أرشيف المقالات

حقوق الأخوة في أدبيات الألوسي رحمه الله (1)

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
حقوق الأخوة في أدبيات الألوسي رحمه الله (1)

 
الوفاء، وردُّ الجميل، وستر العيب، وقبول العذر: مدخلٌ إلى الأخوة الحقيقية الصادقة، وكل أخوَّة تقوم على غير تلك المعاني، فهي مُنقطِعة لا تدوم، وقد كانت معاني الصحبة موجودة حتى في الجاهلية، ولكنَّ الإسلام زادها جمالًا وأدبًا، وحثَّ على التمسُّك بها، وقوَّم الكثير من مفاهيمها، ووجَّهها التوجيه النافع المفيد، وربطها بمعاني الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لتستمرَّ وتدوم، وتُثمر ثمارها اليانعة، وخيرُ مَن مثَّل الأخوَّة الصحيحة في التاريخ الإسلامي هم المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، وقد سجل القرآن الكريم ذلك الحدث التاريخي الهام؛ حيث كان الأنصاري يَتنازل عن أعز ما يَملِك من مال وبيت وربما زوجة - بعد طلاقها - لأخيه المهاجر؛ بدافع الإيثار ومحبَّة الأجر والثواب، وبالمقابل كان المهاجر يُقابله بعزة النفس وعفَّتها، والصبر الجميل.
 
وفي التراث العربي القديم كانوا يعبرون عن الأخ بالصديق الوفيِّ والصاحب، وفي كتب الأدب العربي أبواب خاصة عن آداب العِشرة والصُّحبة مع الإخوان والأقران، ويُقصد بهم الأصدقاء الأوفياء، والصديق عند الضيق، وكما قيل: وربَّ أخ لم تلدْه أمُّك، وإن الأخ الصادق ليس من شِيَمِه الغدر والخيانة، والتخلي عن الإعانة، ومن أنفع الكتب في الصحبة وشروطها: آداب الصحبة؛ لأبي عبدالرحمن السلمي، وكتب الغزالي رحمه الله في الإحياء عن آداب الألفة والأخوَّة والصحبة والمُعاشَرة، ففي الباب الثالث عبارات وجُمل مُفيدة نافعة حريٌّ بالمُسلم أن يتمعَّن معانيها، ويتدبَّر كلماتها، وقد كثر ذلك في نثرهم وشعرهم؛ قال قائلهم:






أخاك أخاك إن مَن لا أخا له
كساعٍ إلى الهَيجا بغير سِلاحِ


وإنَّ ابن عمِّ المرء فاعلمْ جَناحُه
وهل ينهضُ البازي بغَير جَناحِ






 
ومعنى البيت - كما أشار الشارحون من أهل اللغة والبيان -: "الزم أخاك ولا تُفارقه، واحرص عليه؛ فالشخص الذي ليس له أخ يُعينه ويعضُده كمن يذهب إلى الحرب وليس معه عُدَّتُها ولا أداتها"، وقد فرَّق الأدباء بين المعارف والأصدقاء والإخوان، وإن الأخ قلَّ ما يوجد، وخاصة في زماننا الذي نحن فيه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
 
هذا، وقد شرح الألوسيُّ رحمه الله أبياتٍ شعريَّةً مِن البحر الطويل، من نظم الشاعر العراقي أحمد الشاوي يَمتدِح فيها صديقه الوفي، وصاحبه الألمعي محمود الألوسي رحمه الله، وما كان يتَّصف به من جميل الأخلاق، وكريم الفِعال، وعظيم السجايا والصفات؛ مِن الوفاء، والصِّدق، والتجرُّد عن الذات، والإيثار، والشرح عبارة عن مادة أدبية اشتملَت على حِكَم وآداب ووصايا، على غِرار ما كُتِب في "الآداب المرعيَّة"؛ لابن مفلح المقدسيِّ، مَن اتَّصف بها، كان على جانبٍ عظيم من الخُلُق والأدب الرفيع، والدين القويم:
قال الناظم الشاوي رحمه الله:
أخٌ ماجد ما دنَّس اللؤمُ عِرضَه ♦♦♦ ولا خاطَ كَشْحَيهِ على اللؤمِ والغَدرِ
 
