شرح زاد المستقنع باب الدعاوى والبينات


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الدعاوى والبينات].

الدعاوى: جمع دعوى، ويقال: دعا إذا طلب، ودعا إذا تمنى في لغة العرب. والمراد بها إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته، هذا بالنسبة لحقيقتها في اصطلاح العلماء رحمهم الله، وهذه الإضافة توسّع بعض العلماء فيها، فقالوا: إنها من حيث الأصل تأتي على سبيل الإثبات وعلى سبيل النفي.

وقوله رحمه الله: (والبينات) جمع بينة، وقد تقدم تعريفها.

يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحكام المسائل التي تتعلق بأحكام الدعاوى في القضاء وأحكام البينات والحجج التي يرفعها الخصوم لكي يثبت كل واحد منهم صحة ما يدعيه، والبينات تتعدد وتختلف، ولذلك يفرد العلماء رحمهم الله باباً يختص بالدعاوى وبالبينات ويلحقونه بكتاب القضاء.

الفرق بين المدعي والمدعى عليه

قال رحمه الله: [المدعي من إذا سكت تُرك].

والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك هذه المسألة تعرف بمسألة تمييز المدعي من المدعى عليه، ولا يمكن لقاضٍ أن يقضي في قضية حتى يستطيع أن يعرف أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، ومن أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، أن يميز بين المدعي والمدعى عليه، إذ لا يمكن لأحد أن يفصل في قضية، حتى ولو لم تكن قضائية، حتى في العلم في مسائل العلم؛ لأن الإنسان إذا علم من هو المدعي، قال له: عليك الحجة وعليك البينة، وطالبه بالحجة والبينة، وإذا علم المدعى عليه بقي على قوله حتى يدل الدليل على خلافه، ولذلك تجد طلاب العلم الذين لا يحسنون هذا الباب، يجلس بعضهم مع بعض، ويقول كل واحد منهم: أعطني دليلاً، والآخر يقول: أعطني دليلاً، فهم لم يعرفوا الأصول ولم يثبتوا الأصول، حتى يميزوا من الذي يطالب بالدليل والحجة، ومن استطاع أن يضبط الأصول ويعرف القواعد والأسس في ضبطها، فإنه لا يشكل عليه أمرها. ومن هنا قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: من عرف المدعي من المدعى عليه،لم يلتبس عليه حكم في القضاء.

إذاً لابد من معرفة حال المدعي والمدعى عليه، حتى قال بعض العلماء في نظمه:

تمييز حـال المدعي والمدعى عليه جملة القضـاء وقعا

عليه جملة القضاء وقعا:كل القضايا لا يمكن أن يبت فيها حتى يُعرف من المدعي ومن المدعى عليه.

وهذه الضابط الذي ذكره المصنف رحمه الله ارتضاه كثير من أهل العلم رحمهم الله. وصححوه، وقال به فقهاء الحنفية، وقال به بعض الشافعية، ورجحه الإمام الشوكاني وغيره، وانتصر له الإمام الماوردي رحمة الله على الجميع في الحاوي: أن المدعي من إذا سكت تُرك؛ لأن الحق حقه، فلو أنه لا يريد أن يدعي لا نأتي ونقول له: طالب، ويجب عليك أن ترافع، والمدعى عليه إذا أقيمت عليه الدعوى، فإنه إذا سكت، نقول له: أجب، ولا يترك، ويطالب بالرد، لكن المدعي لا يطالب؛ لأن له الحق في أن يطالب، وإذا سكت ولم يطالب لم يفرض عليه أحد أن يتكلم، ولم يفرض عليه أحد أن يخاصم، ولكن المدعى عليه -ولا تقل: هذا مدعى عليه؛ إلا إذا ثبتت دعوى- لا يمكن أن يترك؛ بل يقال له: أجب، وقد تقدم معنا أنه يجبر على الجواب حتى ولو سكت:

ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمـه كلفه إجبارا

ولذلك يطالب وإذا سكت لم يترك، أما المدعي فهو الذي إذا سكت ترك، هذا هو الضابط الذي اختاره المصنف رحمه الله. وهناك ضابط آخر -وهو صحيح وقوي جداً- وهو أن المدعي من كان قوله موافقاً للأصل، والمدعى عليه من كان قوله خلاف الأصل، فمثلاً: شخص جاء وقال: فلان زنى. فالأصل أنه غير زانٍ، فحينئذ الذي قال: فلان زنى، هذا مدعٍ، والطرف الآخر الأصل -وهو المدعى عليه- فيه البراءة من التهم، حتى يثبت أنه متهم، فإذا قال شخص: فلان ضرب فلاناً. الأصل أنه لم يضرب، فحينئذ الذي يقول: فلان ضرب فلاناً؛ مدعٍ. ويكون الطرف الآخر مدعىً عليه، هذا ضابط.

