تفسير سورة الحجرات [4 - ب]


الحلقة مفرغة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فأعتقد أنه قد تقدم الكلام في هذه الآية الكريمة، وبقي التنبيه على جانب من جوانب دلالتها.

يقول المولى سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]، أي: ابتعدوا عن كثير من الظن، والمفهوم أنه قد يجوز بعض الظن.

ثم يبين سبحانه وتعالى السبب في اجتناب كثير من الظن فقال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فلا يمكن اليقين إلا بترك الأكثر.

وجوب اجتناب كثير من الظن

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] فلو قال: اجتنبوا بعضاً من الظن لكان هناك حرج؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد كيف يكون الاجتناب، لكن إذا اجتنبنا كثيراً من الظن تأكدنا من أننا اجتنبنا بعض الظن الذي فيه إثم، وهذه فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ولهذا نرى الفقهاء في مواطن التحديد في العبادات يطلبون الزيادة عن الحد للتأكد من استيعاب المحدود، فمثلاً: في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، يقولون: حد الوجه من منبت الشعر طولاً من الجبهة إلى أسفل الذقن، لكن يقولون: ينبغي أن يزيد في منبت الشعر جزءاً بحيث أنه يتأكد بأنه استوعب الوجه كله، وكذلك في صوم رمضان في قوله سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، يقول الفقهاء: ينبغي أن يمسك قبل أن يتبين ولو بلحظات ليتأكد أن إمساكه وقع في جزء من الليل، وأن كامل النهار سلم من أن يأكل أو يشرب فيه، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ، يكون إتمام الصيام إلى ما بعد نقطة الصفر من غروب الشمس، ليتأكد أنه استوعب النهار كاملاً بالإمساك، أما إذا جاء عند نقطة الصفر بالذات يمكن أن يكون أخذ جزءاً من النهار في أكله وشربه، فيكون ذلك إبطالاً لصيامه، لذلك لا يتم الصيام الواجب إلا بإتمامه وهو أخذ جزء من آخر الليل من الصباح، وأخذ جزء من أول الليل عند الغروب ليتأكد ؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، وهذه الآية الكريمة تدل على ذلك: اجتنبوا الكثير؛ لأن القليل إثم، ولا نستطيع أن نتجنب القليل إلا إذا تجنبنا ما هو أكثر منه، حتى نتأكد أننا استوعبنا القليل الذي فيه الإثم.

الفرق بين الظن والشك

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

إشارة إلى أن المسلم لا يحق له أن يتجسس على أخيه المسلم، وأشرنا إلى الترتيب الطبيعي في ترتيب هذا الأسلوب حتى وإن رأيت من إنسان قرائن من سماع أو إشاعات، وكما سأل الأخ: ما الفرق بين الظن والشك؟ وقلنا: إن الشك وجود معرفة على وجهين متناقضين في كفتي ميزان متعادل، ويمثل علماء المنطق لذلك: إذا رأيت شخصاً من بعيد فلا تستطيع أن تجزم أكان رجلاً أو امرأة، وإن تأملت قلت: هذا رجل، وإن رجعت مرة أخرى قلت: هذه امرأة، فلم تستطع الجزم بذلك والكفتان بين الرجل والمرأة متعادلتان سواء، في هذه الحالة يكون إدراكك للشاخص شك لأنك لم ترجح أحد الجانبين، فإذا تعادل طرفا العلم بمعلوم فإن هذا العلم شك، ولكن إذا دنا الشاخص منك قليلاً ثم تبين لك أنه رجل، وأصبح عندك عشرة في المائة ترجح أنه رجل؛ حينئذ هذا الجانب الذي رجح ونزلت كفته عشرة في المائة يعتبر ظناً، والكفة المرجوحة التي نقص الإدراك فيها عشرة في المائة يعتبر وهماً، فالظن أحد الجانبين الذي رجح بعد أن كان شكاً متعادلاً، فإذا انتهى الوهم، وكان العلم لجانب واحد، بأن دنا منك ورأيته بملابسه وتأكدت (99%) ونصف أنه رجل، والنصف الباقي احتمال أن تكون امرأة تلبس ملابس الرجل، لكن تأكد عندك أنه رجل، حين ذلك يكون علماً، والعلم مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فعلم اليقين الذي لا يقبل وهماً يطرأ عليه، ويمثلون بأن مسلمي روسيا أو واشنطن يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة، فهو يعتقد ويعلم بوجود الكعبة، فإذا قدر لهذا الإنسان أن جاء إلى مكة ووصل إلى المسجد الحرام ووقف عند الباب، ورأى البنية في وسط المسجد، فقال: ما هذه؟ قيل له: الكعبة، فهل يكون علمه وهو واقف في باب المسجد كعلمه وهو في بلده؟ لا. فعلمه علمه بها وهو يراها بعينه أقوى من علمه بها وهو في بلده، ثم جاء وطاف حولها زاد علماً، ثم فتحت الكعبة ودخل الناس ودخل معهم وصلى في جوف الكعبة، فعلمه بالكعبة هو في جوفها أقوى من علمه وهو واقف في الباب، هذا هو حق اليقين.

