تفسير سورة الحجرات [4 - أ]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فيقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

أيها الإخوة! في هذه الآية الكريمة نداء للمؤمنين بأحب الأشياء إليهم، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونََ [الحجرات:11].

في هذه المقدمة من هذه الآية الكريمة ينادي المولى سبحانه عباده المؤمنين الذين التزموا بلوازم الإيمان، وهو: التصديق والعمل بكل ما جاء عن الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: هذا التعليم القرآني الكريم.

الإعجاز القرآني في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم)

نلحظ في هذه الآية الإعجاز القرآني اللفظي والتنبيهات اللطيفة في قوله: (لا يَسْخَرْ قَومٌ)، المفروض أن الذي سيسخر هو فرد واحد، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها بقوم، والقوم هم الجماعة، و(قوم) لفظ خاص بجماعة الرجال، وقالوا: إن مادة قوم والقيام والقوامة ممثلة في الرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون بالواجبات، كما قال الله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]؛ فوصف الرجال بالقوامة؛ ولذا كان لفظ القوم خاصاً بالرجال فقط، ولذا عطف عليه القسيم الثاني وهم النساء، فقال: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) فكون الإسناد هنا لجماعة أو لقوم وهم عدد، مع أن العادة جارية بأن السخرية لا تنشأ ولا توجد إلا من فرد واحد؛ فلماذا جاء اللفظ بالقوم -وهم الجماعة- نيابة على الواحد؟

أشرنا سابقاً بأن آيات القرآن يرتبط بعضها ببعض، ولذا لو رجعنا قليلاً لوجدنا قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فهنا طائفة متقاتلة مع طائفة أخرى، والطائفة هي الجماعة، والجماعة هي القوم، ولما انتهى القتال وجاء الإصلاح وتدخل المؤمنون قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ [الحجرات:10]، ثم جاء تصفية ما عساه أن يكون من بقايا القتال بين الطائفتين، فقد تكون طائفة أقوى من الأخرى فتفخر عليها وتسخر من الطرف الثاني، فجاء التعبير بالقوم بناء على أنه تقدم عندنا طائفتان.

اشتراك الراضي عن الفعل في الأثم

لو أن شخصاً من إحدى الطائفتين سخر بالطائفة الثانية؛ فإن إسناد السخرية يكون للطائفة التي منها الشخص الذي سخر، ويكون الإسناد للمجموع لا للفرد فقط؛ لأن الواحد يتكلم باسم جماعته، ومن هنا لو أن البعض لم يسخر ولم يرض لكنه مشارك بالسكوت كما قيل:

وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل

الذي سمع ما ذم إنساناً لكنه سمع ورضي وتلذذ بذلك، كما قيل: لم آمر بها ولم تسؤني؛ فهو مشارك للذي سب، أو ذم غيره، وعليه فهو مشترك في الإثم، وهكذا هنا الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي.

وهكذا أي إنسان ذكر إنساناً بسوء وعنده من إخوانه من لم يرد عليه ولم يمنعه؛ فمن رضي بذلك فهو مشترك في الإثم معه بسكوته عنه وعدم نهيه عن فعله، ولذا جاء في بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، ويقول علماء الأصول:الترك فعل في صحيح المذهب، فإذا رأى إنسان منكراً وهو يستطيع أن ينكره وترك النهي فهو كالذي فعله، ولو أن إنساناً وجد آخر يسبح في الماء وأوشك على الغرق، ويستطيع أن ينقذه دون مضرة عليه؛ فتركه حتى غرق فهو مشارك في مسئولية غرقه، ويقولون أيضاً: لو أن إنساناً في فلاة ووجد ظمآناً يكاد أن يهلك من العطش، وعنده فضل ماء يزيد على حاجته وتركه ولم يسقه فمات فهو مسئول عنه.

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لو أن إنساناً مات جوعاً في حي من الأحياء لألزمتهم ديته لأنهم تركوا إطعامه)، هم لم يقتلوه ولكنهم أمسكوا فضل طعامهم ومائهم؛ فبإمساكهم ما به حياة إنسان يكونوا قد فعلوا ما يوجب الموت بالفعل، وهنا إشارة لطيفة في التعبير بلفظ بدل من لفظ، كان ممكن أن يقول: لا يسخر إنسان من إنسان، مسلم من مسلم، مؤمن من مؤمن، وهي تؤدي المعنى، ولكن يأتي بلفظ: (قوم)، والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، إذا الواحد الذي أنشأ السخرية يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم.

جهات الخيرية الموجودة في المسخور منه

(لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا) أي: المسخور منه خير من هؤلاء الذين سخروا، (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ).

وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف.. غني من فقير.. سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها.

ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)، الخيرية هذه لها جهتان:خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة. عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج. فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج. قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله)، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم. هذه الخيرية عند الله.

لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول:هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات.. صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك. قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم.

إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا)، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال.

