أرشيف المقالات

ظلم الإنسان لأخيه الإنسان

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
ظلم الإنسان لأخيه الإنسان
 
تُعاني البشرية في هذا العصر- وفي كل عصر- من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؛ بل إنه منذ فجر التاريخ قتلَ ابْنُ آدم أخاه ظلمًا وعدوانًا، ودون أي جريرة، وقد ذكر الله لنا هذا لنتَّعِظ، وأنَّى لنا الذكرى؟! ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30].
 
وتتعدَّد صور هذا الظُّلْم من الإنسان لأخيه الإنسان، فهو واقع تُعاني منه الإنسانية، وهذا الظلم يقوده صِنْفٌ معينٌ من البشر، لا يستريحون إلا بظُلْمهم لإخوانهم من البشر.
 
إنها ظاهرة مؤلمة تُؤرِّق حياة الناس، جعلها الله فتنةً لهم في هذه الحياة الدنيا، وقد وصف الله لنا جانبًا من هذا الظلم، يقوم به البعض تجبُّرًا منهم على غيرهم، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].
 
فتجد هذا الصِّنْف من الناس مِن حولك في كل بقاع الأرض، وفي كل زمان، تجدهم في كل مؤسسة، وفي كل حيٍّ، وفي كل تجمُّع، وفي كل نجع أو قرية أو مدينة أو قُطْر، أو على مستوى العالم.
 
وصفهم الله بأنهم أكابر، فهم يتكبَّرون على غيرهم بغير وجه حقٍّ، كما أنَّهم أصحاب إجرام؛ بل إنهم أجرم أناس في هذا المكان، ويستخدمون المكر والخداع والكذب والافتراء للوصول إلى مُرادِهم، فقد كبر جرمهم، واشتدَّ طغيانهم بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان.
 
فتلك طبيعة الحياة في كل عصر؛ أن يكون هؤلاء أشدَّ ظُلْمًا للناس وللصالحين منهم بالأخصِّ، كما أنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في فجورهم، فيكونون عصابات الإجرام وحاشية الظُّلْم معهم.
 
ويظن هؤلاء أنهم عِلْية القوم وخيارهم بصنيعهم وبمكرهم؛ ولكنهم لا يشعرون ببلاهتهم وجهالتهم بما يفعلونه، فهو نقمة عليهم.
 
إنها سنة جارية، ومعركة محتومة في الحياة الدنيا قدَّرها الله.
 
إن هؤلاء يسعون في الأرض فسادًا، ويَدَّعُون أنهم مصلحون ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
 
مثل هؤلاء ترى الفرد منهم يتحدَّث، فيُصوِّر لك نفسَه خلاصةً من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرُّد، ومن الحب، ومن الترفُّع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس، هذا الذي يُعجبك حديثه، تُعجبك ذلاقة لسانه، وتُعجبك نبرة صوته، ويُعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح، وإلى جانب ذلك يُقسِم بالله على أنه صادق زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرُّد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله، وقلبه كُلُّه ضغينة وشرٌّ.
 
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان، وعندما يتولَّى المنصب يتلقَّى الرشوة، ويُكوِّن عصابات الموالين له؛ للنهب والفساد وتحقيق أكبر نفع له قبل ترك هذا المكان.
 
وإذا قلت له: اتَّقِ الله، أنكر أن يُقال له هذا القول، واستكبر أن يُوجَّه إلى التقوى، وأخَذَتْه العِزَّةُ بالإثم، ورفع رأسه في وجه الحق! وينتقم منك لمجرد تذكيره بالتقوى!
 
إن هذا النموذج من الظُّلْم حَيٌّ يتحرَّك، تراه بعينك فتقول في غير تردُّد: هذا هو الظلم، هذا هو الظلم الذي نراه في كل مؤسسة! وأنت تراه أمامك ماثلًا في الأرض الآن وفي كل آن!
 
والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصِّنف من الناس، ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يُعجبه من هذا الصِّنْف النكد ما يُعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر، وتخفى عليهم السرائر.
 
مثل هؤلاء هم الذين يتولَّون المناصب، وتُفتَح لهم أبواب الرشوة والحظوة والمدح، ويتقلَّبُون فيها، ويظنُّون أنهم في مَأْمَنٍ من مَكْر الله.
 
أيها المسلم، لا تنخدع بهؤلاء، فخاتمتهم ذليلة ﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206].
 
لا تسير في موكبهم وتكون من أتباعهم، ولا تُقلِّدْهم في سلوكهم، ولا تتمنَّى ما هم فيه، فاعلم أن الله خادعهم، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20]، ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].
 
ونختم بقول موسى لقومه: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير