تفسير سورة الحجرات [5 - ب]


الحلقة مفرغة

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فقد تقدم مناقشة الأعراب في قولهم: (آمنا): قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وتقدم التنبيه على هذه النكتة اللطيفة في قوله سبحانه: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، بدلاً من أن يقول: (ولكن أسلمتم)؛ لأن فيه هذا شهادة لهم من الله بإسلامهم، ولكن من حسبان القول: (قالت) لا، (قولوا)، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] .

وقدمنا بأن قوله سبحانه: قَالَتْ الأَعْرَابُ [الحجرات:14]، قول عام مخصوص ببعض الأعراب، وهم جماعة من بني أسد أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (آمنا).

والله سبحانه وتعالى قسم الأعراب إلى قسمين: منهم من آمن بالله وينفق في سبيل الله، ويتخذ ما ينفقه مغنماً وقربة عند الله، ومنهم من لم يؤمن، أو استسلم، أو نافق واتخذ ما ينفقه مغرماً وغرامة وقعت عليه. أي: لا يؤمن بجزائها ولا بالثواب عليها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث الذي هو يوم الجزاء.

وهذا القسم رجح والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في الأضواء بأنهم كانوا منافقين، أظهروا الإسلام أو قول الإيمان بألسنتهم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وقال: إنهم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلنين ذلك رغبة ورهبة، رغبة أن يشاركوا في الغنائم مع المسلمين، ورهبة في أن يقاتلوا وتسفك دماؤهم وتسلب أموالهم.

وبيّن سبحانه وتعالى في آخر السياق: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً [الحجرات:14]، أي: مع قولكم (أسلمنا) ونفي الإيمان عنكم أن تطيعوا الله وتطيعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من أجورها.

والله سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد، حتى إن الكافر المعلن كفره إذا عمل من أعمال الخير فإن الله يجازيه عليها ولكن في الدنيا، أما في الآخرة، فكما قال في الآية الكريمة: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

وعلى هذا فالقرآن يبين لهؤلاء الناس الذين قالوا بألسنتهم، وصحح مقالتهم من الإيمان إلى الإسلام، ومع عدم وجود الإيمان المطابق لأقوالهم فإنهم إن أطاعوا الله وأطاعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أعمالهم محسوبة لهم ومحفوظة عليهم، ولا ينقص من أجورهم شيئاً؛ لذا سبق هذه الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، عليم بصدق ما قلتم، خبير بضمائركم وما تخفيه صدوركم، ليبين لهم حقيقة الموقف وما ينبغي أن يقولونه وهو مقالة الإسلام لا مقالة الإيمان.

وهناك من يقول: (لما) أخت (لم) في النفي، ولكن لما تشعر بأن النفي مؤقت وليس قطعياً أبدياً، وينتظر أو يرجى حصول هذا المنفي تدريجياً، ويمثلون لذلك بقول القائل: أثمر الشجر ولما يينع الثمر. أي: أصل الثمرة موجودة ولكنها لا زالت ثبجة لا تصلح للأكل ولما تنضج، فهي في طريق النضج تدريجياً، وهكذا الثمار تبدأ ثبجة أولاً، ثم تتدرج في النضج إلى أن تستوي في نهايته وتكون ثمراً جنياً.

وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحجرات:14]، هذا على العموم والإطلاق؛ لأن طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة مطلقة، ولكن يأتي هناك استثناءات فيما إذا عجز الإنسان، أو حال دون ذلك حائل فإنه يغفر له ويسامحه في ذلك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)، فالفعل على الاستطاعة، والترك على القطع.. (وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ليس هناك تبعيض في الاجتناب؛ لأن الترك سلبي، بخلاف الصلاة، فإنه عمل تكليف، والتكليف قد يشق على المكلف، وعند المشقة يأتي التيسير.

ثم بين سبحانه وتعالى الحقيقة: لما رد على الأعراب مقالتهم: (آمنا) ولم يستقر الإيمان في قلوبهم، ولم يصدقوا مقالتهم بألسنتهم وبأفعالهم بين لهم سبحانه، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات:15]، أي: حقيقة المؤمنين.