وكما جاء عن عروة بن الزبير : أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه:(اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت)؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها.

إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم.

إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان.

إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً).

الخيرية الموجبة لعدم السخرية بين النساء

ثم قال الله: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، امرأة هي جميلة في نظرها تنظر إلى أخرى وترى أنها ذميمة، هي رابعة الطول وهي قصيرة، ذات حسب ونسب، وتلك خادمة مسكينة، وكذلك كل ما يقال ويوجد في الرجال للرجال يقال ويوجد في النساء للنساء،قد تسخر منها لجمالها وتكون إما عند الله هي خير منها، وإما أن تكون في الدنيا أيضاً.

أنس رضي الله عنه لما تزوج ودخل على زوجه -ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن من هذا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا أنس ! إن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـمالك فعوضه الله بأعلى من المستوى الذي كان يريد، ومالك جاء بجارية ورزق منها بهذا الولد الذي أصبح إمام دار الهجرة، والله لو كان سيزنها بالذهب فإنه لا يعادلها، لو أن امرأة أخرى في جمالها وحسبها رأت تلك المرأة التي تزوجها أنس لازدرتها، ولو كانت تعرف بأنها سوف تنجب مالك بن أنس ، في تلك الساعة ازدرت نفسها عند تلك المرأة.

يقول بعض العلماء: إن القسمة هنا ثنائية رجال من رجال. هذا قسم، نساء من نساء. هذا قسم آخر، ولم يأت ذكر رجال يسخرون من نساء، ولا قسم نساء يسخرن من رجال؛ لأن بين الرجل والمرأة بون شاسع، وكمال الرجل لا يجعله يضع نفسه في مقارنة مع امرأة؛ لأنه ينظر نقائصها فلا يسخر منها، وكذلك المرأة مع الرجل؛ لأنها ترى أن الرجل أعلى منزلة منها، فلا تضع نفسها في رفعة حتى أنها تسخر من الرجل، فرجولته تغطي كل شيء، ولذا جاء بالفريقين فقط: قوم من قوم، ونساء من نساء.

السخرية أصل كل خطيئة

أشرنا سابقاً بأن كل الخطايا والجرائم والآثام الشخصية قد يقال: إن منشأها من السخرية؛ لأنك سخرت منه عندما رأيت نفسك أعلى منه وهو دونك، فاستنقصته فصار هناك الغمز واللمز، وصار هناك الاعتداء وكانت هناك الآثام، (بحسب امرئ مسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم)، يكفيه ذنب واحد في الدنيا لهلاكه وتعذيبه وهو الاحتقار، والاحتقار سيؤدي إلى السخرية، إذ السخرية نتيجة الاحتقار،ويحمله ذلك على معصية الله.

ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها. وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه.

أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ [ص:75]، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:71-72].

وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:73-74]، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه.

إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية،بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات.

نلحظ في هذه الآية الإعجاز القرآني اللفظي والتنبيهات اللطيفة في قوله: (لا يَسْخَرْ قَومٌ)، المفروض أن الذي سيسخر هو فرد واحد، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها بقوم، والقوم هم الجماعة، و(قوم) لفظ خاص بجماعة الرجال، وقالوا: إن مادة قوم والقيام والقوامة ممثلة في الرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون بالواجبات، كما قال الله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]؛ فوصف الرجال بالقوامة؛ ولذا كان لفظ القوم خاصاً بالرجال فقط، ولذا عطف عليه القسيم الثاني وهم النساء، فقال: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) فكون الإسناد هنا لجماعة أو لقوم وهم عدد، مع أن العادة جارية بأن السخرية لا تنشأ ولا توجد إلا من فرد واحد؛ فلماذا جاء اللفظ بالقوم -وهم الجماعة- نيابة على الواحد؟

أشرنا سابقاً بأن آيات القرآن يرتبط بعضها ببعض، ولذا لو رجعنا قليلاً لوجدنا قوله: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فهنا طائفة متقاتلة مع طائفة أخرى، والطائفة هي الجماعة، والجماعة هي القوم، ولما انتهى القتال وجاء الإصلاح وتدخل المؤمنون قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ [الحجرات:10]، ثم جاء تصفية ما عساه أن يكون من بقايا القتال بين الطائفتين، فقد تكون طائفة أقوى من الأخرى فتفخر عليها وتسخر من الطرف الثاني، فجاء التعبير بالقوم بناء على أنه تقدم عندنا طائفتان.

لو أن شخصاً من إحدى الطائفتين سخر بالطائفة الثانية؛ فإن إسناد السخرية يكون للطائفة التي منها الشخص الذي سخر، ويكون الإسناد للمجموع لا للفرد فقط؛ لأن الواحد يتكلم باسم جماعته، ومن هنا لو أن البعض لم يسخر ولم يرض لكنه مشارك بالسكوت كما قيل:

وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل

الذي سمع ما ذم إنساناً لكنه سمع ورضي وتلذذ بذلك، كما قيل: لم آمر بها ولم تسؤني؛ فهو مشارك للذي سب، أو ذم غيره، وعليه فهو مشترك في الإثم، وهكذا هنا الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي.