أقول - أي: الألوسي رحمه الله -: الأخ مِن النسب معلوم، والصديق والصاحب، جَمعُه: أَخُونَ، وآخاءٌ، وإخوان بالكسر، وأُخوان بالضمِّ، وإخْوة بالكسر، وأُخْوة بالضمِّ، وأُخُوَّة وأُخُوٌّ مشدَّدين مَضمومَين.
 
والماجد: مِن المجد، وهو نَيل الشرف والكرم، أو لا يكون إلا بالآباء، أو كرم الآباء خاصة، مَجَدَ كنَصَرَ وكَرُم مَجدًا ومجادةً، فهو ماجد ومجيد، وأمجده ومجَّده: عظَّمه وأثنى عليه، والعطاءَ: كثَّره، وتَماجَدَ: ذكر مجدَه، وماجده مجادًا: عارَضَه بالمجد، فمجَدَه: غلبه، والمجيد: الرفيع العالي، والكريم، والشريف الفِعالِ، والماجِدُ: الكثيرُ، والحَسَنُ الخُلُقِ، السَّمْحُ، وقولهم في المثل: "في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار"؛ أي: استكثرا من النار.
 
والدَّنَس محرَّكة: [الوسخ، دَنِسَ الثَّوْبُ والعِرْضُ، كفَرِحَ، دَنَسًا ودَنَاسَةً، فهو دَنِسٌ: اتَّسَخَ]، وقوم أدْناسٌ ومدانيس، دنَّس ثوبَه وعِرضَه تَدْنِيسًا: فعَل به ما يَشينه.
واللؤم ضد الكرم، لَؤُم ككَرُم لؤمًا - بالضمِّ - فهو لئيم، جَمعُه: لئام ولُؤَماء.
 
والعِرض: الجسَد، والنفس، وجانب الرجل الذي يَصونه من نفسه وحسَبِه أن يُنتقص ويُثلب، أو سواء كان في نفسه أو سلفه أو مَن يَلزمه أمرُه، أو مَوضع المدح والذم منه، أو ما يفتخر به مِن حسب وشرف، وقد يُراد به الآباء والأجداد، والخليقة المحمودة؛ ولك حَمْلُه هنا على أيِّ معنًى شئتَ مما ذُكر.
 
والكَشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع، ولكل إنسان كَشحان؛ يُقال: طوى كشحَه على الأمر: أضمره وستَره، وطوى كشحه عني: قطَعَني.
 
والغدر ضد الوفاء، غدَرَه وغدر به؛ كنَصَر وضَرَب وسَمِع، غَدْرًا وغَدَرانًا، محرَّكة، وهي غَدُورٌ وغَدَّارٌ وغَدَّارَةٌ، وهو غادِر وغدَّار، وكسكِّيت، وصبور، وغُدَر كصُرَد؛ ويقال: يا غُدَر، ويا مَغْدَرُ؛ كمَقْعَدٍ ومَنْزِلٍ، وكذا يا بن مَغْدَرٍ، معارف، ويقال للمرأة: يا غَدَارِ؛ كقَطَامِ، والمَكْرُ: الخديعة، وهو ماكِر ومكَّار ومَكُور، وحاصل معنى البيت:
إن الذي صعب عليَّ فراقه هو أخي، على أي معنى شئت، وهو الذي تولَّى رُتب المعالي فارتقاها، واستولى على درجات الكمال فحازَها واقتناها، كريم الآباء والأجداد، عظيم القدر، عليُّ الشأن، رفيع العماد، لم يتَّصف بالغدر ولا بالخديعة والمكر، بل شأنه الوفاء ومُراعاة حقوق الإخاء، وهذا البيت لمح به الناظم إلى قول السموءل:
إذا المرء لم يَدنس مِن اللؤم عِرضُه ♦♦♦ فكلُّ رداء يَرتديه جميلُ
 
وشرَحَ هذا البيت الخطيب التبريزي فقال: يُقال: دنس يدنس دنسًا، وتدنَّس تدنُّسًا؛ إذا تكلفه، يقول: إذا لم يتدنَّس باكتساب اللؤم واعتياده، فأيُّ ملبَس يلبسه بعد ذلك كان جميلًا، وذِكرُ الرداء هنا مُستعار، وقد قيل: ردَّاه الله رداءَ عمله، فجعله كنايه عن مكافأة العبد بما يَعمله، كما جعله هذا الشاعر كناية عن الفعل نفسه، وتحقيقه: وأي عمل عمله بعد تجنُّب اللؤم كان حسنًا، واللؤم اسم لخصال تَجتمع؛ وهي البُخل، واختيار ما تَنفيه المروءة، والصبر على الدنية، وأصله من الالتئام؛ وهو الاجتماع، وإنما سُمي لئيمًا لاجتماع هذه المعايب فيه، و(إذَا) تتضمَّن معنى الجزاء، والفاء مع ما بعدها جوابه، وليس هذا البيت من قول الآخر:
ليس الجمال بمِئزَر ♦♦♦ فاعلَم وإن رُدِّيت بُردا
بسبيل، فتَعتقِد أنه يُريد بالرداء الثياب، انتهى.
 
وقول الناظم في هذا البيت، وهو أخٌ ماجد...
إلخ، يُشير به إلى أن الواجب على العاقل ألا يَغفل عن مُؤاخاة الإخوان، وإعداده إياهم للنوائب والحدثان؛ لأن مَن تعزَّى عن موضع سلوتِه بأخيه عند الهموم والغموم، كان عقله إلى التقديح أقرب، ومن النماء أنقص، وعن محمد بن واسع: "لم يتبقَّ مِن العيش إلا ثلاث: الصلاة في الجماعة؛ تُرزق فضلها، وتُكفى سهوها، وكَفاف من معاشٍ؛ ليس لأحد من الناس عليك فيه مِنَّة، ولا لله عليك فيه تبعةٌ، وأخٌ مُحسن العِشرة إن زغتَ قوَّمك"، وأنشد محمد بن عمران الضبي:






وما المرء إلا بإخوانه
كما تقبض الكفُّ بالمِعصَمِ


ولا خيرَ في الكف مقطوعةً
ولا خيرَ في الساعد الأجذَمِ






 
وعن بعض السلف: "الواجب على العاقل ألا يَعُدَّ في الأودَّاء إخاء مَن لم يُواتِه في الضراء، ولم يشاركه في السراء، فربَّ أخي إخاء خير مِن أخي ولادة، ومِن أتمِّ حِفاظ الأخوة تفقُّدُ الرجل أمورَ مَن يودُّه، والود الصحيح هو الذي لا يَميل إلى نفع، ولا يُفسده منع، والمودة أمنٌ كما أنَّ البغضاء خوف، والعاقل لا يُؤاخي إلا مَن خالفه على الهوى، وأعانه على الرأي، ووافَق سره علانيته؛ لأنَّ خير الإخوان مَن لم يُناقش، كما أن خير الثناء ما كان على أفواه الأخيار، والمُستوخم لا يُؤلف، كما أنَّ غير الثقة لا يُوَدُّ، فمتى ما آخى المرء مَن لم يُصافه بالوفاء، يجب الاستظهار عليه بمن يُسلِّيه عنه؛ فإن التودُّد ممَّن لا يودُّ يُعدُّ مَلَقًا، ولا يفُوت الإنسانَ في الأخوة أحدُ رجلَين: إما أريب قصَّر في حقوقه فاغتاله بمكر، وإما جاهل لم يُصافه فيؤذيه بسوء معاشرته، وصيانة الأخوة ليست إلا في الاستغناء عن الإخوان"، ولقد أحسن العباس بن عبيد بن يعيش حيث يقول:






