مظالم العباد
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
مظالم العبادروى أبو هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَتَدْرُونَ ما الْمُفْلِسُ؟))، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى ما عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))؛ رواه مسلم.
فتأمَّلوا كيف أن هذا العبد قد أتى بصلاة وزكاة وصيام؛ أي: أدَّى أركان الإسلام، وجاء بحسنات كالجبال، يرى أنها ستُنجيه؛ ولكنه جاء مُحمَّلًا بمظالم للعباد، وحقوق لهم لم يؤدِّها في الدنيا، وما علم ذلك المسكينُ أنه خاب من حمل ظُلمًا في ذلك اليوم العصيب، فأخذ أولئك الخصوم من حسناته حتى فنيت، فخفَّ ميزانُه، فطرح في النار.
لقد استهان ذلك العبد بحقوق العباد، وظنَّ أنها هيِّنة، فلم يتُبْ منها، وما علم أنها عند الله عظيمة.
روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنام في أرض العرب؛ ولكنه سيرضى منكم بدون ذلك؛ بالمحقرات وهي الموبقات يوم القيامة، اتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستُنجيه، فما زال عبد يقول: يا رب، ظلمني عبدك مظلمة، فيقول: امحوا من حسناته، وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب، وإن مثل ذلك كَسَفْرٍ نزلوا بفلاةٍ من الأرض ليس معهم حطب، فتفرَّق القوم ليحتطبوا، فلم يلبثوا أن حطبوا، فأعظموا النار، وطبخوا ما أرادوا، وكذلك الذنوب))؛ صحيح الترغيب.
لذلك من خاف أن تحبط عنه حسناته يوم القيامة، فليتحلَّل من حقوق العباد اليوم ولا يظلمهم، فقد روت عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يُكَذِّبُونَنِي وَيَخُونُونَنِي وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((يُحْسَبُ ما خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ؛ كَانَ كَفَافًا، لا لَكَ وَلا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ فَوْقَ ذُنُوبِهِمْ، اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ، قَالَ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ))، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ؟ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]))، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كُلُّهُمْ؛ رواه الإمام أحمد والترمذي.
لذلك قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنك أن تلقى الله عز وجل بسبعين ذنبًا فيما بينك وبينه، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد؛ ا هـ.
ولنعلم بأن العملة التي سيتعامل بها الخَلْق يوم القيامة لأخذ حقوقهم بعضهم من بعض ليست الريال ولا الدينار؛ وإنما هي الحسنات والسيئات، فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ)).
ولقد بلغ من تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن إيذاء الناس، أنه هدَّد المجاهدين بنقص ثوابهم أو ببطلان جهادهم لو آذوا الناس في طرقهم ومنازلهم أثناء الجهاد؛ فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: غزوت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم مناديًا يُنادي في الناس أن: ((من ضيَّق منزلًا أو قطع طريقًا فلا جهاد له))؛ رواه أبو داود.
فهذه منزلة حقوق العباد عند الله عز وجل، لا يهملها؛ وإنما ينصف المظلوم حتى يأخذ حقَّه.
فاحذروا كل الحذر من الاعتداء على حقوق الناس وإيذائهم، وتحللوا من كل من بخستموه حقَّه، قبل ألَّا يكون درهم ولا دينار.
إن من الأمر المخيف يوم الحساب: أنك ستبخل أن تعطي أباك أو أُمَّك أو حتى ولدك أية حسنة لتنقذهم مع حبِّك الشديد لهم؛ ولكن في المقابل ستجد نفسك مرغمًا على إعطاء حسنات كثيرة لشخص تكرهه؛ لأنك اغتبته أو آذيته أو بخسته حقَّه ولم تستحلَّه قبل الموت.
إن من المهم أن نجمع الحسنات الكثيرة بالصلاة والزكاة والصَّدَقة وسائر الطاعات؛ ولكن الأهم من ذلك في كيفية المحافظة على هذه الحسنات لئلا تحبط أو تذهب بسبب ذنوب.
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة - ودعاؤه مستجاب لا يُردُّ - لمن تعجَّل في التحلُّل من أخيه كي لا تؤخذ منه حسناته يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كَانَتْ لأَخِيهِ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ فِي عِرْضٍ أو مَالٍ، فَجَاءَهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، وَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، حَمَّلُوا عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ))؛ رواه الترمذي.
إن بعض الناس ليس لديهم توازن في الأمور، فتراهم يُغلِّبون جانبًا على جانب، فبعض الناس قد يحتجُّ بحديث المفلس الذي ذكرناه، ويغلبه على حقوق الله عز وجل، فإذا نصحته بترك المعاصي، قال لك: أهم شيء ألَّا تظلم أحدًا، ولا تأكل حقوقه، وما علم هذا المسكين أن الذي يلقى الله عز وجل وهو محسن إلى الناس ومؤدي حقوقهم؛ ولكنه لم يصل ولم يزك وارتكب بعض كبائر الذنوب، لهو أشدُّ من أولئك المفاليس الذين ذُكِروا في الحديث؛ لأن هذه الكبائر كفيلةٌ بأن تردي صاحبها في النار، إذ ليس فيها قصاص مع أحد من البشر، فكونوا مع أوامر الله كلها فلا تنتهكوها، واتقوا الله حيثما كنتم، وأتبعوا الحسنة السيئة تمحها، وخالقوا الناس بخُلُق حسن، هذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة المانعة.