أرشيف المقالات

جدتي الحنونة

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
جدتي الحنونة

سلامًا عليك يا جدتي، ورحمة الله تغشاك يا جدتي، لن أنساك أبدًا، دائمًا تتجلى أمامَ ناظرنا صفاتُك المتميزة، وينطلق اسمُك على ألسُنِ الجميع في الأسر والأقارب بكونك أُمًّا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، طابتْ حياتُك، ومرأ ذَهابُك، وتركتِ وراءك بصمات تبعث رُوح الحياة فينا، رحمك الله تعالى رحمة واسعة!
 
انتقلت إلى رحمة الله تعالى جدتي (أم أبي) يوم الثلاثاء من شهر رجب الساعة التاسعة صباحًا بالهند، عاشت حياتها الطويلة مولعةً بالأعمال الصالحة، مهتمة بأحكام الشريعة الإسلامية، بعيدة كل البعد عن زخارف الدنيا وملذاتها، معتنيةً برد الحقوق إلى أهلها من الأقارب والجيران، منشغلةً بتلاوة القرآن الكريم وترديد الأذكار، حذِرةً من الأقوال أبشعها والأعمال أسوئها، وكانت على قليل العلم بما تدور حولها من الحوادث في العالم، وإن أخبرها بها أحدٌ لم تلتفت إلى ذلك على سبيل التمام، وإنما كانت على يقين أن العمل الصالح في كل حين مطلوب، فاجتهدتْ فيه كلَّ الاجتهاد، فإنه ثمنُ الآخرة، وغاية حياتها رضا الرب محضًا.
 
أريد إبراز إحدى عشرة ميزة تميَّزت بها جدتي زادتها مكانة، وأضافتها إجلالًا، لنأخذ العبر منها:
١) الإكرام: بالغت في إكرام الأسر والأقارب والضيوف بصفة عامة والعلماء بصفة خاصة، وفي حين كنت أدرُس بالهند ذهبتُ إليها لقضاء أيام العطلة لديها، استقبلتني بقلبٍ يفيض بالحب والحنان، وأكرمتني بغاية الإكرام، وأتحفتني بدعائها وعديد من العطايا، كأني ابنها الوحيد! وأتذكر على وجه التحديد أن كل صباح - خلال العطلة - كانت تزورني وأنا في غرفة أخرى في البيت، مشتاقة للقائي مبتهجة الوجه، كانت تسلِّم عليَّ وتمسح رأسي بيدها الناعمة، داعية لي بالخير والبركة والعافية والتوفيق، فيطرَب به قلبي فرحًا وسرورًا، وكان من عادتها أنها كلما زارها أحدٌ منا خلعت وحنت عليه بداعٍ من الحب والمودة، ودعت له بالخير والبركة والسلامة.
 
٢) الرفق: لم تكن جدتي ثرثارة ولا رديئة الكلام، وقولها كان طيبًا لينًا، ولهجتها كانت حُلوة، وسمتُها كان مضيئًا، إذا نادتك كان النداء مترعًا باللطف، وإذا لقيتك كان اللقاء جذابًا، وإذا تكلمت إليك تكلمت ببشرٍ متوجهة إليك، كما ورد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه؛ (رواه مسلم)، تعاملت مع جميع الناس برفق، وتجنَّبت قساوة التوبيخ، وسواد الظلم، وسوء الأخلاق، وعنف التعامل، وفي أحد الأيام حدثني أبي قائلًا: لا أتذكر أنها وبخت أحدًا فضلًا عن طفل أو ابن قط.
 
٣) شغفُها بالقرآن الكريم والأذكار: كانت شغوفةً بقراءة القرآن والأذكار في معظم الأحيان، وكانت من دأبها أنها تستيقظ بساعة قبل أذان الفجر لأداء صلاة التهجد في ناحية من بيتها، وتقوم بعدها بتلاوة أذكار الصباح بأناةٍ لا بسرعةٍ وإهمالٍ فيها، وتقرأ من القرآن ما شاء الله أن تقرأ، وتُقبل على صنع الطعام متهلِّلة ومسبِّحة، أما الصلوات الخمس، فلا تسأل عن ذلك، فكانت تؤديها من ساعتها مقترنة بجميع ما قبلها وما بعدها من السنن والنوافل بالمواظبة.
 
٤) التحذير من النميمة والغيبة: استنكرتْ جدتي هاتين الصفتين أشدَّ الاستنكار، ولا جهرت ولا تفذلكتْ بالسوء أو الإساءة، وإنها كانت قليلة الكلام، لا ينطلق على لسانها إلا الخير، كما ورد في الحديث النبوي صلى الله عليه وسلم: مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقُل خيرًا أو ليصمُت؛ (رواه البخاري)، أضِفْ إلى ذلك بأنه كلما سنَحت لها الفرصة شجَّعت الأبناء والبنات والأقارب على دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية والعمل بها، وسمِعت منها مرارًا تقول: اقرأ واعمل يا بنيَّ، فأنا أسأل الله أن يتقبلك لخدمة دينه، وهذا هو الفوز الحقيقي!
 
٥) احترام العلماء: أخذ العلماء مكانتهم في قلبها، وقامت جدتي بتعظيمهم، واستمعت لهم إذا ألقوا، وحرَّضت أسرتها القريبة والبعيدة على لقائهم والتعرف عليهم، وولعت بصُنع الطعام لهم إذا حضروا أو إرساله إليهم بنوع خاص إذا كانوا على اتساع المسافة، وفي كل سنة تتدلَّى الفواكه والخضروات في ساحة بيتها، فكان من دأبها إيصال الفواكه المتنوعة إلى بيوت الشيوخ وأهل العلم تمجيدًا لهم.
 
٦) الزهد والقناعة: انطبَع على سجيتها الصافية الزهد، فلم تتبرَّج بجمالها، ولا تدللت بجواهرها، وقنعت بما لديها؛ كما قال الشافعي رضي الله عنه:






رأيتُ القناعةَ رأس الغنى
فصرتُ بأذيالها متمسك


فلا ذا يراني على بابه
ولا ذا يراني به منهمك


فصرتُ غنيًّا بلا درهم
أمرُّ على الناس شبه الملك






 
على رغم تطوُّر الدنيا بأسرها من شتى الجهات، فلم يؤثر هذا على طموحها، ولم تبرز جدتي الشوق للحصول عليها، إن أنفقتْ اقتصدتْ، وما ألحتْ على زوجه شراء شيءٍ إن أحبَّته، ولم تحرِص على ما يميل إليه الناس من رغدِ العيش، وكانت البساطة كلُّها زينتها إلى آخر حياتها، وعلى هذا النحو انتقلت رُوحها من هذه الدنيا الفانية.
 
٧) إطاعة زوجها - رحمه الله رحمة واسعة -: رأت جدتي السعادة كلَّ السعادة في إطاعة زوجها، ورأت الشرف كل الشرف في الامتثال لأمره، ما رفعت صوتها أمامَه، وما أبدت الانزعاج من شيء كان، فأكبَّت على خدمته معتنية بشؤون البيت وتربية الأولاد، وغير ذلك باسمة الثغر، وأخلصت له طوال حياتها، فلله درُّها!
 
٨) طلاقة الوجه: ملأت ضلوعَها البشاشةُ التي تجذب القلوب، وتأنَس بها النفوس، ومن جميل ما صادفت به أثناء الحوار عنها مع أبي أنها كانت تتعامل بطلاقة الوجه مع كل من هبَّ ودبَّ.
 
٩) الدعاء: التزمت جدتي به التزامًا لا قطع فيها، وكانت ملازمة قراءة الأدعية المسنونة وغيرها يوميًّا، كلما كنتُ أتصل عليها عبر الهاتف ألتمس منها المشاركة في دعائها، وكانت ترد عليَّ في لهفة: أنا أداوم لك الدعاء إلى الله كلَّ يوم، وأنت أيضًا لا بد لك من الدعاء لي، لعل دعاءها قد أنقَذني مِن شقاءٍ وبلاء غير مرةٍ.
 
١٠) العفو: كانت حليمة ومسامحة، وكانت تترك المؤاخذة على أحدٍ إن أخطأ، وتتغاضى عما يصدر منه من زلة، ولم يكن يبرز على وجهها شيءٌ من الغضب أو القلق.
 
١١) التقوى: هي كلمة سعَت جدتي إلى إنجازها سعيًا، فلا شك فهي غاية نطَق بها القرآن، وشوق المؤمنين بها، وحاولت العملَ بها قدرَ المستطاع، فكانت تحب جمع صحيفتها بالأعمال الصالحة، فإنها عرفت أهميتها حق المعرفة.
 
وفي نهاية المطاف أنا أتوجه إلى الله جل وعلا أن يوفِّقنا للعمل بمثلِ هذه الأعمال، والتحلي بهذه الشمائل النبيلة، وأن يتجاوزَ عن سيئاتها، وأن يغفرَ لها، وأن يتغمَّدها برحمته، وأن يُسكنها في الفردوس الأعلى من الجنة، آمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