خطب ومحاضرات
تفسير سورة الحجرات [5 - أ]
الحلقة مفرغة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
ما زالت سورة الحجرات تنتقل في آداب الجماعة: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا [الحجرات:9]، ثم بيّن الدافع والواجب لهذه المسئولية فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ثم نهى عن بواعث القتال، أو نهى عن مخلفات القتال فقال: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11] ، قد تسخر الطائفة القوية من الضعيفة، أو الأغنياء من الفقراء.
ثم بعد ذلك ذكر الأدب في معاملات الناس بالألفاظ، واحترام الشخصية بعدم اللمز ولا الغمز، ثم اجتناب الظنون، ثم النهي عن التجسس، ثم النهي عن الغيبة وانتهى من هذا إلى القاعدة التي يرد إليها عنصر التفاخر أو التعالي أو الافتخار بين الناس، والأصل في ذلك أن يفتخر بنسبه وبحسبه، ولكن تلك المفاخر النسبية لا مكان لها؛ لأن أصل خلقة الجميع من ذكر وأنثى، ثم إن كان هناك ولابد من تفاخر فالأصل سواء، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
لماذا تتفاخر على أخيك وأنتما مشتركان في أصل الإيجاد، وهو: الماء والطين؟!
إذاً: لا يتفاضل على نفسه إلا بصفات أخرى: تلك الصفات تكون خصوصية في الأفراد يختصهم الله بها، كما جاء في قول الشاعر:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
فالدم من حيث هو جنس، ولكن المسك هو جزء من دم الغزال، انعقد في حلمته أو في الأنبوب الذي يتدلى عند حلقه، فينعقد فيه دم الغزال ويتحول إلى مسك، فهو بعض الدم ولكن فاقه، وهذا في امتداح الممدوح، وأصدق ما يكون على النبي صلى الله عليه وسلم.
كم من أب علا بابن ذرا حسباً كما علت برسول الله عدنان
كم من أب افتخر وارتفعت مكانته بابنه. أي: أن الأصل يفتخر بالفرع على خلاف العادة، والعادة أن الفرع يفتخر بالأصل، ولكن في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم انعكست المسألة؛ فيفتخر الآباء بالأبناء، فتفتخر عدنان كلها بما فيها من القبائل والفخوذ والشعوب بذلك.
حكم المصاهرة مع فوارق الأنساب
وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، فيقولون: حفظ النسب مطلوب لصلة الرحم.
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، قال: هذا عند الله، أما عندنا نحن وعند الناس وفي الدنيا لا؛ فلا يزوجون من لا يعرف انتسابه إلى قبيلة بعينها، ويفرقون بين هذا وذاك، فمن ثم وجدت تلك الطائفية أو هذا التقسيم في بني البشر، فلربما يأتي إنسان ويأخذه الحماس ويقول: هذا خطأ وهذا باطل، وهذا لا أصل له، والله يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وفي الحديث: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، والآن: إذا جاء من نرضى دينه وخلقه مع كونه نسيباً نزوجه، أما إذا كان ممن نرضى دينه وخلقه وليس نسيباً فلا نزوجه، وهذا مخالفة لظاهر الحديث.
أيها الإخوة! إذا جاء إنسان يخطب وهو لا يُعرف ما صلة نسبه إلى قبيلة سوى؛ (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وجاء يخطب ابنة إنسان نسيب في قبيلته، فهل يتعين ويجب على المخطوب من عنده أن يزوجه، أم أن له الحق في أن يرفض، ولو كان من قبيلة أعلى من قبيلته ولكنه لا يريد أن يزوجه، فهل هو ملزم أم أن له الاختيار؟
الواقع أن له الاختيار. وما دام له الاختيار فيما لو تساوى معه في النسب الذي يتمسك فله الاختيار في غيره كذلك، ومعادات الناس ومحاربتهم فيها يجب أن ينظر فيها إلى النتيجة التي تترتب على ذلك، وخاصة في المباحات.
مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الناس في بناء الكعبة
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي النتائج في المستقبل، فحينما حج صلى الله عليه وسلم ومعه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (أريد أن أصلي في الكعبة -أي: داخلها- فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا فإنه من البيت)، فلما صلت سألت: كيف يكون من البيت وهو خارج عنه؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قومك حينما أرادوا بناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فاحتجروا هذا الجزء وأقاموا البيت على قواعد إبراهيم من القسم الثاني، وقصروا البناء على هذا الحد على قدر نفقتهم، ثم حجروه بهذا الجدار)، ولهذا سمي الحجر حجراً لكونه محجوراً داخل هذا السور، ولذا تسمى الغرفة في داخل البيت السفلي: حجرة، والعلية تسمى غرفة لارتفاعها.
فهنا سألته عائشة: لماذا لم يدخلوه في البيت؟ فبين لها السبب، وهو ناحية مادية، أنهم قصرت بهم النفقة، لا لعجز ولكنهم كانت يحتاجون إلى عملة صعبة بالنسبة إليهم، وهي المال الحلال الذي لم يدخله شبهة؛ لأنهم كانوا يجمعون إلى مكاسبهم حلوان الكاهن، ومهر البغي، والربا، وهم يعلمون بأن هذا ممنوع، لكن كانوا يدخلونه في كسبهم، فلما أرادوا بناء الكعبة قالوا: هذا بيت الله، ولا يمكن أن نبني بيت الله بمال فيه شبهة، وهذا مبدأ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). فهل تبني بيت الله بما حرم الله؟! لا يجوز هذا.. تسرق ثوب وتذهب تطوف بالبيت وأنت سارق لهذا الثوب؟! تسرق ثوب جارك ويعزمك في وليمة فتأتي وأنت لابس للثوب الذي سرقته من عنده فهذا تحدٍ.
قالت: (فما بالهم جعلوا باب البيت مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، من أعطاهم أجرهم أدخلوه، ومن لم يعطهم ولم يرضهم ركلوه بأرجلهم فسقط، ولولا حداثة قومك بكفر -وهذا محل الشاهد- لهدمت البيت، ولبنيته على قواعد إبراهيم -يعني: أدخلت فيه الحجر- ولجعلت له بابين، باب للداخل وباب للخارج)، وقد حدث هذا التنظيم في المسجد النبوي، ووضع الباب الذي يسمى باب النساء، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر الناس وكن النسوة يأتين لصلاة الجماعة عند رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن لا يتعجلوا بالانصراف حتى ينصرف النساء قبلهم، ويذهبن إلى بيوتهن، فلما كثر الأمر وطال على الرجال الانتظار، قال: (لو جعلتم لهن باباً)، فجعل لهن باب النساء، وكان في مؤخرة المسجد بالنسبة لحدوده من جهة الشمال، فكان هذا الباب الذي إلى الآن يسمى باب النساء بجوار باب جبريل عليه السلام.
فهنا خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء باباً يدخلن ويخرجن منه حتى لا يزاحمن الرجال في بقية الأبواب، وهناك يقول صلى الله عليه وسلم: (لبنيت البيت على قواعد إبراهيم، ولسويت بابه بالأرض، وجعلت له بابين؛ باب للداخل وباب للخارج)، ولو أن الناس اليوم في كل تلك الأبواب خصصوا للدخول فتحات وفتحات للخروج ما تزاحم الناس على الأبواب، وقبل سنوات حصل تزاحم عند باب السلام، وتسبب في وفيات.
إذاً: التنظيم من حيث الدخول والخروج مبدأ إسلامي، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويهمنا في هذه القضية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون البيت على قواعد إبراهيم، وأن تكون الأبواب مساوية للأرض حتى يتمكن كل من أراد الدخول أن يدخل، ويكون هناك بابان للداخل وللخارج لكن... ما الذي منعه أن يفعل ذلك؟
ترك ما يرغب فيه مخافة ما سيحدث من الفتنة: (إن قومك حديثو عهد بكفر) فهم لازالوا جدد، فإذا هدمت الكعبة وغيرت على ما كانت عليه، قالوا: هدم وغير وبدل، فيحصل في نفوسهم بعض الشيء، فترك هذا العمل.