وهكذا أي إنسان ذكر إنساناً بسوء وعنده من إخوانه من لم يرد عليه ولم يمنعه؛ فمن رضي بذلك فهو مشترك في الإثم معه بسكوته عنه وعدم نهيه عن فعله، ولذا جاء في بني إسرائيل: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، ويقول علماء الأصول:الترك فعل في صحيح المذهب، فإذا رأى إنسان منكراً وهو يستطيع أن ينكره وترك النهي فهو كالذي فعله، ولو أن إنساناً وجد آخر يسبح في الماء وأوشك على الغرق، ويستطيع أن ينقذه دون مضرة عليه؛ فتركه حتى غرق فهو مشارك في مسئولية غرقه، ويقولون أيضاً: لو أن إنساناً في فلاة ووجد ظمآناً يكاد أن يهلك من العطش، وعنده فضل ماء يزيد على حاجته وتركه ولم يسقه فمات فهو مسئول عنه.

وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لو أن إنساناً مات جوعاً في حي من الأحياء لألزمتهم ديته لأنهم تركوا إطعامه)، هم لم يقتلوه ولكنهم أمسكوا فضل طعامهم ومائهم؛ فبإمساكهم ما به حياة إنسان يكونوا قد فعلوا ما يوجب الموت بالفعل، وهنا إشارة لطيفة في التعبير بلفظ بدل من لفظ، كان ممكن أن يقول: لا يسخر إنسان من إنسان، مسلم من مسلم، مؤمن من مؤمن، وهي تؤدي المعنى، ولكن يأتي بلفظ: (قوم)، والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، إذا الواحد الذي أنشأ السخرية يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم.

(لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا) أي: المسخور منه خير من هؤلاء الذين سخروا، (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ).

وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف.. غني من فقير.. سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها.

ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ)، الخيرية هذه لها جهتان:خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة. عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج. فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج. قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله)، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم. هذه الخيرية عند الله.

لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول:هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات.. صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك. قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم.

إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا)، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال.

وكما جاء عن عروة بن الزبير : أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه:(اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت)؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها.

إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم.

إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان.

إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً).

ثم قال الله: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، امرأة هي جميلة في نظرها تنظر إلى أخرى وترى أنها ذميمة، هي رابعة الطول وهي قصيرة، ذات حسب ونسب، وتلك خادمة مسكينة، وكذلك كل ما يقال ويوجد في الرجال للرجال يقال ويوجد في النساء للنساء،قد تسخر منها لجمالها وتكون إما عند الله هي خير منها، وإما أن تكون في الدنيا أيضاً.

أنس رضي الله عنه لما تزوج ودخل على زوجه -ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن من هذا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا أنس ! إن الله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـمالك فعوضه الله بأعلى من المستوى الذي كان يريد، ومالك جاء بجارية ورزق منها بهذا الولد الذي أصبح إمام دار الهجرة، والله لو كان سيزنها بالذهب فإنه لا يعادلها، لو أن امرأة أخرى في جمالها وحسبها رأت تلك المرأة التي تزوجها أنس لازدرتها، ولو كانت تعرف بأنها سوف تنجب مالك بن أنس ، في تلك الساعة ازدرت نفسها عند تلك المرأة.

يقول بعض العلماء: إن القسمة هنا ثنائية رجال من رجال. هذا قسم، نساء من نساء. هذا قسم آخر، ولم يأت ذكر رجال يسخرون من نساء، ولا قسم نساء يسخرن من رجال؛ لأن بين الرجل والمرأة بون شاسع، وكمال الرجل لا يجعله يضع نفسه في مقارنة مع امرأة؛ لأنه ينظر نقائصها فلا يسخر منها، وكذلك المرأة مع الرجل؛ لأنها ترى أن الرجل أعلى منزلة منها، فلا تضع نفسها في رفعة حتى أنها تسخر من الرجل، فرجولته تغطي كل شيء، ولذا جاء بالفريقين فقط: قوم من قوم، ونساء من نساء.

أشرنا سابقاً بأن كل الخطايا والجرائم والآثام الشخصية قد يقال: إن منشأها من السخرية؛ لأنك سخرت منه عندما رأيت نفسك أعلى منه وهو دونك، فاستنقصته فصار هناك الغمز واللمز، وصار هناك الاعتداء وكانت هناك الآثام، (بحسب امرئ مسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم)، يكفيه ذنب واحد في الدنيا لهلاكه وتعذيبه وهو الاحتقار، والاحتقار سيؤدي إلى السخرية، إذ السخرية نتيجة الاحتقار،ويحمله ذلك على معصية الله.

ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها. وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه.

أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ [ص:75]، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:71-72].

وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:73-74]، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه.

إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية،بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات.