أرشيف المقالات

صراع الإسلام والعلمانية من مصر إلى سوريا - شريف عبد العزيز

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .

السمة العامة للمشهد السياسي في بلاد الربيع العربي، بعد ثوراتها المجيدة التي أطاحت بعروش الاستبداد والطغيان، كانت الصراع الأيدلوجي بين الإسلام والعلمانية، ومن ثنايا هذا الصراع اندلعت كثيرٌ من المواجهات بين التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية ، وشاهد الجميع تداعياتها الأليمة في مصر وتونس وليبيا أيضًا، ولكن بصورة أقل حدةً، وذلك على الرغم من كون الثورات العربية كانت بلا أيدلوجية معينة، سوى أيدلوجية التحرر من الفساد والطغيان والاستبداد.

فالإسلام كان خيارَ الشعوب المفضَّل، بعد أن ذاقت طعم الحرية في تحديد المصير واختيار الطريق، في حين أن العلمانية كانت هي الحاكمةَ الجاثمة لعشرات السنين على دول المنطقة، وقد فُرضت فرضًا على الشعوب، وأُجبروا عليها جبرًا لا اختيار لهم فيه، ولأن العلمانية نَبْتٌ غريب وشاذٌّ في بلاد الإسلام والمسلمين، فقد ثبت في مواطنَ كثيرةٍ أن العلمانية في بلاد الإسلام، لا تحكم إلا إذا كانت مستبدة، ظالمة ديكتاتورية، حتى يرضخ الناس لها ويذعنوا لسلطانها..

فلما سقطت العروش القديمة، هُرعت الشعوب لاختيارها الأصلي وهو الإسلام، في حين تحاول العلمانية الدفاع عن سلطانها المتداعي، ونفوذها القديم، بأمثال ما نراه من صراعات مريرة لبست ثيابا مختلفة، فتارة ثوب السياسة، وتارة ثوب الثقافة، وتارة ثوب الاقتصاد، وتارة ثوب الفنون، وتارة ثوب الاجتماع، وهكذا، فكل ما نراه اليوم في بلاد الربيع العربي هو تداعيات الصراع الأساسي بين الإسلام والعلمانية.

وإن كان الصراع بين الإسلام والعلمانية، قد بدأ في هذه البلاد بعد نجاح الثورات في الإطاحة بعروش الطغيان، فإن الصراع في سوريا بين الإسلام والعلمانية، قد بدأ مبكرًا وقبل نجاح الشعب السوري في الإطاحة بآخر الأباطرة والطغاة، ذلك أن من قدر سوريا أن تكون ثورتها هي الثورة التي يدفع شعبها ثمن الخبرة والتجربة التي نالتها دول العالم، خاصة أمريكا وأوروبا والصهاينة، ومعرفتهم بمآلات الأمور في بلاد الثورة، والخلفية الأيدلوجية لمن جاءت بهم صناديق الانتخابات في سُدَّة الحكم..

لذلك كان خيار إجهاض الثورة السورية أو تعطيلها وتطويل أمدها، أكبر زمن ممكن هو المفضل عند الأمريكان والأوربيين وحلفائهم، لحين إعادة ترتيب أوراق اللعبة في مرحلة ما بعد الأسد، والتي أصبحت وشيكة جدًّا، وضمان عدم تكرار التجربة المصرية والليبية والتونسية، في وصول فصيل إسلامي ولو بأجندة منقوصة لسدة الحكم بسوريا؛ لأن ذلك يعني وقوع الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين ، بين شقي رحى لا تُضمن غوائلُه وَفْقَ الرؤية الأمريكية للأحداث.