كم مِن أخٍ لك لم يَلده أبوكا
وأخٍ أبوه أبوكَ قد يَجفوكا


صافِ الكرامَ إذا أردتَ إخاءهم
واعلَم بأنَّ أخا الحِفاظ أخوكا


كم إخوةٍ لك لم يَلدْك أبوهُمُ
وكأنَّما آباؤهم وَلَدوكا


لو كنتَ تَحمِلُهم على مَكروهة
تَخشى الهلاك بها لما خَذَلوكا


وأقاربٍ لو أبصَرُوك معلَّقًا
بنياط قلبك، ثَمَّ ما نَصَروكا


الناس ما استغنيتَ كنتَ أخًا لهم
وإذا افتَقرتَ إليهمُ فضَحُوكا






 
الواجب على العاقل أن يَعلَمَ أن الغرض من المؤاخاة ليس الاجتماع والمواكلة والمشارَبة، والسرَّاق يُداخِلون الرجال على التقارف، ولا يزدادون بذلك مودة، ولكن من أسباب المؤاخاة التي يجب على المرء لزومها: مَشْي القصد، وخفض الصوت، وقلَّة الإعجاب، ولزوم التواضُع، وترك الخلاف.
 
والعاقل لا يؤاخي لئيمًا؛ لأن اللئيم كالحية الصماء لا يوجد عندها إلا اللدغ والسم، ولا يَصِل اللئيم، ولا يُؤاخي إلا عن رغبة ورهبة.
 
ولله در الناظم؛ فقد أشار إلى جميع ما ذكرناه بلفظ موجز؛ فإنه قال: أخ، ثمَّ وصفَه بأنه ماجد، ثم بأنه ما دنَّس اللؤمُ عِرضَه، وأنه لم يَخِطْ كَشْحَيْه على الغدر، فسبحان من أفاض عليه هذه العلوم الربانية.
 
قال الناظم:
ولا قُلَّبٌ قلْب المودة إنْ يَغبْ ♦♦♦ له صاحبٌ يُدميه بالناب والظفر

قول: القُلَّب - بضمِّ القاف وتشديد اللام - يُقال: تَقَلَّبَ ظهرًا لبطْنٍ، وجَنْبًا لجَنْبٍ: تَحَوَّل.
وقولُهم: هو حُوَّلٌ قُلَّبٌ أَي مُحتالٌ، بصير بتَقْليبِ الأُمور.
 
والقُلَّبُ الحُوَّلُ: الذي يُقَلِّبُ الأمورَ، ويحْتال لها، وروي عن مُعاوية لما احْتُضِرَ: أَنه كان يُقَلَّبُ على فراشِه في مَرَضه الذي مات فيه، فقال: "إِنكم لتُقَلِّبُونَ حُوَّلًا قُلَّبًا، لو وُقيَ هَوْلَ المطلع"، وفي النهاية: "إن وُقيَ كُبَّةَ النار"؛ أي: رجلًا عارفًا بالأُمور، قد رَكِبَ الصَّعْبَ والذَّلُول، وقَلَّبهما ظَهْرًا لبَطْنٍ، وكان مُحْتالًا في أُموره، حَسَنَ التَّقَلُّبِ والقلب مضغه مِن النوار معلَّقة بالنياط وقال ابن سيده: "القلب النواد مُذكَّر، والجمع أقلب وقُلوب، وقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [الشعراء: 193، 194]؛ أي: نزل به جبريل عليك فوعاه قلبك وثبت فلا نَنساه أبدًا، وقد يُعبَّر بالقلب عن العقل؛ قال الفراء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: 37]؛ أي: عقل، وقال غيره: لمن كان له قلب؛ أي: تفهُّم وتدبُّر، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوبًا، وأليَنُ أفئدةً))، فوصف القلوب بالرقَّة، والأفئدة باللين، وكان القلب أخصَّ من الفؤاد في الاستعمال، ولذلك قالوا: أصبتُ حبَّة قلبه، وسُويداء قلبه، وأنشد بعضهم:
ليت الغراب رمى حماطةَ قَلبِه ♦♦♦ عمروٌ بأسُهُمِهِ التي لم تُلْغَبِ
 
وقيل: القلوب والأفئدة قريبان من السواء، وكرر ذكرها لاختلاف اللفظين تأكيدًا، وقال بعضهم: سُمي القلب قلبًا لتقلُّبه، وأنشد:
ما سُمي القلب إلا مِن تقلُّبه ♦♦♦ والرأي يصرف الإنسان أطوارًا
 
قال الأزهري: "ورأيت العرب تُسمي لحمة القلب كلها شحمها وحجابها قلبًا وفؤادًا، قال: لم أرهم يفرقون بينهما، قال: ولا أُنكر أن يكون القلب هي العلقه السوداء في جوفه)"، والمودَّة والود والوداد الحبُّ، ويُثلثان كالودادة، والمودة، والمودودة، وددته ووددته أوده فيهما، والغيب كل ما غاب منك، والصاحب المعاشر؛ يقال: صحبه كسَمِعه صحابةً، ويُكسر وصحبَه عاشَرَه، وهم أصحاب وأصاحيب وصحبان وصحاب وصحابة وصحب، ويُدميه مِن أدماه؛ بمعنى جرحه، والناب السنُّ خلف الرباعية، مؤنَّث، جمعُه أنيُب ونيوب، وأناييب جمع الجمع، ويُطلق على الناقة المسنَّة، وجمعها أنياب ونيوب ونيب.
 
والظفر بالضمِّ وبضمَّتين، وبالكسر شاء، ويكون للإنسان وغيره كالأظفور، جمعه أظفار وأظافر، حاصل معنى البيت أن ذلك الأخ الماجد، والصاحب المساعد، صادق في مودته، غير مُحتال في محبَّته، إن يغب عنه مُعاشره، يحفظ حديثه ويَصُنْ واجباته، فلا يدميه بالناب والظفر، ولا يؤذيه في قول ولا فعل، ولا يُقابله بضر، وفي هذا تعريض بأعداء الممدوح والخصوم، الذين اتصفوا بكل وصف مذموم، وفي الكلام استعارة بالكناية، واستعارة تخْييليَّة، وفي بيانهما طول، ومَن قرأ عِلْم البيان يَعرفها معرفة إتقان.
 
وقد أشار الناظم رحمه الله تعالى بهذا البيت كراهية التلوُّن في الوداد بين المتواخيين؛ لحديث سهل عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((لا خير في صحبة مَن لا يرى لك مِن الحق مثل ما ترى له))، فالواجب على العاقل إذا رزَقه الله ودَّ امرئ مسلم صحيح الوداد محافظ عيله أن يتمسك به، ثم يوطن نفسه على صلته إن حُرمه، وعلى الإقبال عليه إن صد عنه، وعلى البذل له إن حُرمه، وعلى الدنوِّ منه إن باعده، حتى كأنه ركن من أركانه، وإن من أعظم عيب المرء تلوُّنه في الوداد، وأنشد المنتصر بن بلال الأنصاري:






وكم من صديق ودُّه بلسانه
خؤونٌ بظَهر الغيب لا يتندَّمُ


يضاحكني كرهًا؛ لكيما أوده
وتتبعني منه إذا غبْتُ أسهُمُ






 
والعاقل لا يقصِّر في تعاهد الوداد، ولا يكون ذا لونين وذا قلبين، بل يوافق سره علانيته، وقوله فعله، ولا خير متآخين ينمو بينهما الخلل يزيد في حاليهما الدغل، كما أنشد عبدالعزيز بن سليمان الأبرش:






