تفسير سورة الحجرات [3 - أ]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه. وبعد:

فيقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى [الحجرات:9] أي: بعد إيقاف القتال بينهما، وبعد أن أخذتم في البحث عن أسبابه، ولكن إحدى الطائفتين لم تلتزم ولم تكف عن القتال واستمرت في غيها وبغيها؛ فحينئذٍ يكون الدفع بالقوة وبحسب الإمكان، وكما نسمع الآن في كثير من القضايا العالمية، يبدءون أولاً بالحصار الاقتصادي، ثم بقطع المساعدات، فإن جاءت بهم فبها، وإلا سيرت إليهم القوات تردعهم بالقوة، وهكذا...

قتال الفئة الباغية وسببه

قال الله تعالى: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، والقتال يكون بالتدريج، ويُبدأ بالأخف فالأخف، ثم بعد ذلك إن فاءوا بالأمور الاقتصادية والمالية فبها، وإلا فتعين قتالهم بالسلاح، وقد أشرنا بأن القتال بين طائفتين أن ذلك ليس من حق الأفراد؛ لأن إنساناً أو جماعة لا تملك أن تقاتل جماعة أخرى، وكذلك الدول لا يحق لدولة أن تذهب بقواتها خارج حدودها لتقاتل دولة باغية على دولة أخرى، وكما يقولون في العرف العسكري: هذا تدخل في شئون الآخرين غير مسموح به.

إذاً: قال الفخر الرازي رحمه الله: إن كانت الطائفة الباغية من مجموع المجتمع؛ فعلى ولي الأمر أن يجرد قوة يردعها عن أختها، وإن كان فيما بينهم وليس هناك ولي أمر يردعهم، فحينئذٍ يتعين على مجموع المسلمين أن يجردوا من قواتهم قوة تكون مهمتها -كما يقال- ردع الباغي.

ليست للاستيلاء على أراضي الآخرين، ولا للاستعمار ولا للتعدي ولا إلى شيء من ذلك كله، إنما هي قوة ردع.

ولعلنا نتذكر ما كان بين لبنان وسوريا، فقد كانت هناك قوات ردع عربية دخلت إلى هناك وحجزت بين الفريقين، ولم تكن ترجع قيادتها إلى دولة حتى يمكن أن تسخرها لمصالحها، إنما هي راجعة إلى مجموعة الأمة الإسلامية.

فَإِنْ فَاءَتْ [الحجرات:9]، أي: بعد الردع وبعد قتالها ورجعت عن بغيها، والفيئة الرجوع، أُخذت من الفيء وهو الظل في آخر النهار؛ لأن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق، فإذا جاءت إلى كبد السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق. وهذا هو الفيء.

فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء، فإن فاءت عن الغي وفاءت عن الاعتداء حينئذٍ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات:9]، وهذا الصلح الأخير فيه التصفية بين الطرفين، وفيه الإنهاء بالبحث عن أسباب النزاع والقتال، والبحث عما ترتب ونتج عن هذا القتال من قتلى، وديات، وإتلاف للأموال والعتاد.. كل ذلك يقع نتيجة القتال بين الطائفتين، ولا يتم الصلح إلا إذا سويت جميع الخلافات من جميع الجوانب.

العدل وأثره في حياة الأمم والملوك

فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات:9]، مجيء القسط بعد العدل ماذا يفيد؟ قالوا: هما من المترادفات، وبعضهم يقول: العدل في الفعل والقسط في القول.

أي: حتى تكون المحاكمة والإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين في مساواة الكلمة والكلمة الطيبة، ونعلم بأن الصلح بين المتخاصمين أباح النبي صلى الله عليه وسلم فيه الكذب للمصلحة، فلو أنك عرفت اثنين متخاصمين، أو أنهما كانا صديقين أو متجاورين وعلمت القطيعة بينهما وخشيت تفاقم الأمر، وأردت إصلاح الواقع، فجئت لأحد المتخاصمين وقلت له من عندك أنت: يا فلان لقد طالت الخصومة بينك وبين صديقك وهو متألم لذلك، ويأسف لهذا، ويتمنى إزالة ما بينكما، ومستعد أن يقدم ما تريد. مع أنه ما قال لك أي شيء، ولكن أنت من نفسك تريد أن توطِّن بين الطرفين للصلح، فهو حين يسمع ذلك لا شك أنه سيلين..