ما يجب على المحتسب تجاه الظن السيء

اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ وهو الوهم؛ لأنه لم يتمحض في باب العلم الحقيقي.

إذاً: لم يجتنبه، وأراد أن يمضي في الوهم، وأن ينتقل من الظن إلى العلم فذهب يتجسس، فوجد شيئاً أو ارتاب، عندها نجد أن القرآن ينهى عن التجسس، والسنة النبوية أيضاً نهت عن التجسس، (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً... وكونوا عباد الله إخوانا).

وننبه هنا على نقطة مهمة جداً، وهي: ما يختص بالإخوان الذين يرون في أنفسهم الأهلية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين نصبوا من طرف الإمام، والذين يقال لهم: أهل الحسبة، فالآمر والناهي إما محتسب -أي: منصب من جانب الإمام- وله سلطة من طرف الإمام، أو متطوع متبرع: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، وإذا ما أشيع عنده أو وقع عنده ظن ببيت فيه ما ينبغي الإنكار عليه لا يحق له شرعاً أن يذهب يتجسس ليتحقق من هذا الظن؛ لأن الله نهاه عن التجسس، كما يروي مالك في الموطأ: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله، فمن أبدى لنا صفحته أخذناه بها)، ويقول مجاهد رحمه الله: (خذوا ما ظهر لكم، واتركوا ما ستر الله عليه).

وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتاه، وقال: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، قال: (نهينا عن التجسس، إن يبدي لنا صفحته أخذناه بها).

وجاء عن كاتب عقبة بن عامر أنه قال له: (إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا ذاهب بالشرط ليأخذونهم، قال: لا تفعل وارجع وعظهم وانصحم وتهددهم، ولا تبلغ أمرهم إلى الشرط، فرجع ووعظهم وزجرهم، ثم رجع وقال: فعلت ولم ينتهوا، فإني ذاهب أستدعي لهم الشرط يأخذونهم، قال: لا تفعل، سمعت رسول الله يقول: (من ستر على مسلم خبأة -يعني: عيباً- كان كمن أحيا موءودة من قبرها)، هذا الحديث يذكره علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلماء الحسبة والدعوة، ويذكره الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب العلم، قال: إن أبا أيوب الأنصاري أخذ راحلته وذهب إلى مصر حتى أتى إلى الفسطاط، وجد محمد بن مسلمة وهو الأمير عليهم، قال: أين بيت عقبة ؟ قال: ما الذي جاء بك أزائرا أم لحاجة؟ قال: جئت لحاجة عنده، أرسل معي من يدلني على بيته، فذهب إليه فرأى عقبة -وهذا أنصاري، وأبو أيوب أنصاري- فقال له: إن أبا أيوب الأنصاري في الباب، فأسرع إليه ولقيه وعانقه وقال له: ما أتى بك يا أبا أيوب ؟ قال: جئت لأسمع منك حديثاً، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، فأردت أن أتثبت منه.

وانظروا: الهمة في طلب العلم: يرحل إلى القاهرة على بعيره في الصحراء، من أجل أن يسمع حديثاً كان قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال عليه العهد، وأراد أن يتثبته ممن سمعه معه وهو عقبة بن عامر - قال: جئت لحديث لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، وهو فيمن ستر على مسلم، قال: نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مسلم في الدنيا - وقد جاءت له ألفاظ متعددة- ستره الله يوم القيامة، أو كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ثم قال له: السلام عليك، ورجع إلى راحلته، وما أدرك أبو أيوب إلا في عريش مصر.

هكذا يقول الخطيب البغدادي في كتاب رحلة طلب العلم، ونحن نسمعكم لفتة بسيطة في طلب العلم، ونستطيع أن نقول: إن البعثات للدراسات الغير موجودة في البلد لا بأس بها ,وهذا أصل فيها، وهو أن نرحل لطلب العلم الغير موجود عندنا إذا كانت هناك خصوصيات أو اختصاصات والبلد بحاجة إليها وهي غير موجودة في بلد الإنسان فله أن يرحل إليها، ولكن.. هل إذا ذهب ليدرس يسترخي ويطمئن إلى الحياة هناك ويترك بلده ومهمته التي سافر من أجلها ويسكن في تلك البلاد؟ أو أنه يؤدي المهمة ويحصل على العلم الذي بعث له ويرجع به إلى بلده فينفع أهل بلده؟ هكذا أبو أيوب بعد ما سمع الحديث رجع إلى راحلته، وقال: جئت لقضاء حاجة وانتهت.