اللطائف البلاغية في قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة)

ويقولون في علم العربية (إنما) أقوى أدوات الحصر، وكذلك النفي والإثبات، تقول: لا شاعر إلا زيد، (لا) نفي، و(إلا) استثناء، وكذلك تقديم ما حقه التأخير: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب محلها التأخير، فلما فصلت وقدمت جاءتها (إيا) من أجل النطق بها؛ لأنه لا ينطق بكاف الخطاب مجردة، فقدمت كاف الخطاب عن محلها فكان دليلاً على القصر، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] لا نعبد غيرك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لا نستعين بسواك.

فهذه كما يقولون: أدوات القصر، وكذلك تعريف الطرفين لو قلت: زيد كاتب، قد يكون كاتب من الكتاب، ولكن إذا قلت: الكاتب زيد، فهذا قصر، ويقولون: القصر نسبي وحقيقي، والقصر النسبي ما كان بالنسبة إلى أشخاص آخرين يدَّعون الكتابة، تقول: الكاتب.. أي: حقيقة هو فلان، وهكذا (إنما).. النفي والإثبات.. تقديم ما حقه التأخير.. تعريف الطرفين. هذه هي أدوات القصر في علم البلاغة، وأقواها (إنما).

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات:15]، أي: حقيقة المؤمنين ما هي؟ من هم المؤمنون حقاً لا ما يدعي أولئك الأعراب الذين لم تصدق قلوبهم منطق لسانهم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ [الحجرات:15] (الَّذِينَ) اسم موصول.

آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، هنا لطائف بلاغية كما يقول علماء التفسير:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:15]، كان ممكن، أن يقال: (ولم يرتابوا)، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، و(ثم) هنا كما يقولون: للتعقيب والتراخي.

أولاً: الريب إنما هو الشك، والشك التردد، والتردد والشك هما نتيجة وسوسة الشيطان للعبد، يوسوس إليه فيوجد عنده شكاً في الحقائق فيتردد ويرتاب، فإذا ارتاب كان مذبذباً بين هذا وذاك، ولم يستقر حاله على أمر، وقد قدمنا بأن الشك هو تعادل الكفتين في العلم، والظن ترجيح إحدى الكفتين، والوهم هو الكفة الراجحة، والعلم هو ما لا يوجد مقابله وهم، فالشك تردد، والمتردد لم يجزم ولم يستقر على ما يريده.

وأخطر ما يكون في هذه الحياة من أمور الدنيا والدين إنما هو التردد والريب، ولهذا يجد المتأمل في كتاب الله أن المصحف الشريف بدأ بنفي الريب باليقين، وانتهى بنفي الشك والريب والوسوسة، ويهمنا هنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ .

ثم بين سبحانه: (ثُمَّ لَمْ) ومجيء (ثم) هنا يبين به سبحانه بأن المؤمنين حقاً الذين آمنوا إيمان يقين ولم يقم مع إيمانهم شك ولا تردد، ثم هم يثبتون على الإيمان القاطع من أول إيمانهم إلى آخر أمرهم في الحياة حتى يخرجون من الدنيا.

(ثُمَّ لَمْ)، أي: لم يطرأ على إيمانهم فيما بعد ريب، فهم مؤمنون على يقين من أول لحظة، ويستمرون على اليقين في إيمانهم، ولم تزعزعهم القضايا التي تعرض عليهم، ولم تزعزعهم الشدائد التي تضر بهم، بل يثبتون على يقينهم، ثم مهما طال الزمن، ومهما واجهوا من أحداث لن يأتي الريب إلى قلوبهم، ولن يجد الشك إلى يقينهم مدخلاً ولا طريقاً.

يقين المؤمنين في الأمم السابقة

يقول العلماء: وقريباً من ذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، أي: استمروا على مقالتهم واعتقادهم هذا إلى النهاية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قالوا ربنا الله ثم استقاموا على هذا القول قولاً وفعلاً إلى أن ماتوا، ولم تتغير مقالتهم، ولم تتغير استقامتهم في منهجهم الذي سلكوه).