سيقول: أهو يقول ذلك؟ إذا كان هو مستعد فأنا مستعد، وتذهب إلى صاحبه وتقول له مثلما قلت للأول، فحينئذ تهيأ الجو وتهيأت النفوس، وتوجهوا إلى إيقاع الصلح، فتجمع بينهما على خير، وتسعى بينهما، وقد سمح لك الإسلام أن تبدأ بحديث لم يقله أحدهما، ولكنك تريد الإصلاح، فلا مانع في ذلك.

فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، العادلين الذين يعدلون بين الناس، وقد جاء في حق النجاشي رحمه الله ورضي عنه لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أصحابه من الشدة والضغط من المشركين قال: (إن بالحبشة ملك عادل لا يضام أحد في جواره، أرى أن تذهبوا إليه إلى أن يجعل الله لكم مخرجاً) ، فهذا كان على نصرانيته، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عادل، وقد تبين فعلاً عدله هناك، وجاءت موقعة بدر وقتل فيها سادة قريش وصناديدها، وأرادت قريش أن تنتقم من المشركين، ماذا فعلوا؟

كان عمرو بن العاص من أصدقاء النجاشي ، وكان كل سنة يذهب إليه بهدايا الحجاز، فأرسلوه ومعه شخص آخر، وقالوا: خذ الهدايا واذهب إليه وكلمه في من عنده من المسلمين فيأتيك بهم فنقتلهم؛ فيكون ذلك عوضاً لهم عمن قتلوا عن الذي حدث في بدر، فلما ذهب ووصل إلى النجاشي أخبره: أن قوماً من أهله أو قال: فئة من قومنا دخلوا إلى بلادك، خرجوا عن دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وأرسلني أهلهم لنردهم إليهم. فما بادر الملك وقال: مرحباً بصديقي، ومرحباً بالهدايا، بل قال: قوم اختاروني على غيري وأتوا إلي، ولن أسلمهم حتى آتي بهم وأسألهم وأنظر ماذا عندهم، ثم بعد ذلك يكون التصرف.

فدعاهم وعندها اشتد الأمر على المسلمين حين جاءهم الأمر من الملك بالحضور، وكانوا علموا من قبل بمجيء عمرو داهية العرب، فقالوا: من الذي يكلّم الملك؟ فقال جعفر الطيار رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما قدموا عليه همس عمرو في أذن الملك وهو جالس بجواره على سريره، وقال: إنهم لن يسجدوا لك كما تسجد لك العرب، فلما دخلوا لم يسجدوا له، فقال: أرأيت، لم يسجدوا لك ولم يكرموك كما نكرمك، ولم يدخلوا في دينك، فهم خرجوا على غيرهم، وهم خارجون عليك -يعني: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- فسكت الملك، فلما جاء جعفر ووقف بين يديه، قال له: لم تسجد لي كما يسجد الناس؟

قال: أيها الملك أعزك الله! ما كنا لنسجد لغير الله، لقد كنا نعبد الأحجار والأشجار والأصنام.. وكنا في جاهلية جهلاء، يأكل القوي فينا الضعيف، ونقطع الأرحام، ونقطع الطريق -وذكر له كل أخطاء الجاهلية- فأكرمنا الله برجل منا نعرف نسبه ومولده ونشأته؛ أتانا بالوحي من عند الله، فأمرنا بأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وحسن الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده، فقال: هل معك مما جاء به من شيء؟

قال: بلى، وقرأ عليه أوائل سورة طه، فما كان من الملك إلا أن هوى إلى الأرض، وأخذ قشة بين أنامله، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى بن مريم ولا مثل هذه القشة، حينئذٍ نخر من كان عنده من الرهبان والقسس، وأسقط في يد عمرو ، ثم قال: ردوا الهدايا على من جاء بها، والله لا أرد هؤلاء، واذهبوا وأنتم السيوح.

أي: اذهبوا فأنتم مضمونون مكرمون، من اعتدى عليكم فكأنما اعتدى عليّ، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه وإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك عادل.