ويهمنا في هذا الحديث: (من ستر مسلماً) ويتفقون على روايات عن عمر كما جاء عن الزبير قال: (حرست أنا وعمر ليلة -وعمر رضي الله عنه كان يعس ليلاً في المدينة ويتسمع الأخبار، ويتعرف على حال الناس في الليل، وقد يتصدق بدون أن يعلم به أحد، وقد يعرف أخبار الناس- فقال عمر : هذا بيت فلان -سماه- مجافىً عليهم الباب، وهناك سراج ولغط وشرب فما ترى؟ فقال له الزبير : أرانا يا أمير المؤمنين أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله عن التجسس وقد تجسسنا، قال: فتركهم عمر وانصرف).

وعلى كل فإن الآمر النهي بالمعروف له ما ظهر وليس من حقه أن يتتبع بالتجسس فيفسد أحوال الناس ما دام الأمر مستتراً، بخلاف ما إذا ظهرت آثاره بأصوات أو روائح... إلخ؛ حينئذٍ لم يبق حيز الاستتار، فوجب تغييره لمن استطاع ذلك.

تحذير الإسلام من الغيبة

وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) )، تقدم البيان بأن الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه، كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن كان ما ذكرته فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)، والبهتان شيء عظيم، وبين المولى سبحانه صورة عملية مثالية، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ألا تكرهونه، وأحدكم هنا فرد يعم الجميع على سبيل البدل -أي: كل واحد من المجموعة- أن يأكل لحم أخيه ميتاً حتى لو كان حياً يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه.

وأشرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين ذكرا ماعزاً لما اعترف ورجم فقالا: (لم يرض بستر الله عليه حتى جاء واعترف حتى رجم رجم الكلب)، سمعها صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى مر بتيس أسك أو بحمار قد انتفخ فقال: (فلان وفلان ! قالا: نعم يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من هذه الميتة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، أتؤكل هذه الجيفة؟ -استعظما الأمر- قال: والذي نفسي بيده،للذي قلتما في أخيكم -أي: ماعز - أشد من أكلكما هذه الجيفة، والله إنه الآن ليرتع في بحبوحة الجنة).

لا ينبغي للإنسان أن يغتاب أخاه سواء كان عن عيب نشأ عن تجسس أو عن أمر ابتدائي، ومهما كان الأمر ولو كان إشارة باليد، كما جاء عن صفية رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً مع إحدى نسائه فمرت من أمامهما صفية ، فقالت: ما يعجبك منها؟ يكفيك أنها وأشارت بيدها -يعني: أنها قصير- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، والتعبير هنا بماء البحر دون ماء النهر لأن ماء النهر عذب، وأقل شيء يؤثر فيه، وماء البحر مالح لا يتأثر إلا بشيء غلب عليه، وكما يقولون: الماء المخلوط بالملح أو السكر يمنع أن يتشرب ما يدخل عليه من بكتيريا وغيره، فمثل بالبحر لبعد تأثره بما يقع فيه: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) فكيف بأكبر من ذلك: (فكرهتموه)؟!

بيان عظم رحمة الله ومغفرته

قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]، اتقوا الله: أي اتخذوا منه الوقاية بتلك الأمور التي من أولها: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) و(وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و(وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، لا تظنوا السوء بالناس، لا تجسسوا، لا يغتب بعضكم بعضاً، وتوبوا إلى الله من هذا كله، فاتقوا الله وخذوا الوقاية من عذاب الله، وقد أشرنا أن قوله: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ، يصح أن ترجع للمغتاب والذي وقعت عليه الغيبة، أو المتجسس والمتجسس عليه، أو الظان والمظنون فيه.

أنت تسخر منه لماذا؟ لضعفه. أنت تظن به السوء لماذا؟ لأنك تنقصته بما سمعت عنه.

أنت تتجسس عليه لماذا؟ لتصل إلى نقص العلم الذي عندك لتكمله؛ فإذا كان الأمر كذلك والمولى سبحانه تواب رحيم فقد يتوب على ذلك الذي سخرت منه بسبب ما يوجد فيه، سخرت منه لمعصية، قد يتوب الله عليه.