ولما جاء ابن الزبير وبويع في مكة لما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنهم أجمعين كان قد سمع من خالته عائشة رضي الله عنها وصف رسول الله للبيت، فقام وعمل ذلك، وهدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر، وجعل له بابين مساويين للأرض، ولما جاء الحجاج ، وقتل ابن الزبير ، وكان ما كان وراعى أن يعيد البيت على ما كان عليه من قبل، فبناه على ما كان عليه قبل الإسلام، وأخرج الحجر على ما كان، ولما زادت حجارة البيت لاختصاره، حار ما يفعل به، وهي حجارة مختصة بالبيت لا يستطيع أن يبيعها لأنها وقف، ولا يسمح لأحد باستعمالها، فأرسل إلى أسماء أم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع رسولاً، وقال: اذهب فسلها ماذا نفعل فيما بقي من الحجارة؟
انظروا إلى الاعتراف والإقرار لأهل الفضل ولو كانوا أعداء! قتل وصلب ولدها، ثم يرسل إليها يستشيرها، وحينئذٍ ما خانته المشورة، بل أشارت عليه بالصواب، ولكن بعبارة أرجفت الرسول وخاف أن ينقلها، فقالت: (ليضعها في فيه) فرجع الرسول.. وليس في ذاك الذكاء كـالحجاج ، فما استطاع أن ينطق، فقال الحجاج: قل ما قالت ولا عليك، فقال: قالت ما لا أستطيع أن أنطق به، قال: انطق به ولا عليك، قال تقول: يضعه في فيه، قال: صدقت هو خير مكان لها هي تعني: في فم البيت؛ لأن البيت جعل له باب مرتفع، وأصبح من الداخل مجوفاً إلى ارتفاع -عتبة الباب الأعلى- ما كان عليه من قبل، فأخذ الحجارة الزائدة وأدخلها في الكعبة، ورصها حتى سوات الباب الذي وضعه وأعاده على ما كان وهو ما عليه اليوم.
ولما جاء الرشيد إلى مالك وحصلت مناقشته في الموطأ وما يتبع ذلك، سأل الرشيد مالكاً واستنصحه واستشاره: إني أريد أن أعيد البيت على بناية ابن الزبير ، تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أيضاً يأتي نظر مالك إمام دار الهجرة ويصدق عليه قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، والبصيرة دون البصر؛ لأن البصر يرى المحسوسات المواجهة، والبصيرة ترى ما لا يرى المحسوس، وتستنتج بالفراسة نتائج الأمر لو حصل ماذا يكون. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال: ولم وأنا أنفذ رغبة رسول الله، وأعيد ما فعله ابن الزبير ، قال: لا تفعل، إني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك.
الحجاج لماذا أعاد الكعبة على ما كانت عليه؟ لأنه شكل ووضع مات عنه رسول الله ويجب أن يبقى على ما كان عليه، ولم يلتفت إلى الوصف الذي جاء، وهنا مالك يقول: أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. يأتي واحد بعدك يقول: لا. يجب أن تعاد الكعبة على ما كانت عليه في حياة رسول الله، ويعيدها، ويأتي الآخر فيخشى أن تتزحزح الكعبة عن مكانها، ولهذا منع مالك الرشيد أن يعيدها على الوصف الذي أراده رسول الله، اتقاء للشر، وهذا ما يسمى في علم الأصول: سد الذرائع: (ترك ما لا بأس فيه مخافة ما فيه بأس).
مراعاة الشرع لعادات الناس
ثم ذهبوا إلى الشيخ محمد بن إبراهيم ، فقال له: إن ما قمت وفعلته حق فيما بينك وبين الله، وهذا شرع الله، والرسول قال لبني فلان: زوجوا فلاناً -وكان حجاماً- فأبوا أن يزوجوه، والرسول صلى الله عليه وسلم زوج زينب ابنة عمته وهي في الذروة من النسب إلى أسامة ، وأبوه كان مولى، وأعتق فتبناه.. إلى غير ذلك، ثم انتهى الأمر إلى الطلاق، لكن ماذا تفعل في قومك وهم مستعدون أن يضحوا بك، وبضيفك؟ وهل أنت مفرط في صديقك، وهل ترضى أن يقع له ذلك؟ كما أن الحكومة لا تستطيع أن تمنعهم، ولا تستطيع أن تحميك ولا أن تحمي زميلك من هذا، فهذه الأمور ليس بالفرض اللازم الواجب أن يتزوج هذا الإنسان بتلك الفتاة، وممكن أن يتزوج غيرها، فدع عنك الفتنة وإثارتها فيما بينك وبين قومك وأهلك.
فحينئذٍ طلق تلك الفتاة، وانتهت المشكلة ورجع كل إلى حاله.
نذكر هذا يا إخوان؛ لأنه ربما أن تقع بعض الفتن أو الاعتراضات أو الشقاق بسبب ذلك، وطلبة العلم يتنازعون ويدعون بأن هذا هو الأصل، ويجب أن تلغى كل الاعتبارات المغايرة لذلك.
نقول: لا بأس، هو مقصد ونقول: هو مما تحكمت فيه العادات، لكن لا نستطيع أن نغفلها أو أن نميتها، أو أن نمنعها.
إذاً: ينبغي النظر في النتائج، كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم في النتائج لو أنه هدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وكما نظر مالك رحمه الله فيما لو أذن للرشيد أن يعيد البناء على ما حدث به عن رسول الله.
هذا الذي أحببت أن أنبه عليه في مفهوم هذه الآية فيما يتمسك به البعض في قضية معينة.
أما بقية القضايا والعلاقات فكما قال سبحانه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، عليم بمن يدعي التقوى والأصالة والقبيلة.. عليم بحاله وبسره وعلنه، خبير بداخلته وظاهره، والله تعالى أعلم.
في هذا المقام نحب أن ننبه على قضية اجتماعية لها خطرها في المجتمعات، وهي: خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، أي: متساوون في الخلقة، ونظام التكارم أو المكارمة ليس في تلك الأنساب؛ لأن مردها إلى نسب واحد، ولكن حقيقة المكارمة في البشر إنما هي بالتقوى، (أتقاكم.. أكرمكم)، في هذه القضية نجد بعض الناس فيما يتعلق بالأنساب والزواج يتشددون، ويفرقون بين جماعة أو طائفة من الجماعة وطائفة أخرى، فإذا كان النسب مسلسلاً إلى قبيلة من القبائل؛ فلا يزوج إلا من كان كذلك مسلسلاً نسبه إلى قبيلة من القبائل، ويقولون: نريد أن نحفظ أنسابنا.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، فيقولون: حفظ النسب مطلوب لصلة الرحم.
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، قال: هذا عند الله، أما عندنا نحن وعند الناس وفي الدنيا لا؛ فلا يزوجون من لا يعرف انتسابه إلى قبيلة بعينها، ويفرقون بين هذا وذاك، فمن ثم وجدت تلك الطائفية أو هذا التقسيم في بني البشر، فلربما يأتي إنسان ويأخذه الحماس ويقول: هذا خطأ وهذا باطل، وهذا لا أصل له، والله يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وفي الحديث: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، والآن: إذا جاء من نرضى دينه وخلقه مع كونه نسيباً نزوجه، أما إذا كان ممن نرضى دينه وخلقه وليس نسيباً فلا نزوجه، وهذا مخالفة لظاهر الحديث.
أيها الإخوة! إذا جاء إنسان يخطب وهو لا يُعرف ما صلة نسبه إلى قبيلة سوى؛ (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وجاء يخطب ابنة إنسان نسيب في قبيلته، فهل يتعين ويجب على المخطوب من عنده أن يزوجه، أم أن له الحق في أن يرفض، ولو كان من قبيلة أعلى من قبيلته ولكنه لا يريد أن يزوجه، فهل هو ملزم أم أن له الاختيار؟
الواقع أن له الاختيار. وما دام له الاختيار فيما لو تساوى معه في النسب الذي يتمسك فله الاختيار في غيره كذلك، ومعادات الناس ومحاربتهم فيها يجب أن ينظر فيها إلى النتيجة التي تترتب على ذلك، وخاصة في المباحات.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يراعي النتائج في المستقبل، فحينما حج صلى الله عليه وسلم ومعه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (أريد أن أصلي في الكعبة -أي: داخلها- فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا فإنه من البيت)، فلما صلت سألت: كيف يكون من البيت وهو خارج عنه؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (إن قومك حينما أرادوا بناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فاحتجروا هذا الجزء وأقاموا البيت على قواعد إبراهيم من القسم الثاني، وقصروا البناء على هذا الحد على قدر نفقتهم، ثم حجروه بهذا الجدار)، ولهذا سمي الحجر حجراً لكونه محجوراً داخل هذا السور، ولذا تسمى الغرفة في داخل البيت السفلي: حجرة، والعلية تسمى غرفة لارتفاعها.
