تفسير سورة الحجرات [1 - أ]


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:1-5].

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فقد تقدم أيها الإخوة الكرام الكلام على هذه السورة الكريمة في مدة زيارة الزائرين في موسم الحج، ولم نكمل الحديث عنها، وفي بداية هذه السورة الكريمة وفي استئناف الحديث عنها نجمل ما تقدم ليرتبط الماضي بالحاضر:

تقدم في أول الحديث عنها تنبيه على مدى ربط سور القرآن بعضها ببعض، وهذا جانب عظيم في التفسير الكريم؛ إذ نلحظ جميعاً بيسر وسهولة ربط ما بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، وكذلك قصار السور، يظهر ذلك الربط لقصر السور ولوحدة الموضوع فيها.

فتجد في سورة الفاتحة بعد المقدمة بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتكريمه، والاعتراف له بالربوبية وإفراده بالعبودية والاستعانة يأتي قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهذا أعظم طلب يطلبه العبد لأنه يتعلق بأعظم مطلوب؛ لما فيه من سعادة الدنيا والآخرة، وتأتي سورة البقرة بعدها بعد مقدمة قصيرة (بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].

فكأنه الجواب على السؤال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، فيقول تعالى: هذا الكتاب هو الهدى الذي تسألونه فالزموه.

وكذلك نجد الربط بين سورة الحجرات وما قبلها وهي سورة الفتح؛ حيث تتحدث أواخر سورة الفتح على ما وقع في صلح الحديبية، فلما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينه وبين المشركين في المفاوضة على الرجوع والتحلل في مكانهم ثم العودة بعمرة أخرى من عام قابل، وعظم ذلك وشق على أصحابه أنهم لم يدخلوا مكة، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أعطى وعداً حتى قال: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).

وكان المولى سبحانه وتعالى أراد بهذا الصلح الفتح المبين، وذلك لما سأل عمر رضي الله تعالى عنه أبا بكر عما جاء في الاتفاقية مما ظاهره الحيف والهضم للحق، وإملاء القوي على الضعيف، حيث جاء في الصحيفة: إذا أتانا منكم أحد مرتد عن دينه فلا نرده عليكم، وإذا أتاكم أحد مسلم بدون إذن أهله رددتموه علينا.

فقال عمر لـأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إلزم غرزه إنه رسول الله.

والكل يعلم أنه رسول الله، ولكن المراد بذلك لازم الخبر، فقد عمر يعلم أنه رسول الله، وقد آمن به رسولاً من عند الله، ولكن يريد أبو بكر مقتضى ذلك: وهو أنه يتبع الله فيما يوحي به إليه فالزمه.

فذهب عمر إلى رسول الله، وعرض عليه ما عرض على أبي بكر ، وسمع من رسول الله مثل الذي سمع من أبي بكر : (يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً)، يقول عمر : فوالله ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق أكفر عن تلك الكلمة؛ لأنني تقدمت بين يدي الله ورسوله باقتراح ما كان لي أن أتقدم به.

ولما أمرهم بالتحلل وحلق الشعر ونحر الهدي، توانوا وكأنهم يتطلعون إلى حل آخر، ودخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة مغضباً، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: (وما لي لا أغضب وأنا آمر أمراً فلا أُتبع، قالت: يا رسول الله! قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس).

فما إن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا وتسابق القوم بالنحر والحلق، وأيقنوا أنه ليس هناك حل آخر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أمامهم.

فتأتي آخر السورة: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ [الفتح:27]، لأنهم قالوا: ألم يعدنا رسول الله أنا نأتي البيت؟ فقال لهم أبو بكر : نعم، ونحن آتوه، وهل قال لكم: هذه السنة؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ستأتونه.

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، أي: لا مطرودين عنه كهذه السنة مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ [الفتح:27]، أي: من دون ذلك الدخول الآمن فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]، ألا وهو صلح الحديبية.

ونزلت السورة الكريمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عودته من الحديبية ليلاً، وكان عمر يمشي في آخر القوم مخافة أن ينزل فيه قرآناً مما جادل فيه رسول الله، فلم يلبث أن سمع صارخاً: يا ابن الخطاب! أجب رسول الله!

ففزع لذلك وظن أنه قد نزل فيه ما يخشى، فلما أتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، وقرأ عليه سورة الفتح، فقال عمر : يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم).

وفي عُرف العالم اليوم: أنه إذا كان هناك نزاع بين دولتين ثم توصلتا إلى المفاهمة، أو الجلوس على مائدة المفاوضات؛ كان ذلك شبه اعتراف من كل منهما بالجانب الآخر، وهنا كان صلح الحديبية بعد ست سنوات فقط من خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً مختفياً في الغار يسري ليلاً ويختفي نهاراً، فيرجع اليوم يريد مكة فيصل إلى حدودها، وتجلس معه صناديد قريش يفاوضونه على العودة على أن يخلوا له مكة في العام القادم، فيأتي ويعتمر آمناً ويرجع مطمئناً.

إنه فتح عظيم، ويقدر علماء التاريخ قيمة هذا الفتح: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه من المسلمين في صلح الحديبية نحو الألف، فلما وقعت الهدنة، ووقع هذا الصلح والاتفاق، ساح المسلمون والمشركون في الجزيرة، فما لقي مسلم مشركاً عاقلاً يحدثه عن الإسلام إلا دخل فيه، فانتقل وانتشر المشركون في ديار المسلمين، وانتقل وانتشر المسلمون في ديار المشركين، ثم وقع بعد ذلك بسنتين فقط فتح مكة، وخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعشرة آلاف مقاتل.

مرت تسع عشرة سنة من الوحي، وثلاث عشرة سنة منها في مكة، وست سنوات في المدينة؛ كانت حصيلتها ألف مقاتل، وبعد هذا الصلح تكون الحصيلة عشرة آلاف مقاتل.

وفعلاً كان فتحاً مبيناً، فنزلت خاتمة سورة الفتح تبين للمسلمين حقيقة الموقف، ولماذا كف الله أيديهم عنهم: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25]، أي: أن الله كف أيدي المسلمين عن دخول مكة مقاتلين ولو دخلوا لنصرهم الله، إلا أن في مكة من هو مسلم يخفي إسلامه، فلو دخلوا لقتلوا المسلم مع المشرك وهم لا يعلمون، فرجع المسلمون ونزلت السورة وفيها: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27].

وهنا تأتي افتتاحية سورة الحجرات، وكأنها تتمة أو تعليق أو تنبيه أو تصحيح لما كان من أصحاب رسول الله في تلك الوقعة -أي: في صلح الحديبية- فيبين المولى تعالى ما ينبغي من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إرشاداً لهم ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:1]، إلزاماً لهم بمقتضى ما آمنوا به وهو أن يقبلوا كل ما جاء به وأن يكونوا تبعاً لله ولرسوله بمقتضى إيمانهم.

لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1].

قوله: (تُقَدِّمُوا)، هل هي (تتقدّموا) أو (تقدِّموا)؟ فعلى أنها (تتقدموا) أي: تكونوا أمام رسول الله في الرأي، أو (تُقدِّموا) على أن تقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم، وكلا الأمرين ممنوع.

لا يجوز تقديم الآراء على شرع الله ورسوله

لا يحق للمسلمين جميعاً ولو اجتمعوا أن يتقدموا على رسول الله بآرائهم ويتركوا رأي رسول الله، ولا يجوز لهم أن يقدموا بين يديه الاقتراحات لأنها مهما كانت فهي نتائج وحصائد عقولهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، أي: كما قدم عمر، وكذلك الصحابة الذين تأخروا يريدون حلولاً أخرى، وقد أبرم صلى الله عليه وسلم الصلح الذي هو فتح مبين.

وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، هذه الآية الكريمة تأديب للأمة كلها في شخصيات أصحاب رسول الله فيما يتعلق بحق التشريع، فإنه لله ولرسوله، فالمعنى: لا تتقدموا بشيء على ما جاء من عند الله في كتاب الله، ولا على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو أن العالم الإسلامي وقف عند هذه الآية وحقق مدلولها لكفاه ذلك، لأنه لا يحق للمسلمين ولو اجتمعوا أن يشرعوا شيئاً من عقولهم ما دام كتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.

ولا يحق لأحد أن يتقدم بعمل يرجو ثوابه، ولا بعمل يخشى في تركه عقابه، إلا إذا كان لله ولرسوله، ومن هنا نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، بمعنى أنه مردود عليه، فمهما كان العبد، ومهما كان المسلم، ومهما كان المسلمون جميعاً في عقولهم وذكائهم وفطنتهم، ونظرهم في المصالح، وادعائهم أي دعوى كانت؛ فليس لهم حق أن يرتقوا إلى منصب التشريع، ولا أن يتقدموا بأمر من الأمور إلا إذا كان عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ليس عليه أمرنا)، لأن أمره من أمر الله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

إذاً: هذه الآية الكريمة في مستهل هذه السورة الكريمة فيها تأديب للأمة، وتعريف لهم بالحق الواجب عليهم، من حيث الاتباع وحق التشريع، ولا يحق للعالم بأسره أن يشرع ما لم يأت به الله ولا رسوله، ويكفي ذلك تنبيهاً على كل تشريع من شرق أو غرب، من حضارة أو مدنية أو غيرها، فكل ذلك إن لم يكن تابعاً وموافقاً لكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود.

اجتهادات العلماء راجعة إلى كتاب الله

الفرعيات والاجتهاديات إذا حدثت وتجددت؛ فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أعطاهم الله البصيرة في دينهم وأنار قلوبهم بالتقوى التي أورِثوها، وبالزهد والورع، وبمخافة الله، وبنور الله في قلوبهم، فإنهم يجتهدون فيما استجد ويردونه إلى الأصول من كتاب الله وسنة رسوله، فهو أيضاً عمل بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله).

فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فهل وجدت ذلك في كتاب الله، قال: أتقرأين كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني: القرآن- فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأته أما قرأت: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها.

والشاهد من هذا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل سنة رسول الله من كتاب الله، ويقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان: السنة بأجمعها قطرة من بحر كتاب الله. أي في قوله سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

ووقع للشافعي رحمه الله أنه وقف في المسجد الحرام، وقال: يا أهل مكة! سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.

وهذه دعوى عريضة لا يقوى عليها إلا مثله، فقام شخص وقال: أخبرنا عن المُحرِم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ الزنبور حشرة أكبر من النحلة ولسعته شديدة، ويقولون: إن سبعة منه كعقرب، وكما قيل: دويبة حمراء في بردة حبِرة.

فقال: يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه-: أنه سُئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ فقال: لا شيء عليه، فلا شيء على المحرم يقتل الزنبور في كتاب الله.

فانظروا أيها الإخوة! إلى هذه الدرجات وتلك المراتب في الاستدلال والربط والتأكد! فكأن الشافعي رحمه الله يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، ولكن كلنا يعلم أن الزنبور ليس في كتاب الله، وكنت حاولت إحصاء ما ذكر من تلك الحشرات والحيوانات والطيور؛ فإذا بها تزيد عن الثلاثين صنفاً ليس منها الزنبور، فمنها العنكبوت والبعوض والذباب والنحل، ولكن كلمة زنبور ليست موجودة في كتاب الله، والشافعي يرد هذه الجزئية التي جاء السؤال فيها على سبيل التعنت إلى كتاب الله؛ لأن السائل رأى دعوى الشافعي في ذلك، فقام وأتاه بما لا يمكن أن يخطر على البال، وكما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد.

فكان موقف الشافعي رحمه الله أن يتدرج في مراتب الاستدلال، فيبدأ بكتاب الله، فيجد كتاب الله يحيل على سنة رسول الله، وسنة رسول الله تحيل على الخلفاء الراشدين، ويُروى عن أحد الخلفاء الراشدين الحكم في هذه المسألة، فيعزوه الشافعي إلى كتاب الله.

شروط الإفتاء الذي ينسب إلى الكتاب والسنة

أيها الإخوة! في هذه الآونة قد نسمع ونرى الكثير مما لا ينتهي منه العجب؛ من أن بعض الأشخاص يكون قد بدأ في طلب العلم ولم يبلغ به شأواً، فإذا به ينصب نفسه للفتوى فيما علِم أو لم يعلم، وما عَلِمَه فلا ندري أيكون علمه فيه صحيحاً أو غير صحيح! ويا ليتهم يقفون عند ذلك في حق أنفسهم، بل يتعدى ذلك إلى الآخرين، فيفتون الآخرين بما يعلمون أو لا يعلمون، ثم يتعدى ذلك إلى أن يعيبوا من يخالف ما هم عليه وإن كانوا هم محدودي العلم والتحصيل وغيرهم أوسع علماً وأكثر تقوى لله وأكثر تحصيلاً، وأدعى أن يتبع من غيره، وهم أيضاً لا يتورعون أن يبدِّعوا من خالفهم، أو أن يبدعوا من قال بغير قولهم.

وإنا والله لنحزن لذلك، ونسأل الله تعالى لنا ولهم الرجوع إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ينقل ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله عن الشافعي رحمه الله: لا يحق للقاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي إلا إذا عرف حكم الله في كتاب الله وأقوال أهل التأويل في تأويله، وعلم سنة رسول الله وأقوال العلماء فيها، والإجماع والقياس، والخلاف إن وجد وما اختلفوا فيه.

فيا أيها الإخوة! تلك الشروط وهذه المعايير التي ذكرتها عن الشافعي يجب أن تتوفر فيمن نصب نفسه للإفتاء لأنه ليس بالأمر الهين، وإن من عوفي ولم يكلف ذلك من ولي الأمر، ينبغي أن يحمد الله إذ لم يلزم بالإفتاء، وعليه ألا يحمل نفسه ما لا طاقة له به.

