات منه، فدفنوه حيث كانوا، فجاء نفرٌ من أهل تلك الأرض، وقالوا لهم: إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه هنا؛ لأن هذه الأرض إذا جاء الليل تلفظ الموتى ولا تقبلهم، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهب السباع، فرجعوا إلى قبره وحفروا القبر ونبشوه فما وجدوا فيه شيئاً، ووجدوا القبر مد البصر.

هل يستطيع أن يتدخل العقل في هذا؟ لا.

يقول الطحاوي رحمه الله: وليس ذلك بالغريب أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وبجواره قبراً آخر هو حفرة من حفر النار؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل حجارة القبر محماة حارة على صاحبها ونحن لا نشعر، ولو لمسناها لأدركنا ذلك، وإني لأعجب والله لعقلية هذا العالم الجليل، بل أقول: إن هذا فتحٌ من الله على لسانه، نحن الآن وهذا السلك فيه كهرباء نمسكه كالثلج، وإذا لامس التيار بعضه بعضاً كانت النار المحرقة، ولو انكشف عن هذا الحاجز العازل ولمسه البعير ولمسه أقوى إنسان لصعق في الحال؛ أين النار في هذا؟!

الله سبحانه بقدرته قادر أن يجعل القبر بطبيعته ناراً على صاحبه وجاره لا يدرك شيئاً، بل أنت الآن تأتي إلى بيتك تفتح الثلاجة فتجد ثلجاً، وتلمسها من وراءها فإذا هي نار حامية، فلا حرارة الأسلاك خلفها تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ حرارة ما في ظهرها، وإذا كان صنع البشر بتمرير مادة باردة بطبيعتها تدفعه وتتحرك وتوجد هذا التبريد، فالمولى سبحانه أقدر على ذلك.

إذاً: لا ينفي عذاب القبر وأحواله إلا جاهل معاند، وإذا ذهب هناك فسوف يعاين الحق.

إذاً: أول مراحل القيامة البرزخ، وكما قال العلماء: ولو أنه أحرق وذرّ في التراب فهو في برزخ؛ يجد السؤال والعذاب أو النعيم، كما جاء في حديث الرجل: كان فيمن قبلكم من أوصى أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه، وفي يوم شديد الريح وعلى حافة البحر يذروه على أمواج المياه، ففعلوا ذلك، فأمر الله الرياح فجمعت ما أخذت، وأمر الله الأمواج أن ترد ما أخذت، وجمع الله خلقته كما كان، وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: مخافة منك يا رب، قال: قد غفرت لك.

إذاً: القبر هو البرزخ مهما كانت حالة الإنسان فيه.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3185 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3134 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3115 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3067 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2994 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2890 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2876 استماع