فهنا سألته عائشة: لماذا لم يدخلوه في البيت؟ فبين لها السبب، وهو ناحية مادية، أنهم قصرت بهم النفقة، لا لعجز ولكنهم كانت يحتاجون إلى عملة صعبة بالنسبة إليهم، وهي المال الحلال الذي لم يدخله شبهة؛ لأنهم كانوا يجمعون إلى مكاسبهم حلوان الكاهن، ومهر البغي، والربا، وهم يعلمون بأن هذا ممنوع، لكن كانوا يدخلونه في كسبهم، فلما أرادوا بناء الكعبة قالوا: هذا بيت الله، ولا يمكن أن نبني بيت الله بمال فيه شبهة، وهذا مبدأ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً). فهل تبني بيت الله بما حرم الله؟! لا يجوز هذا.. تسرق ثوب وتذهب تطوف بالبيت وأنت سارق لهذا الثوب؟! تسرق ثوب جارك ويعزمك في وليمة فتأتي وأنت لابس للثوب الذي سرقته من عنده فهذا تحدٍ.
قالت: (فما بالهم جعلوا باب البيت مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، من أعطاهم أجرهم أدخلوه، ومن لم يعطهم ولم يرضهم ركلوه بأرجلهم فسقط، ولولا حداثة قومك بكفر -وهذا محل الشاهد- لهدمت البيت، ولبنيته على قواعد إبراهيم -يعني: أدخلت فيه الحجر- ولجعلت له بابين، باب للداخل وباب للخارج)، وقد حدث هذا التنظيم في المسجد النبوي، ووضع الباب الذي يسمى باب النساء، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما كثر الناس وكن النسوة يأتين لصلاة الجماعة عند رسول الله، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن لا يتعجلوا بالانصراف حتى ينصرف النساء قبلهم، ويذهبن إلى بيوتهن، فلما كثر الأمر وطال على الرجال الانتظار، قال: (لو جعلتم لهن باباً)، فجعل لهن باب النساء، وكان في مؤخرة المسجد بالنسبة لحدوده من جهة الشمال، فكان هذا الباب الذي إلى الآن يسمى باب النساء بجوار باب جبريل عليه السلام.
فهنا خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء باباً يدخلن ويخرجن منه حتى لا يزاحمن الرجال في بقية الأبواب، وهناك يقول صلى الله عليه وسلم: (لبنيت البيت على قواعد إبراهيم، ولسويت بابه بالأرض، وجعلت له بابين؛ باب للداخل وباب للخارج)، ولو أن الناس اليوم في كل تلك الأبواب خصصوا للدخول فتحات وفتحات للخروج ما تزاحم الناس على الأبواب، وقبل سنوات حصل تزاحم عند باب السلام، وتسبب في وفيات.
إذاً: التنظيم من حيث الدخول والخروج مبدأ إسلامي، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويهمنا في هذه القضية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون البيت على قواعد إبراهيم، وأن تكون الأبواب مساوية للأرض حتى يتمكن كل من أراد الدخول أن يدخل، ويكون هناك بابان للداخل وللخارج لكن... ما الذي منعه أن يفعل ذلك؟
ترك ما يرغب فيه مخافة ما سيحدث من الفتنة: (إن قومك حديثو عهد بكفر) فهم لازالوا جدد، فإذا هدمت الكعبة وغيرت على ما كانت عليه، قالوا: هدم وغير وبدل، فيحصل في نفوسهم بعض الشيء، فترك هذا العمل.
