تفسير سورة الحجرات [1 - ب]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، والتي تليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2]، إلى آخر الآية.

وهنا يأتي قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [الحجرات:3].

في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا)، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي.

ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم.

ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا)، وعكس رفع الصوت غضه.

فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم)؛ فحالاً يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ).

ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه.

والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له.

حالات جواز رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا)، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ).

إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه وسلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).

وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه وسلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا.

والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.

الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه وسلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ثم قال للعباس : (نادي أصحاب السمرة).

والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.

إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3].

الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئاً، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكاً كالزئبق.

والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصاً، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلاً إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلباً صالحاً للاستعمال.

ونحن نسمع: عيار (21)، وعيار (18)، وعيار (20)، فكيف يتوصلون لذلك؟

في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلاً- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟- فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا. بقدر ما فيه من ذهب خالص.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.

إذاً: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.

بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصاً صافياً إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكراماً وإجلالاً له، كما قيل:

أهابكِ إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها

فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيراً ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

مغفرة الله لذنوب المؤمنين

قال الله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، إذا كان عظيم يستعظم شيئاً: أيكون هذا الشيء بنفسه عظيماً أم حقيراً؟ العظيم لا يستعظم الحقير. لو أن الحقير استعظم شيئاً نقول: صحيح؛ لأنه أعظم منه؛ لأنه حقير، لكن عظيم يستعظم شيئاً معناه: أن ذلك الشيء هو في ذاته عظيم، فإذا كان المولى يقول: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، لا يقدر قدر هذا الأجر الذي استعظمه الله إلا الله، ويكفي في وصف الجنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).

والمغفرة: الستر، ومنه المِغفر الذي يغطي به الفارس رأسه عند القتال، فالمغفرة وغفران الذنوب هو تغطيتها وسترها، والعفو إزالتها ومحوها نهائياً.

فهؤلاء الصنف من الناس الذين تأدبوا بأدب القرآن، وأصبحوا يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم هذا الأجر العظيم.

وتعقيباً على ما تقدم عند السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على الإنسان أن يغض من صوته ولا يرفعه، وسيأتي بيان خلاف ذلك، وماذا قال الله تعالى فيمن يفعل ذلك.

وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا)، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ).

إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه وسلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).

وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه وسلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا.

والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.

الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه وسلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، ثم قال للعباس : (نادي أصحاب السمرة).

والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.

إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [الحجرات:3].

الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئاً، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكاً كالزئبق.

والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصاً، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلاً إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلباً صالحاً للاستعمال.

ونحن نسمع: عيار (21)، وعيار (18)، وعيار (20)، فكيف يتوصلون لذلك؟

في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلاً- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟- فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا. بقدر ما فيه من ذهب خالص.

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.

إذاً: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.

بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصاً صافياً إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكراماً وإجلالاً له، كما قيل:

أهابكِ إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها

فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيراً ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.