ومن الأمور التي سرَّعت من وتيرة الصدام العلماني الإسلامي على أرض سوريا قبل سقوط الأسد، التغيير الكبير الذي حدث في تركيبة الجيش الحر، بعد تدفق مئات المجاهدين العرب من العراق والأردن ومصر وغيرهم على أرض سوريا للقتال ضد جيش الأسد، وكان لدخولهم ميدان الثورة زخم كبير ودفعة معنوية ومادية قوية جدًّا، تُرجمت في شكل العديد من الانتصارات الحاسمة وتفوق ميداني واسع ضد بشار وجنوده، ولكنَّ الأهم من ذلك أن العقيدة والأيدلوجية القتالية لدى الثوار تغيرت، وتم إعادة تشكيلها لتصبح عقيدة إسلامية صرفة، ترى ما تقوم ضد بشار وجنوده جهادًا في سبيل الله من أعلى الدرجات والمراتب، وأصبحت الجهادية السلفية حاضرة في مشهد الصراع بقوة، وحازتْ رضا وتأييد قطاعات كبيرة من الشعب السوري..

لما لمس في هؤلاء الأبطال من حب وبذل وفداء وتضحية وتجرد في الدفاع عن بلادهم، على الرغم من كونهم لا ينتمون إليه، وتدريجيًّا اختفت الشعارات العلمانية والشعوبية والقومية من ساحة القتال، لتحل محلها تنظيمات وتشكيلات وشعارات كلها إسلامية وموحية بطبيعة هذه التشكيلات، ليلقي ذلك بظلال من الحيرة والشك لدى دول الجوار ومَن يقف وراءهم من دول الخارج، وكان على أمريكا وأوروبا التفكير سريعًا في إعادة تشكيل البديل السياسي، الذي يفرض هيمنته وسيطرته على البديل العسكري المصبوغ بصبغة إسلامية محضة، واحتواء المشهد سريعًا قبل أن يخرج عن السيطرة، بانتصارات حاسمة يحققها الثوار المجاهدون على أرض الواقع، ومن ثَمَّ كان تشكيل ائتلاف واسع للمعارضة السورية، وقد حظِيَ بدعم واعتراف واسع من دول العالم، لا لشيء إلا لأنه وحسب الرؤية الأمريكية سيؤدي دوره في احتواء الحركات الجهادية في سوريا.

ثم كانت الخطوة التي قام بها أوباما في وضع جبهة (النصرة)، وهي تعتبر ميدانيًّا واحدة من أهم وأقوى تشكيلات المجاهدين في سوريا على لائحة التنظيمات الإرهابية، كانت بمثابة الخطوة التالية على طريق محاصرة النفوذ الإسلامي الجهادي في سوريا، بعد خطوة إعادة تشكيل المعارضة السياسية، وكانت هذه الخطوة بمثابة بالون اختبار من الإدارة الأمريكية على مدى التزام المعارضة السياسية بالخط المرسوم لها أمريكيًّا ودوليًّا، وتم اختيار جبهة النصرة دون غيرها من أجل هذا الاختبار، لاقتصارها تقريبًا على المجاهدين العرب دون غيرهم، فكان رد فعل المعارضة السياسية مخالفًا لما يتوقعه الأمريكان والأوربيون، إذا أدانت المعارضة السياسية هذه الخطوة، وأصدرت بيانًا شديد اللهجة بخصوص هذا الإجراء الأمريكي المستفز للسوريين جميعًا..

فهذا رئيس الائتلاف الوطني الأستاذ (أحمد معاذ الخطيب)، والعميد (سليم إدريس) رئيس المجلس العسكري الذي تشكل قبل أسبوع، استنكرا قيام (أوباما) بوضع (جبهة النصرة) على قائمة الإرهاب، والمجلس العسكري يضم تحت جناحه أكثر من 90% من التشكيلات المقاتلة، ليس هذا فحسب، بل إن الشعب السوري رفض وضع (أوباما) جبهةَ النصرة على قائمة الإرهاب، عندما خرج متظاهرًا يوم الجمعة 14 ديسمبر الجاري رافعين لافتات تقول: "لا إرهاب في سورية إلا إرهاب النظام".