ولما جاء ابن الزبير وبويع في مكة لما وقعت فتنة عثمان رضي الله عنهم أجمعين كان قد سمع من خالته عائشة رضي الله عنها وصف رسول الله للبيت، فقام وعمل ذلك، وهدم الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم، وأدخل الحجر، وجعل له بابين مساويين للأرض، ولما جاء الحجاج ، وقتل ابن الزبير ، وكان ما كان وراعى أن يعيد البيت على ما كان عليه من قبل، فبناه على ما كان عليه قبل الإسلام، وأخرج الحجر على ما كان، ولما زادت حجارة البيت لاختصاره، حار ما يفعل به، وهي حجارة مختصة بالبيت لا يستطيع أن يبيعها لأنها وقف، ولا يسمح لأحد باستعمالها، فأرسل إلى أسماء أم عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عن الجميع رسولاً، وقال: اذهب فسلها ماذا نفعل فيما بقي من الحجارة؟
انظروا إلى الاعتراف والإقرار لأهل الفضل ولو كانوا أعداء! قتل وصلب ولدها، ثم يرسل إليها يستشيرها، وحينئذٍ ما خانته المشورة، بل أشارت عليه بالصواب، ولكن بعبارة أرجفت الرسول وخاف أن ينقلها، فقالت: (ليضعها في فيه) فرجع الرسول.. وليس في ذاك الذكاء كـالحجاج ، فما استطاع أن ينطق، فقال الحجاج: قل ما قالت ولا عليك، فقال: قالت ما لا أستطيع أن أنطق به، قال: انطق به ولا عليك، قال تقول: يضعه في فيه، قال: صدقت هو خير مكان لها هي تعني: في فم البيت؛ لأن البيت جعل له باب مرتفع، وأصبح من الداخل مجوفاً إلى ارتفاع -عتبة الباب الأعلى- ما كان عليه من قبل، فأخذ الحجارة الزائدة وأدخلها في الكعبة، ورصها حتى سوات الباب الذي وضعه وأعاده على ما كان وهو ما عليه اليوم.
ولما جاء الرشيد إلى مالك وحصلت مناقشته في الموطأ وما يتبع ذلك، سأل الرشيد مالكاً واستنصحه واستشاره: إني أريد أن أعيد البيت على بناية ابن الزبير ، تنفيذاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أيضاً يأتي نظر مالك إمام دار الهجرة ويصدق عليه قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، والبصيرة دون البصر؛ لأن البصر يرى المحسوسات المواجهة، والبصيرة ترى ما لا يرى المحسوس، وتستنتج بالفراسة نتائج الأمر لو حصل ماذا يكون. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، قال: ولم وأنا أنفذ رغبة رسول الله، وأعيد ما فعله ابن الزبير ، قال: لا تفعل، إني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك.
الحجاج لماذا أعاد الكعبة على ما كانت عليه؟ لأنه شكل ووضع مات عنه رسول الله ويجب أن يبقى على ما كان عليه، ولم يلتفت إلى الوصف الذي جاء، وهنا مالك يقول: أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك. يأتي واحد بعدك يقول: لا. يجب أن تعاد الكعبة على ما كانت عليه في حياة رسول الله، ويعيدها، ويأتي الآخر فيخشى أن تتزحزح الكعبة عن مكانها، ولهذا منع مالك الرشيد أن يعيدها على الوصف الذي أراده رسول الله، اتقاء للشر، وهذا ما يسمى في علم الأصول: سد الذرائع: (ترك ما لا بأس فيه مخافة ما فيه بأس).
استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الحجرات [2 - ب] | 2755 استماع |
تفسير سورة الحجرات [3 - ب] | 2390 استماع |
تفسير سورة الحجرات [1 - ب] | 2244 استماع |
تفسير سورة الحجرات [5 - ب] | 2158 استماع |
تفسير سورة الحجرات [4 - ب] | 2143 استماع |
تفسير سورة الحجرات [2 - أ] | 2045 استماع |
تفسير سورة الحجرات [6 - ب] | 1871 استماع |
تفسير سورة الحجرات [3 - أ] | 1742 استماع |
تفسير سورة الحجرات [6 - أ] | 1684 استماع |
تفسير سورة الحجرات [1 - أ] | 1620 استماع |