أرشيف المقالات

دراسات تحليلية

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
إبراهيم بن أدهم للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ على سرير الملك، وبين بريق الذهب الذي يخطف الأبصار وشتى ألوان العز والسيادة: ولد الزاهد الورع والثقة المأمون، إبراهيم بن أدهم بن منصور بن عمار بن إسحاق التميمي، من أعرق بيوت الملك في فارس والعراق.
ولد في بلخ إحدى بلاد خراسان.
وشب تحيط به أبهة الملك وجلاله، وحوله أنواع من اللهو والمجون، اللذان يصاحبان الترف والنعيم، فتوفر إبراهيم على إمتاع نفسه بمختلف الألوان وألقى لها زمام الهوى ترتع من أنغام المزامير والألحان، وتنتشي بحلو الأهازيج وعذب الأنغام. وقد شهدت له البلاد أروع حلقات الرماية وأمتع مواكب الصيد، وهو على صهوة جواده الأشهب لا يعلق بغباره فارس ولا يجاريه في الرماية منافس، فهو الرامي الذي لا يخيب له سهم ولا ينجو من رميته صيد مهما أوتي من سرعة وخفة. وشغل إبراهيم نفسه وترك أمر الملك الذي ينتظره، ومقاليد البلاد التي تتطلع إليه، وراءه ظهرياً، فهو وحيد أبويه ووارث ملك أبيه من بعده فتوجس الناس خفية من أن بلي الملك هذا الفتى اللاهي، ويتسلم مقاليدهم هذا الخليع المستهتر. وفي يوم من أيام الجمعة بينما الناس خارجون من بيوتهم، قصدين بيوت ربهم، ملبين دعوة الداعي - حي على الصلاة - إذا موكب حافل يشق المدينة يتوسطه الفتى الفارس إبراهيم، يتهادى على فرسه، وحوله أبناء الأمراء وخاصته المقربون، خارجون إلى الصيد، فتهامس الناس في غضب وسخط: أما يرعوى هذا الخليع في يوم الجمعة المقدس، أفي مثل هذه الساعة يخرج إلى الصيد والقنص وكان أولى به أن يذهب إلى بيت الله؟ ومر إبراهيم بالمساجد الواحد بعد الآخر وعلى مآذنها المؤذنون يدعون الناس إلى الصلاة ويناجون رب السماء، فلم يلق بسمعه إلى ندائهم؟ وما كان لهذا النداء أن يرقي إلى سمعه وسط هذا الضجيج الذي تحدثه سنابك الخيل، ورنين السيف. وخرج الموكب من المدينة مشيعاً من الناس بالسخط والألم لهذا الاستهتار الشنيع بأمور الدين والتحدي لحرمات الله سبحانه وتعالى في يوم من أيامه المقدسة. السهام تتطاير، وحمر الوحش تنفر، والظباء تفر خفيفة رشيقة، والفتى الفارس إبراهيم يفتك بكل ما يعترضه منها فلا يفلت منه صيد.
وأسكرته نشوة المطاردة وأخذته لذة الظفر، فأبتعد عن حاشيته وتوغل في الغاب متأثراً صيداً ثميناً، حتى إذا أقترب منه وقوق إليه سهمه، وقبل أن يطلقه عليه ليرديه قتيلاً، سمع هاتفً وجف له قلبه وارتعدت له فرائصه، يهتف به قائلاً: (يا إبراهيم! ما لهذا خلقت ولا به أمرت) فتفت حوله وجال ببصره ذات اليمين وذات اليسار فلم يجد أحداً، فهم السير يبغي صيده الفار، ولكنه سمع الصوت مرة أخرى، فتوقف عن السير وسرح طرفه في الفضاء ليرى ذلك المتطفل الجريء، ولكن لم يقع نظره على أحد فعجب لذلك وأمتزج عجبه بالخوف. ولما صمت الصوت ظن أن سمعه قد خدعه، فأرخى عنان فرسه وهم بمعاودة المطاردة.
وما كاد يتحرك حتى سمع المنادي يقول: (يا إبراهيم؟ ما هذا العبث (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)) فردد إبراهيم النداء في ذهول مما سمع بعد أن تردد هذا النداء في جوانب الغابة، وتجاوب في فؤاده كما تجاوبت في الفضاء أصداؤه، وأعاده بعد أن تنبه من ذهوله، فإذا هو أنشودة عذبة ونغم شجي، ولحن عوي أيقظ في هذا القلب الغافل السر القدسي الذي يخص الله به عباده المؤمنين، وفتح مغاليق هذه النفس الساودة في الغي والضلال، فرأت بعين البصيرة جمال الإيمان. ما أحلى هذا النداء الجميل، والإنذار الرقيق: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً.
.)
لا أننا لم نخلق عبثاً، ولم نوهب هذه العقول العظيمة والقلوب الكبيرة لنعيش بها لاهين عابثين، فهذه العقول إنما وهبناها لنلتمس بها عظمة الخالق عزته وسلطانه، وهذه القلوب إنما أعطيناها لتستقر فيها معاني الرحمة والحب والسلام؛ ولنطير بها إلى ملكوت الله شوقاً وطرباً وإيماناً ففي الإيمان راحة وسلام، وفي الحب الرباني سعادة وحياة.
. وأفاق إبراهيم من ذهوله على حوافر فرسه تضرب الأرض يستحث الفارس الذي يمتطيه إلى متابعة الصيد النافر، ولكن إبراهيم أجاب جواده هذا بجواب مختلف عن سوابقه، فلم يرخ له العنان ليتابع المطاردة، بل أجابه قائلاً: لقد انتهى ذلك العهد فقد جاءني نذير من رب العالمين.
ثم لوى عنانه ليعود، فأنطلق به كالسهم؛ ولكن إبراهيم خفف من سرعته ولسان حاله يقول: لم نعد في حاجة إلى الإسراع، فالذي تقصد موجود أينما توجهنا وحيثما حللنا.
أينما تولوا فثم وجه الله، أنه واسع عليم.
حتى إذا وصل إلى أصحابه ورأوه يسير على مهل وقد عودهم أن يروه منطلقاً كالسهم يسابق الريح، هم أحدهم بسؤاله؛ ولكنه لمح في عينيه بريقاً آخر وفي وجه إمارات لم يعهدها من قبل.
ثم ترجل عن فرسه الحبيب وربت على ظهره في رفق وحنان ومسح بيده عليه ليطوي التاريخ صحيفة من صفحات اللهو والمغامرة، ولينشر صفحة من الزهد والتقوى والرضا والقناعة، صفحات تشرق بالنور القدسي الجليل.