فإذا كان المولى يتوب عليه وتأتي أنت وتعاقبه، فلا حق لك في هذا، وترجع أيضاً للفاعل.. (توبوا) فالله تواب يقبل توبة التائبين عن كل هذه الآفات الأخلاقية أو الدينية، فـ: (تَوَّابٌ رَحِيمٌ)، يصح أن ترجع للمتنقص أمره والمتنقص الذي ارتكب تلك الآفات والآثام، والله تواب يقبل التوبة من عباده.. رحيم يكرم من تاب عليه بواسع رحمته، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً [النساء:48]، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل إنساناً عابداً جاهلاً، ثم أفتاه بعدم قبول توبته، فقتله وكمل به المائة -وهذه نتيجة الفتوى بغير علم- ثم عندما سأل عالماً قال له: إن تبت إلى الله فإنه يقبل توبتك -وهذا هو الفقه- ولكن أرى أن تخرج من هذه البلدة التي ارتكبت فيها تلك الآفات إلى بلدة أخرى فيها أناس صالحون يعبدون الله فتعبد الله معهم -وهذه نتيجة الجليس الصالح- فخرج تائباً إلى الله، فمات في نصف الطريق، اختصمت فيه الملائكة، والله سبحانه حكم بينهما، وقال: قيسوا الأرض التي خرج منها والأرض التي ذهب إليها، وانظروا إلى أيهما أقرب، وفي بعض الروايات: بأن الله زوى الأرض التي هو خارج إليها فكانت المسافة أقصر، فأخذته ملائكة الرحمة بحنوط إلى الجنة.

إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يعرض عن باب التوبة إلى الله ولو تكرر منه الذنب مراراً، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولو أنه ارتكب ما ارتكب ثم رجع بعزيمة صادقة من الذنوب ثم رجع بصدق، وتاب توبة، ثم رجع إلى الذنوب مرة أخرى، فرجع فتاب مرة أخرى وتاب نفس التوبة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه في كل مرة ما دام يفعل ذلك.

ثم في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] صيغة مبالغة. يعني: كثير التوبة على عباده واسع الرحمة بهم، والفرق بين الرحمان والرحيم: أن رحمان اسم فاعل، ورحيم صيغة مبالغة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله قسم رحمته مائة جزء، فأنزل جزءاً من تلك المائة إلى الأرض بها تتراحمون، وبها ترفع الدابة حافرها أن تضعه على ولدها رحمة به، وادخر تسعة وتسعين رحمة لرحمة العباد يوم القيامة)، ولذا يقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12] فلو قال: اجتنبوا بعضاً من الظن لكان هناك حرج؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد كيف يكون الاجتناب، لكن إذا اجتنبنا كثيراً من الظن تأكدنا من أننا اجتنبنا بعض الظن الذي فيه إثم، وهذه فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ولهذا نرى الفقهاء في مواطن التحديد في العبادات يطلبون الزيادة عن الحد للتأكد من استيعاب المحدود، فمثلاً: في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6]، يقولون: حد الوجه من منبت الشعر طولاً من الجبهة إلى أسفل الذقن، لكن يقولون: ينبغي أن يزيد في منبت الشعر جزءاً بحيث أنه يتأكد بأنه استوعب الوجه كله، وكذلك في صوم رمضان في قوله سبحانه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، يقول الفقهاء: ينبغي أن يمسك قبل أن يتبين ولو بلحظات ليتأكد أن إمساكه وقع في جزء من الليل، وأن كامل النهار سلم من أن يأكل أو يشرب فيه، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ، يكون إتمام الصيام إلى ما بعد نقطة الصفر من غروب الشمس، ليتأكد أنه استوعب النهار كاملاً بالإمساك، أما إذا جاء عند نقطة الصفر بالذات يمكن أن يكون أخذ جزءاً من النهار في أكله وشربه، فيكون ذلك إبطالاً لصيامه، لذلك لا يتم الصيام الواجب إلا بإتمامه وهو أخذ جزء من آخر الليل من الصباح، وأخذ جزء من أول الليل عند الغروب ليتأكد ؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، وهذه الآية الكريمة تدل على ذلك: اجتنبوا الكثير؛ لأن القليل إثم، ولا نستطيع أن نتجنب القليل إلا إذا تجنبنا ما هو أكثر منه، حتى نتأكد أننا استوعبنا القليل الذي فيه الإثم.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحجرات [2 - ب] 2755 استماع
تفسير سورة الحجرات [3 - ب] 2390 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - ب] 2244 استماع
تفسير سورة الحجرات [5 - أ] 2223 استماع
تفسير سورة الحجرات [5 - ب] 2158 استماع
تفسير سورة الحجرات [2 - أ] 2045 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - ب] 1870 استماع
تفسير سورة الحجرات [3 - أ] 1742 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - أ] 1683 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - أ] 1620 استماع