وإذا نظرنا إلى عنصر اليقين مع المؤمن: نجد من أول الدنيا وفي الأديان جميعاً أن اليقين هو عنصر النجاح والثبات، ونجد الشدائد التي وقعت بالأمم مهما كانت يكون علاجها باليقين، كما وقع مثلاً في قضية أصحاب الأخدود؛ حينما أوقد ملكهم النار، وعرض عليهم الرجوع عن الإيمان، فامتنعوا، فقال: من امتنع سألقيه في تلك الأخاديد الموقدة، فما ارتابوا، ولا ترددوا، وقضية الطفل الرضيع، لما عُرِضت أمه على النار أو أن ترجع عن دينها فأبت، ولكنها رأت طفلها فأشفقت عليه أن تلقي بنفسها وهو معها في النار، لم تفكر في نفسها ولكن طفلها ما ذنبه؛ لأنه لم يبلغ مبلغ الإيمان، ولكن الله أنطق هذا الطفل وهو ثالث ثلاثة نطقوا في المهد، قال: قعي في النار يا أماه ولا تتقاعسي فإنك على الحق، فهذه الأم على هذا الوضع ألقت بنفسها في النار وهي على يقين من أنها على الحق، فما ترددت ولا رجعت.

ومن قبل ذلك أيضاً سحرة فرعون: جاءوا مناصرين للباطل ويعرضون على فرعون: أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42]، فجاءوا أعواناً للباطل، مشمرين ليدحضوا رسول الله وبما جاءهم به من الآيات، ولكنهم لما عاينوا الحق وهم أعرف بفن السحر، وعلموا أن ما جاء به موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من باب سحرهم، وإنما هو فوق ما يظنه العقل أو يتداركه، حين ذلك آمنوا بالله سبحانه وتعالى.

ولما هددهم فرعون قال: لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، سبحان الله! النخل أشد ما يكون خشونة، تلمسه بيدك تتألم، وهو يريد أن يصلبهم على جذوع النخل، قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، استهانوا بتعذيب فرعون بعد أن كانوا نصراء له وانقلبوا عليه ووقفوا ضده يقيناً بالله؛ لما وجدوا الآية الكبرى مع موسى عليه السلام.

ولهذا يقولون في قصتهم: كان كبير السحرة في ذلك الوقت قد هرم ولم يستطع أن يحضر ذلك النادي، فلما قيل له ذلك؛ وذكروا له إيمان السحرة وعابوهم، قال: أخبروني عن تلك الحية التي ابتلعت الحبال والعصي، أبقيت على حجمها الأول قبل أن تلتقمها، أم أنها انتفخت وكبرت بعد أن التقمتها؟ قالوا له: لم يتغير حجمها وكانت على ما هي عليه، قال: إذن هذه آية وليست سحراً.

ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين : هذا علم قد يكون حراماً، ولكنه نفع السحرة بأن عرفوا بأن حقيقة ما جاء به نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام ليس من نوع سحرهم، فآمنوا؛ لعلمهم بحقيقة السحر.

وهكذا هؤلاء يهددهم فرعون الطاغية بأنه سوف يصلبهم وسيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وكل أنواع التهديد عرضه عليهم، ومع ذلك قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:121].. قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، بخلاف الآخرة.. لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، لا يخرجون من النار ولا يموتون فيها. يعني: عذاب دائم مستمر.

إذاً: هؤلاء دخل اليقين إلى قلوبهم، حتى مع مجيء الشدائد عليهم لم يرتابوا فيما آمنوا به.

يقين المؤمنين في عهد النبوة

لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، وجلس صلى الله عليه وسلم بالحجر، ومعه بعض أصحابه، قالوا: يا رسول الله! ادع الله لنا أن ينصرنا على المشركين، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم)، كيف يحصل ذلك وهم يعذبون ومضطهدون؟ إنه اليقين بالله.

ونأتي إلى حدث كان قبل ذلك، حينما جاءوا إلى عمه ليكلمه في أن يترك ذلك، وقالوا: إن كان يريد مالاً جمعنا له، وإن كان يريد ملكاً نصبناه علينا، وإن كان يريد زواجاً زوجناه أجمل من في العرب، وإن كان.. وإن كان.. إلى آخره، فقال: (فرغت يا عم؟ قال: بلى، قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى تذهب هذه عن هذه)، سبحان الله! قال ذلك وهو أحوج ما يكون إلى عمه، ومع ذلك يتحدى ولو جاءوا بالشمس والقمر، لا بأموالهم ولا بنسائهم ولا بجاههم وملكهم، لن ينظر لذلك قط حتى يتم الله هذا الأمر، وعلى هذا فعلاً كان على يقين من ربه سبحانه.