لحا الله مَن لا ينفع الود عنده
ومَن حبلُه إن مُدَّ غيرُ مَتين


ومن هو ذو لَونين ليس بدائم
على الوصل خوَّان لكل أمين


ومن هو ذو قلبَين، أما لقاؤه
فحُلْوٌ، وأما غيبه فظَنين


ومن هو إن تُحدِث له العينُ نظرةً
يقطِّع بها أسباب كلِّ قرين






 
وأنشد عمر بن محمد النسائي لابن الأعرابي:






العين تُبدي الذي في نفس صاحبِها
مِن الشناءة أو ودٍّ إذا كانا


إنَّ البغيض له عين يصدُّ بها
لا يَستطيع لما في الصدْر كِتمانا


العين تَنطق والأفواه ساكنةٌ
حتى تَرى مِن ضمير القلب تبيانا






 
وأنشد علي بن محمد البسامي:






وجار لا تزال تزور منه
قوارص لا تَنام ولا تُنيمُ


قريب الدار نائي الود منه
مُعاندة، أبتْ لا تسقيمُ


يُبادر بالسلام إذا التقينا
وتحت ضُلوعه قلبٌ سَقيمُ






 
وقال المقنَّع الكندي:






ابْلُ الرجالَ إذا أردت إخاءهم
وتوسَّمنَّ أمورَهم وتفقَّدِ


وإذا ظفرت بذي الأمانة والتُّقى
فبه اليدَين - قريرَ عينٍ - فاشْدُدِ


ومتى يزلُّ، ولا محالة زلةً
فعلى أخيك بفضل حِلمِكَ فاردُدِ


وإذا الخنا نقض الحبي في موضع
ورأيتَ أهل الطَّيش قامُوا فاقْعُدِ






 
كان أعرابي بالكوفة، وكان له صديق، وكان يُظهر له المودة، ونصَحه، فاتخذه الأعرابي من عدده للشدائد إذا حزب الأعرابي أمرٌ، فأتاه فوجده بعيدًا مما كان يُظهر للأعرابي، فأنشأ يقول:






إذا كان ودُّ المرء ليس بزائد
على مرحبًا أو كيف أنت وحالُكا


أو القول: إني وامق لك حافظ
وأفعاله تبدي لنا غيرَ ذلكا


ولم يك إلا كاشرًا أو محدِّثًا
فأفٍّ لودٍّ ليس إلا كذلكا


ولكنْ إخاء المرء مَن كان دائمًا
لذي الودِّ منه حيثما كان سالِكا






 
وقال محمد بن حازم:






وإنَّ من الإخوان إخوانَ كثرة
وإخوانَ حيَّاك الإله ومَرحبا


وإخوان كيف الحالُ والأهل كلُّه
وذلك لا يسوى نقيرًا مُترَّبا


جوادٌ إذا استغنَيتَ عنه بماله
يقول: إلى القَرضِ والقَرْضَ فاطْلُبا


فإن أنتَ حاولتَ الذي خلف ظَهرِه
وجدتَ الثريا منه في البُعدِ أقرَبا






 
فالعاقل الذي لا يُصادق المتلون، ولا يُؤاخي المتقلِّب، ولا يُظهر من الوداد إلا مثل ما يُضمر، ولا يُضمر إلا فوق ما يظهر، ولا يكون في النوائب عند القيام بها إلا ككونه قبل إحداثها والدخول فيها، لأنه لا يحمد من الإخاء مَا لم يكن كذلك؛ قال القائل:






وليس أخي مَن ودَّني بلسانه
ولكن أخي مَن ودَّني في النوائب


ومَن مالُه مالي إذا كنتُ مُعدما
ومالي له إن عضَّ دهرٌ بغارب


فلا تحمدن عند الرخاء مُؤاخيا
فقد تُنكر الإخوان عند المَصائب


وما هو إلا كيف أنت، ومَرحبًا
وبالبيض روَّاغ كروغِ الثَّعالبِ






 
انتهى، ويليه الجزء الثاني منه..

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