دوام الملك بالعدل والإحسان

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالة صغيرة اسمها: رسالة المظالم: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) ؛ لأن الظلم كما نعلم يولد حقداً في المجتمعات والأفراد إذا كانوا يتظالمون في حقوقهم وأعراضهم؛ فكل ينصب للثاني العداء، أما إذا كانت الأمانة والعدالة، وكان الناس آمنون على الدين والنفس والعقل والنسب والعرض والمال، حينها الأمة تكون في خير وعلى خير، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين في قضيتهم سواء كانت جزئية أو كبيرة ولو بين أولاده، وإخوانه.. الأستاذ في فصله مع طلابه يجب أن يكون عادلاً في توزيع الأسئلة، وتوزيع العناية بالجميع إذا جاء يصحح، فيكون عادلاً في الحكم على الطالب من حيث إجاباته، فالعدل في كل شيء في الحياة، ينبغي على المسلمين أن يحافظوا عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]؛ لأن العدل متلازم مع الإحسان دائماً، ولا يكون مع العدل إساءة قط.

وعلى هذا تكون هذه الآية الكريمة إنما هي مبدأ وقاعدة لتشريع قرآني كريم للإصلاح بين الجماعات، سواء كبرت تلك الجماعات أو صغرت، وسواء كانا قطرين أو قبيلتين، أو كانتا أسرتين أو كانا أخوين أو جارين مهما وقع النزاع يجب أن يكون هناك صلح.

قال الله تعالى: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، والقتال يكون بالتدريج، ويُبدأ بالأخف فالأخف، ثم بعد ذلك إن فاءوا بالأمور الاقتصادية والمالية فبها، وإلا فتعين قتالهم بالسلاح، وقد أشرنا بأن القتال بين طائفتين أن ذلك ليس من حق الأفراد؛ لأن إنساناً أو جماعة لا تملك أن تقاتل جماعة أخرى، وكذلك الدول لا يحق لدولة أن تذهب بقواتها خارج حدودها لتقاتل دولة باغية على دولة أخرى، وكما يقولون في العرف العسكري: هذا تدخل في شئون الآخرين غير مسموح به.

إذاً: قال الفخر الرازي رحمه الله: إن كانت الطائفة الباغية من مجموع المجتمع؛ فعلى ولي الأمر أن يجرد قوة يردعها عن أختها، وإن كان فيما بينهم وليس هناك ولي أمر يردعهم، فحينئذٍ يتعين على مجموع المسلمين أن يجردوا من قواتهم قوة تكون مهمتها -كما يقال- ردع الباغي.

ليست للاستيلاء على أراضي الآخرين، ولا للاستعمار ولا للتعدي ولا إلى شيء من ذلك كله، إنما هي قوة ردع.

ولعلنا نتذكر ما كان بين لبنان وسوريا، فقد كانت هناك قوات ردع عربية دخلت إلى هناك وحجزت بين الفريقين، ولم تكن ترجع قيادتها إلى دولة حتى يمكن أن تسخرها لمصالحها، إنما هي راجعة إلى مجموعة الأمة الإسلامية.

فَإِنْ فَاءَتْ [الحجرات:9]، أي: بعد الردع وبعد قتالها ورجعت عن بغيها، والفيئة الرجوع، أُخذت من الفيء وهو الظل في آخر النهار؛ لأن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق، فإذا جاءت إلى كبد السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق. وهذا هو الفيء.

فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء، فإن فاءت عن الغي وفاءت عن الاعتداء حينئذٍ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات:9]، وهذا الصلح الأخير فيه التصفية بين الطرفين، وفيه الإنهاء بالبحث عن أسباب النزاع والقتال، والبحث عما ترتب ونتج عن هذا القتال من قتلى، وديات، وإتلاف للأموال والعتاد.. كل ذلك يقع نتيجة القتال بين الطائفتين، ولا يتم الصلح إلا إذا سويت جميع الخلافات من جميع الجوانب.




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحجرات [2 - ب] 2753 استماع
تفسير سورة الحجرات [3 - ب] 2390 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - ب] 2243 استماع
تفسير سورة الحجرات [5 - أ] 2222 استماع
تفسير سورة الحجرات [5 - ب] 2159 استماع
تفسير سورة الحجرات [4 - ب] 2141 استماع
تفسير سورة الحجرات [2 - أ] 2045 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - ب] 1869 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - أ] 1681 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - أ] 1618 استماع