وليلة الهجرة حينما يأتي عشرة شبان بسيوفهم على بابه، ويأتيه جبريل ويخبره، فيخرج يقيناً بالله مستخفاً بهؤلاء، ولم يكتف بالخروج من تحت أيديهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ويقرأ قوله سبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، سبحان الله العظيم!! يحجب الله رسوله عن أبصارهم، عشرون عيناً تنظر فلم تره!

ثم يذهب ويصل إلى الغار، ويأتي الطلب وراء ذلك، ويقول الصديق : يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فماذا كان رده صلى الله عليه وسلم؟ كان منطق اليقين يتجسم في كلامه حتى يملأ الغار أمناً وطمأنينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما)، ومن كان الله ثالثهما هل يخافا؟! لا والله، آمناً مطمئناً، وكتب السيرة تذكر أحداثاً عجيبة في هذا الغار المبارك.

صدقة عائشة رضي الله عنها دلالة على إيمانها

خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وانتشر الإسلام، ثم يكون هناك من بعض الأفراد اليقين الجازم كما قدمنا مراراً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصتها مع بريرة وقرص الشعير، وكانت صائمة، وجاء مسكين، فقال: صدقة يا آل بيت رسول الله، قالت عائشة : يا بريرة أعطي السائل، قالت: ما عندي ما أعطيه، إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب، فماذا قالت أم المؤمنين؟ هل قالت: احفظيه لنا؟! لا، بل قالت: أعطي السائل القرص وعند المغرب يرزق الله، فذهبت بريرة وهي تتغنى بقول عائشة : عند المغرب يرزق الله، لم ترتفع بريرة إلى مستوى أم المؤمنين في اليقين بالله سبحانه، ثم جاء المغرب ما رزق الله، قامت تصلي أمامها، وبريرة جلست تريد أن ترى رزق الله، فما خرجت أم المؤمنين من صلاة المغرب والتفتت إلا وشاة كاملة أمامها بقرامها، قالوا: القرام هو أطرافها وما معها، أو أن القرام هو أنهم إذا أرادوا شوي الشاة بعد سلخها جاءوا بالعجين وطلوها به من جميع الجوانب، ووضعوا عليها الجمر، فإذا جف هذا العجين نضجت الشاة من داخله، وبقي العجين يتلقى الأتربة وغير ذلك، فيقشرون هذا العجين عنها كما تقشر البيضة أو حبة الموز، والآن يستبدلونه بالقصدير، فيدخلون اللحم في الفرن بالقصدير، ويبقى على ما هو عليه.

فقالت أم المؤمنين لـبريرة : ما هذا يا بريرة ؟ قالت: والله أهداه إلينا رجل، والله ما أهدى إلينا قبل ذلك قط. يعني: شيء عجيب، لو أنه معتاد أنه يأتي له حسب العادة، لما فوجئ أهل البيت، لكنه على العكس ما أتى لنا بشيء أبداً من قبل.

إذاً: شيء ساقه الله بخصوصه، ماذا قالت أم المؤمنين؟ قالت: (يا بريرة ! كلي فهذا خير من قرصك)، أنت كنت حريصة على أن يبقى قرص الشعير؛ لأنك صائمة، فأعطيت قرص الشعير وجاءت الشاة. ثم قالت -وهو محل الشاهد-: (والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما في قبضة يده )، الخبز بيدها، ولكنها تصدقت به، ويقينها وإيمانها عند الله أقوى في قلبها من هذا الذي في قبضة يدها، وهذا هو حقيقة الإيمان.

اليقين هو مبدأ السعادة

وهكذا لو تأملنا أن تمرة تقبض عليها بيديك الاثنتين، ثم جئت لتتناولها فضرب إنسان على كفك فطارت فالتقطها وأخذها.. وصلت إلى باب فيك ولكن لم تمضغها ولم تأكلها، ولكن هو ما عند الله، والله لو اجتمع الإنس والجن على أن يحولوا بينك وبينه والله ما استطاعوا.. قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51].