ثم أتجه إلى أحبابه وسماره وأصدقائه وخلانه فودعهم.
وسار يضرب في فجاج الأرض مجاهداً صابراً، فلقي في طريقه راعي غنم أخذ منه جبة وكساء وأعطاه ثيابه.
ثم أعترضه خارج بلخ جبل فصعده، وكأنما يقول له: يا إبراهيم وطن نفسك على المشاق فكم في طريقك من جبال أصعب مني مرتقى وأقسى مني صلابة، حتى إذا وصل إلى مكان فيه كان التعب قد أخذ منه مأخذاً كبيراً فمال يبغي الجلوس في جوار حجر كبير، فرأى مكتوباً على الحجر: كل حي وإن بقى ...
فمن العيش يستقى فأعمل اليوم وأجتهد ...
وأحذر الموت يا شقي وبينما هو واقف يقرأ ويبكي أحس يدا رفيقة توضع على كتفه، فالتفت، فإذا رجل أغبر، فسلم الرجل عليه. وقال له: مم تبكي؟ فال إبراهيم، من هذا وأشار إلى المكتوب، فأخذ الرجل بيده ومضى به إلى صخرة كبيرة. وقال له: اقرأ، ثم قام يصلي، فقرأ إبراهيم على جانب من الصخرة. لا تبغين جاها وجاهك ساقط ...
عند المليك وكن لجاهك مصلحي وعلى الجانب الآخر: من لم يثق بالقضاء والقدر ...
لاقى أمورا كثيرة الضرر وفي أسفلها: إنما الفوز والغنى ...
في تقى الله والعمل فلما فرغ إبراهيم من القراءة التفت فلم يجد للرجل أثرا، فما درى هل أنصرف أو أين ذهب.
وسار إبراهيم يطوف في الأرض ترفعه رابية ويخفضه سهل، يبيت على الطوى أياماً لا يذوق فيها الطعام إلا إذا أصابه من عمل يده ووصل إليه يعرق جبينه، فكان يشتغل فاعلا أو حارساً أو حطابا، ثم يشتري الطعام فيطعمه أصحابه وهو صائم قانع بطعام المحبة ناعم باللذة العظمى، لذة الاطمئنان والإيمان.
فإذا أفطر أكل من رديء الطعام وحرم نفسه طيب المطعم، ليبر به الناس ويشبع به جائعي البطون تأليفاً لهم وتحبيباً وتودداً إليهم وتقربا إلى ربه، عملا بقول النبي ﷺ: عندما سأله رجل أن يدله على عمل يحببه إلى الله وإلى قلوب الناس، فقال له عليه السلام: (إذ أردت أن يحبك الله فابغض الدنيا، وإذا أردت أن يحبك الناس فما كان عندك من فضولها فأنبذه إليهم). ومرت السنون وإبراهيم هائم في حب الله يمسي في بلد ويصبح في آخر، يتلقى العلم من لدن حكيم عليم، ويشرب من كأس المحبة والصفاء، فترتوي نفسه ويأنس قلبه بنور ربة.
وقد وهبه الله المعرفة وطوى له بساط الأرض؛ فيما تراه اليوم في بيت المقدس تسمع عنه ذلك في دمشق أو غيرها من البلدان المتباعدة. حكى أبن عساكر قال: بينما أنا ببلخ إذا شيخ وقور حسن الهيئة جميل الطلعة أخذ منظره بمجامع قلبي فدعوته إلى الطعام فأتى، فقلت: من أين أقبلت؟ قال: من وراء النهر.
قلت وأين تريد؟ قال: الحج.
قلت في هذا الوقت؟.
وقد كان أول يوم من ذي الحجة أو ثانيه، فقال: يفعل الله ما يشاء.
فقلت: الصحبة.
قال: إن أحببت ذلك فموعدك الليل، فلما كان الليل جاءني فقال: قم باسم الله.
فأخذت ثياب سفري، وسرنا نمشي كأنما الأرض تجذب من تحتنا، ونحن نمر على البلدان، ونقول هذه فلانة وهذه فلانة، فإذا كان الصباح فارقني، وقال: موعدك الليل، فإذا كان الليل جاءني ففعل مثل ذلك فانتهينا إلى مدنية الرسول، ثم سرنا إلى مكة فجئناها ليلا، فقضينا الحج مع الناس ثم رجعنا إلى الشام فزرنا بيت المقدس.
وقال إني عازم على الإقامة بالشام.
فرجعت أنا إلى بلدي بلخ. عبد الموجود عبد الحافظ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