تورع العلماء في الفتوى

وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يأتيه المستفتي في هذا المسجد فيقول: سل المفتي الرسمي، فإن هناك مفتياً نصبه ولي الأمر وهو مسئول عن ذلك، أو يقول: سل غيري، فأقول له: إذا لم تفتِه أنت فمن الذي يفتيه؟ إنك تقصد للفتوى في مسجد رسول الله. فيقول: إذا كنت في عافية من ذلك فما الذي يلزمني؟ وهل أضمن أن أصيب ولا أخطئ؟! وهل أعلم أن سؤاله له دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله فأجيبه، وكيف أجتهد؟ وهل أضمن في اجتهادي الصواب؟

وجاءه إنسان وألح عليه، وقال: يا شيخ! جئتك أمس فرددتني وطوّفت المسجد فلم أجد من يفتيني، فماذا أصنع؟ قال: سل هذا. وأشار إلي، وقال: هذا قاض في المحكمة، فسله يفتيك، فقلت: يا شيخ إذا امتنعت أنت عن الفتوى كيف أفتيه أنا؟ قال: لا علي، فقلت: اجلس، أنا سأفتيك والشيخ يسمع، فإن كان صواباً أقره، وإن كان خطأً فلا يحق له السكوت عليه، ثم أفتيته، فقال الرجل: ماذا تقول يا شيخ في ذلك؟ قال: قد أفتاك القاضي. قال: أريدك أنت. قال: خيراً والحمد لله.

ويذكر العلماء أن الرجل كان في عهد التابعين يسأل فيُحال من عالم إلى عالم -وحسبك بعلماء التابعين- حتى تنتهي به الإحالة إلى الأول، وكلهم كان يفر من الفتوى، ويقولون: أجرأ الناس على الفتوى أجرؤهم على النار.

فنحن نُحذِّر إخواننا وأبناءنا من أن يتسرعوا إلى منصب الفتوى قبل أن يستحقوا ذلك حقاً، وكان مالك رحمه الله يقول: ما جلست للفتوى والدرس إلا بعد أن شهد لي سبعون عالماً في مسجد رسول الله.

أهمية التلقي عن الشيوخ واجتناب الشذوذ

وجاء عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه جاءه رجل وقال: يا أبا حنيفة ! في المسجد حلق فتيان يتناظرون في الفقه، قال: ألهم رأس؟ قال: لا، قال: لن يتفقهوا أبداً.

ويعني بـ(رأس) أي: شيخ أو أستاذ يرجعون إليه فيما يختلفون فيه.

فإنه قد يجتمع جماعة لهم حماس وحسن نية -على ما نحملهم عليه بحسن الظن- وهم راغبون في الخير، ولكن ليس كل راغب في الخير يصيب طريقه، فيجلسون يتذاكرون، ويتحادثون، ويتناقشون، ولكن ليس لهم رأس يرجعون إليه، وليس بين أيديهم كتاب يقرءونه، ويأخذون عن مؤلفه وما يعزوه إلى سلف الأمة.

فما يقع منهم إنما هي حواصل مناظرات أو مدارسات أحصوها، ثم يناقش بعضهم بعضاً، وهذه ليست طريقة علم، ولا سيما إذا ابتلي البعض بتتبع شواذ المسائل.

يقول عمر رضي الله تعالى عنه وهو على المنبر: أحرِّج على كل مسلم -أي: أجعله في حرج وضيق، وأضيق عليه- أن يحدث حديثاً ليس العمل عليه. لأن في تتبع الشواذ إثارة للفتن، وكما قال ابن عبد البر : ما تتبع إنسان شواذ المسائل إلا وحرم العلم؛ لأنه يقضي حياته في تتبع تلك الشواذ! وللأسف كل الأسف أننا نجد الآن رسائل كتبت في الحج أو في غيره، وفيها أحاديث ينص عليها من رواها بأنه لم يعمل بها أحد -وهذا موجود بأيدي الناس- يفعل ذلك من تتبع الشواذ وعُرِف بذلك.

أيها الإخوة الكرام! لو أن المسلمين التزموا تعاليم هذه الآية فقط لسلموا وبقوا على الصراط المستقيم بعيدين عن الشواذ، بعيدين عن الابتداع.

لا يحق للمسلمين جميعاً ولو اجتمعوا أن يتقدموا على رسول الله بآرائهم ويتركوا رأي رسول الله، ولا يجوز لهم أن يقدموا بين يديه الاقتراحات لأنها مهما كانت فهي نتائج وحصائد عقولهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، أي: كما قدم عمر، وكذلك الصحابة الذين تأخروا يريدون حلولاً أخرى، وقد أبرم صلى الله عليه وسلم الصلح الذي هو فتح مبين.

وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، هذه الآية الكريمة تأديب للأمة كلها في شخصيات أصحاب رسول الله فيما يتعلق بحق التشريع، فإنه لله ولرسوله، فالمعنى: لا تتقدموا بشيء على ما جاء من عند الله في كتاب الله، ولا على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو أن العالم الإسلامي وقف عند هذه الآية وحقق مدلولها لكفاه ذلك، لأنه لا يحق للمسلمين ولو اجتمعوا أن يشرعوا شيئاً من عقولهم ما دام كتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.

ولا يحق لأحد أن يتقدم بعمل يرجو ثوابه، ولا بعمل يخشى في تركه عقابه، إلا إذا كان لله ولرسوله، ومن هنا نبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، بمعنى أنه مردود عليه، فمهما كان العبد، ومهما كان المسلم، ومهما كان المسلمون جميعاً في عقولهم وذكائهم وفطنتهم، ونظرهم في المصالح، وادعائهم أي دعوى كانت؛ فليس لهم حق أن يرتقوا إلى منصب التشريع، ولا أن يتقدموا بأمر من الأمور إلا إذا كان عليه أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (ليس عليه أمرنا)، لأن أمره من أمر الله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وقُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

إذاً: هذه الآية الكريمة في مستهل هذه السورة الكريمة فيها تأديب للأمة، وتعريف لهم بالحق الواجب عليهم، من حيث الاتباع وحق التشريع، ولا يحق للعالم بأسره أن يشرع ما لم يأت به الله ولا رسوله، ويكفي ذلك تنبيهاً على كل تشريع من شرق أو غرب، من حضارة أو مدنية أو غيرها، فكل ذلك إن لم يكن تابعاً وموافقاً لكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود.

الفرعيات والاجتهاديات إذا حدثت وتجددت؛ فإن العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، والذين أعطاهم الله البصيرة في دينهم وأنار قلوبهم بالتقوى التي أورِثوها، وبالزهد والورع، وبمخافة الله، وبنور الله في قلوبهم، فإنهم يجتهدون فيما استجد ويردونه إلى الأصول من كتاب الله وسنة رسوله، فهو أيضاً عمل بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله).

فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فهل وجدت ذلك في كتاب الله، قال: أتقرأين كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني: القرآن- فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأته أما قرأت: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟ قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه. قالت: فإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئاً، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها.

والشاهد من هذا أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه جعل سنة رسول الله من كتاب الله، ويقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان: السنة بأجمعها قطرة من بحر كتاب الله. أي في قوله سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

ووقع للشافعي رحمه الله أنه وقف في المسجد الحرام، وقال: يا أهل مكة! سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله.

وهذه دعوى عريضة لا يقوى عليها إلا مثله، فقام شخص وقال: أخبرنا عن المُحرِم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ الزنبور حشرة أكبر من النحلة ولسعته شديدة، ويقولون: إن سبعة منه كعقرب، وكما قيل: دويبة حمراء في بردة حبِرة.

فقال: يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه-: أنه سُئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ فقال: لا شيء عليه، فلا شيء على المحرم يقتل الزنبور في كتاب الله.

فانظروا أيها الإخوة! إلى هذه الدرجات وتلك المراتب في الاستدلال والربط والتأكد! فكأن الشافعي رحمه الله يقول: أنا من الراسخين في العلم؛ سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، ولكن كلنا يعلم أن الزنبور ليس في كتاب الله، وكنت حاولت إحصاء ما ذكر من تلك الحشرات والحيوانات والطيور؛ فإذا بها تزيد عن الثلاثين صنفاً ليس منها الزنبور، فمنها العنكبوت والبعوض والذباب والنحل، ولكن كلمة زنبور ليست موجودة في كتاب الله، والشافعي يرد هذه الجزئية التي جاء السؤال فيها على سبيل التعنت إلى كتاب الله؛ لأن السائل رأى دعوى الشافعي في ذلك، فقام وأتاه بما لا يمكن أن يخطر على البال، وكما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد.

فكان موقف الشافعي رحمه الله أن يتدرج في مراتب الاستدلال، فيبدأ بكتاب الله، فيجد كتاب الله يحيل على سنة رسول الله، وسنة رسول الله تحيل على الخلفاء الراشدين، ويُروى عن أحد الخلفاء الراشدين الحكم في هذه المسألة، فيعزوه الشافعي إلى كتاب الله.