ووفق هذه المتغيرات المتلاحقة، قرر العلمانيون السوريون وبعد تمنُّعٍ طويل خوفًا من الاتهام بممالأة النظام المستبد، قرروا أن يسفروا عن وجوههم الكالحة، وينزلوا حلبة الصراع ضد التيار الإسلامي في سوريا، وتولى كِبْرَ هذه الحركة العلمانية واحدٌ من أشهر المعارضين السوريين، والذي كان لفترة قريبة يحظى بالاحترام والقبول لدى جميع السوريين، وهو الأستاذ (ميشيل كيلو) المفكر اليساري صاحب المواقف الصلبة ضد نظام الأسد، والذي سجن بسببها سنوات عديدة ولم يخرج من سجن بشار إلا سنة 2009.

هذا الرجل المعروف بثقافته الواسعة واهتمامه بالحضارة الإسلامية، التي قال عنها يومًا ما وقت اعتداله واستقامة قلمه: "كيف تستطيع أن تكون مسيحيًّا فقط في بيئة تاريخية أعطتك ثقافتك ولغتك وحضارتك، وجزءًا مهمًّا من هويتك"، لم يستطع أن يتحمل رؤية العلمانية التي يؤمن بها تهوى وتنهار تحت أقدام المد الإسلامي الجارف في المنطقة عمومًا وفي سوريا خصوصًا، فإذا به وبعد دعوة خاصة جدًّا من روسيا، راعيةِ الإرهاب الأسدي له ولزميله (عارف دليلاً) لحضور مؤتمر في موسكو مع أزلام بشار الملطخة أيديهم بدماء السوريين، إذا به ينقلب على الثورة والثوار والمجلس الوطني الذي اعترف به 114 دولة في العالم ممثلاً وحيدًا للشعب السوري، إذ به ينقلب عليهم، ويشن حملة تشويه مدفوعة الأجر ضد التيار الإسلامي، واصفًا إياه بأوصاف لا تختلف كثيرًا عن أوصاف صحافة بشار وأصدقائه في روسيا وإيران ولبنان، مِن عينة أنه: (البديل غير الديمقراطي لبشار) و(المنتهجين للعنف سبيلاً وحيدًا في التغيير)..

واتهم التيار الإسلامي بالقفز على الثورة، فقال في مقالة له بصحيفة السفير اللبنانية: "هل كل من يريد إسقاط النظام هو ثوري؟ وهل هو بالضرورة شريك للثوريين في نضالهم، إن كانت الثورة تعني حصرًا للحرية والكرامة والعدالة والمساواة وليس الانتقام والتمييز الطائفي والعنف الأرعن؟".

ميشيل كيلو، وهيثم مناع، وعارف دليلا، وغيرهم من رموز العلمانية في سوريا يمارسون اليوم نوعًا من الإرهاب والاستبداد، لا يقل عما يقوم به بشار وجنوده، وذلك لأهداف معينة ومحددة، منها خدمة أيدلوجيات خاصة بهم، وخوفًا من وصول البديل الإسلامي للحكم في سوريا، وخدمة لسدنة العلمانية الدولية، وخدمة للأجندات الأمريكية والأوروبية في ترسيم نطاقات الحكم في سوريا بعد بشار، وضغطًا على التيار الإسلامي المتوقع أن يستلم الحكم بعد بشار لتخفيض سقف طموحاته ومشروعاته في سوريا.

وإن أسوأ شيءٍ أن يتحول النضال إلى تجارة والثقافة إلى سلاح والمعارضة إلى مصلحة، يتاجر بها كيلو وغيره ممن كانوا يومًا ما أعمدةَ الأمل في نهضة سوريا، من أجل الوصول لأهداف خاصة وتنفيذًا لأجندات خارجية، وإن أسوأ ختام لأي معارض سياسي، أن يكتشف شعبُه في النهاية أنه مجرد تاجر يتربَّح بمعارضته ونضاله على موائد من يدفع أكثر.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