وعلى هذا اليقين هو مبدأ السعادة والنجاة في كل شيء، ونجد هذا من أول الحياة الدنيا مع الرسل وأتباعهم، وفي هذه الأمة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع بعض الأفراد، نجد اليقين هو منطلق الإيمان، وهو مبدأ السعادة في حياة الإنسان.

ثم نجد ما أشرنا إليه من ارتباط اليقين في كتاب الله، نجد مبدئياً بعد فاتحة الكتاب قوله سبحانه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:1-4]، اليقين موجود عند هؤلاء بالآخرة، واليقين بالآخرة هو منطلق فعل كل خير.. علامَ يتحمل الناس الالتزام بالصلوات الخمس؟ علام يلتزم الناس صوم رمضان جوعاً وعطشاً؟ علام يلتزم الإنسان إخراج جزء من المال بكفه وعرق جبينه ويعطيه إلى غيره؟ علام يتحمل الإنسان السفر الطويل من كل فج عميق، ويأتي في حل وارتحال للحج؟ علام يتحمل الناس مسئولية الجهاد وسفك الدماء؟ كل ذلك لأي شيء؟!! لدافع لذلك الإيمان بالغيب واليقين بما فيه من عند الله سبحانه، ولولا ذلك اليقين ما حصل شيء من ذلك، ولهذا المنافق لعدم يقينه يعمل ما كان ظاهراً أمام الناس، وإذا خلا بينه وبين أصحابه جحد ما كان يظهره بلسانه.

وهكذا جاء الحديث خاصة في المال على ما سيأتي بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [الحجرات:15]، وأن الصدقة برهان. أي: دليل قاطع على صدق من يقول: آمنت بالله، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.

إذاً: هنا إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ [الحجرات:15]، (ثم) هنا إنما جاءت للتراخي بعد نقطة مبدأ الإيمان، فقد صدر إيمانهم بيقين في وقتها، ثم ثبتوا على هذا اليقين، ومع استمرارهم ومضي الزمن وطوله.

وننظر في الأمر الجماعي في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق لما اعترضت صخرة جماعة سلمان الفارسي أو أبي هريرة، وتكسرت عليها معاولهم، والغريب أن صخرة اعترضتهم طريقهم مع أن مكان الخندق في أرض سهلة، وهو ما بين طرف الحرة الغربية عند المعهد الوطني، عند كلية أمين مدني ومعرض العامر، ويمتد إلى مقابله إلى الحرة الشرقية -وهي كلها أرض سهلة- لكن اعترضت صخرة في طريقهم في الحفر، لتكون آية من عند الله، وتكسرت عليها معاولهم، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا آتي، فلما رآها طلب ماءً وتوضأ، ونثر الماء على الصخرة، ثم أخذ المعول وضرب ثلاث ضربات، فأول ضربة أبرقت وتكسرت، والثانية تفتت، والثالثة صارت كثيباً من الرمل، وفي كل ضربة تبرق برقة ويكبر رسول الله معها.

قالوا: ما هذه البرقة وما هذا التكبير يا رسول الله؟ قال: (أرأيتم؟ قالوا: بلى، قال: إن الله قد أراني صنعاء والشام وبصرى العراق)، أي: إن الله سيفتح للمسلمين هذه الأمصار الثلاثة، في هذه الحالة مع شدة الخوف والجوع والبرد، ظهر النفاق والارتياب، فقال المنافقون: يعدنا قصور بصرى والشام وصنعاء وإن أحدنا ليخاف على نفسه أن يذهب فيقضي حاجته. هذه مقالة المنافقين.

أما أهل الإيمان فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22]، وما زادتهم تلك الشدة وهذا الواقع إلا إيماناً وتسليماً لله، فهذا هو الإيمان الحقيقي، تلك الشدة ما زعزعت إيمانهم، ولا أضعفت يقينهم، بل زادتهم إيماناً، وكما يقولون: الشدة تورث اليقين، أو تدعم التضامن والتجمع.

لما تكون أقلية إسلامية في بلد، ويحسون بالشدة والضغينة من الأكثرية ينضم بعضهم إلى بعض، ويقوى ارتباطهم ببعض للدفاع عن النفس، وهؤلاء المؤمنون جاءتهم وواجهتهم تلك الشدائد، ولكنهم لم يرتابوا.

ويقولون في علم العربية (إنما) أقوى أدوات الحصر، وكذلك النفي والإثبات، تقول: لا شاعر إلا زيد، (لا) نفي، و(إلا) استثناء، وكذلك تقديم ما حقه التأخير: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب محلها التأخير، فلما فصلت وقدمت جاءتها (إيا) من أجل النطق بها؛ لأنه لا ينطق بكاف الخطاب مجردة، فقدمت كاف الخطاب عن محلها فكان دليلاً على القصر، قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] لا نعبد غيرك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لا نستعين بسواك.

فهذه كما يقولون: أدوات القصر، وكذلك تعريف الطرفين لو قلت: زيد كاتب، قد يكون كاتب من الكتاب، ولكن إذا قلت: الكاتب زيد، فهذا قصر، ويقولون: القصر نسبي وحقيقي، والقصر النسبي ما كان بالنسبة إلى أشخاص آخرين يدَّعون الكتابة، تقول: الكاتب.. أي: حقيقة هو فلان، وهكذا (إنما).. النفي والإثبات.. تقديم ما حقه التأخير.. تعريف الطرفين. هذه هي أدوات القصر في علم البلاغة، وأقواها (إنما).

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الحجرات:15]، أي: حقيقة المؤمنين ما هي؟ من هم المؤمنون حقاً لا ما يدعي أولئك الأعراب الذين لم تصدق قلوبهم منطق لسانهم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ [الحجرات:15] (الَّذِينَ) اسم موصول.

آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، هنا لطائف بلاغية كما يقول علماء التفسير:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:15]، كان ممكن، أن يقال: (ولم يرتابوا)، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، و(ثم) هنا كما يقولون: للتعقيب والتراخي.

أولاً: الريب إنما هو الشك، والشك التردد، والتردد والشك هما نتيجة وسوسة الشيطان للعبد، يوسوس إليه فيوجد عنده شكاً في الحقائق فيتردد ويرتاب، فإذا ارتاب كان مذبذباً بين هذا وذاك، ولم يستقر حاله على أمر، وقد قدمنا بأن الشك هو تعادل الكفتين في العلم، والظن ترجيح إحدى الكفتين، والوهم هو الكفة الراجحة، والعلم هو ما لا يوجد مقابله وهم، فالشك تردد، والمتردد لم يجزم ولم يستقر على ما يريده.

وأخطر ما يكون في هذه الحياة من أمور الدنيا والدين إنما هو التردد والريب، ولهذا يجد المتأمل في كتاب الله أن المصحف الشريف بدأ بنفي الريب باليقين، وانتهى بنفي الشك والريب والوسوسة، ويهمنا هنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ .

ثم بين سبحانه: (ثُمَّ لَمْ) ومجيء (ثم) هنا يبين به سبحانه بأن المؤمنين حقاً الذين آمنوا إيمان يقين ولم يقم مع إيمانهم شك ولا تردد، ثم هم يثبتون على الإيمان القاطع من أول إيمانهم إلى آخر أمرهم في الحياة حتى يخرجون من الدنيا.

(ثُمَّ لَمْ)، أي: لم يطرأ على إيمانهم فيما بعد ريب، فهم مؤمنون على يقين من أول لحظة، ويستمرون على اليقين في إيمانهم، ولم تزعزعهم القضايا التي تعرض عليهم، ولم تزعزعهم الشدائد التي تضر بهم، بل يثبتون على يقينهم، ثم مهما طال الزمن، ومهما واجهوا من أحداث لن يأتي الريب إلى قلوبهم، ولن يجد الشك إلى يقينهم مدخلاً ولا طريقاً.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الحجرات [2 - ب] 2756 استماع
تفسير سورة الحجرات [3 - ب] 2390 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - ب] 2245 استماع
تفسير سورة الحجرات [5 - أ] 2224 استماع
تفسير سورة الحجرات [4 - ب] 2143 استماع
تفسير سورة الحجرات [2 - أ] 2046 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - ب] 1871 استماع
تفسير سورة الحجرات [3 - أ] 1742 استماع
تفسير سورة الحجرات [6 - أ] 1684 استماع
تفسير سورة الحجرات [1 - أ] 1620 استماع