وهناك ضابط آخر يضبط القضايا بألفاظها. فقال بعضهم: المدعي من يقول: حصل كذا، كان كذا، يعبرون بقولهم: كان كذا، أي: بعت، اشتريت، أجَّرْت، أخذ مني سيارةً، أخذ داري، اعتدى عليَّ، شتمني، ضربني، والمدعى عليه: هو الذي يقول: ما ضربته، ما شتمته، لم يكن كذا. فقالوا: المدعي هو الذي يقول: كان، والمدعى عليه: هو الذي يقول: لم يكن.

وكذلك أيضاً يعرف المدعي إذا كان قوله خلاف الظاهر، والمدعى عليه من هو على الظاهر ويكون بالعرف، فمثلاً: عندنا بالعرف أنه إذا كان شخص يسكن في بيت، وجاء شخص وقال: البيت بيتي، أو العمارة عمارتي، أو الأرض أرضي، فحينئذ الظاهر أن الأرض لمن يعمل فيها، والبيت لمن هو ساكن فيه، فظاهر العرف يشهد بأن الإنسان ما يتصرف إلا في ماله، كذلك لو وجدنا شخصاً راكباً على بعير، والآخر غير راكب، فقال الراجل: هذا بعيري، فالظاهر يشهد وكذا العرف يشهد بأن هذا مدعٍ، والراكب مدعىً عليه، ونعود في ذلك إلى التعريف الذي ينص على أن الذي خلا قوله عن الأصل وعن العرف أو الظاهر الذي يشهد بصدق قوله فإنه حينئذ يكون مدعياً.

وأما إذا اقترن قوله بالأصل واقترن قوله بالظاهر؛ فإننا نقول: إنه مدعىً عليه، وحينئذ لا نطالبه بالحجة، ونبقى على قوله حتى يدل الدليل على خلاف قوله، والبعض صاروا إلى هذا كما يقول الناظم رحمه الله:

فالمدعي من قوله مجـرد من أصل أو عرف بصدق يشهد

(من أصل) فمثلاً قال: فلان زنى، الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. فقوله مجرد من الأصل، فنقول له: ائتِ بالبينة، وأنت مدعٍ أو (عرف بصدق يشهد) أي: عرف يشهد بصدق قوله، وقد قلنا: إن العرف يحكم بأن راكب الدابة هو صاحبها، وكذلك لو كان اثنان على دابة، فالعرف يقضي أن الذي في المقدمة مالكها، أي: لو قال كل منهما: هذه دابتي، فالذي في المقدمة مدعىً عليه والذي في الخلف مدعٍ. ولو كانا في سيارة وأحدهما يقود والآخر راكب، فإن العرف يشهد بأن الذي يقود السيارة مالكها -والآن أوراق التملك تحل القضية- فمن حيث الأصل أن المدعي من تجرد قوله من الظاهر ومن الأصل ومن العرف الذي يشهد بصدق قوله:

وقيل من يقول (قد كان) ادعى و(لم يكـن) لمن عليه يُدعى

(وقيل) أي: من جملة الأقوال في ضابط المدعي والمدعى عليه، (من يقول: قد كان؛ ادعى أي: أنه مدعٍ، كان كذا، حصل كذا، وقع كذا، فلان ضرب، فلان شتم، فلان أخذ، فلان سرق، فلان كذا. فهذا مدعٍ. والذي قال: ما فعلت، أو ما سرقت، أو ما أخذت، أو ما تكلمت، أو ما آذيت. هذا مدعىً عليه.

عدم صحة الدعوى إلا من جائز التصرف

قال رحمه الله: [ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف].

وهو المكلف البالغ العاقل الحر الرشيد، وقد تقدم هذا معنا في عقود المعاملات المالية، وبينا أنه لا يصح التصرف من رجل مجنون. ولا من صبي إلا في مسائل مخصوصة، مثل الصبي المميز إذا أذن له وليه بالتجارة، ولا يصح التصرف من العبد كما أخبر الله عز وجل ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75]، وبينا هذا وبينا الأصول والأدلة التي تدل عليه، وجائز التصرف يشترط أن يكون رشيداً، فالسفيه لا يصح تصرفه، فلو أقام الدعوى -في المال- من هو محجور عليه لم تقبل دعواه؛ لأنه ليس له حق في ذلك.

القول قول صاحب اليد مع يمينه إلا إذا وجدت بينة

قال رحمه الله: [وإن تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه إلا أن تكون له بينة فلا يحلف].

مثلاً: محمد وعبدالله اختصما على أرض، أو كتاب أو ثوب، وهذه الشيء بيد أحدهما، وليس المراد بقوله: (بيده) القبض باليد، لكن بالمعنى الشمولي العام، فتقول: (في يده) أي: تحت تصرفه أو تحت عمله أو تحت ولايته ونظره، وهو الذي يقوم عليها، وهو الذي يتصرف بها، فحينئذ فالسيارة (في يده) أي: يقودها، ومعه مفاتيحها، والبيت إذا كان ساكناً فيه، والأرض يحرثها ويزرعها، ويقوم على مصالحها، فجاء محمد ادعى عيناً بيد عبد الله، وقال: الأرض أرضي، أو السيارة سيارتي، أو القلم قلمي.. الثوب ثوبي.. الكتاب كتابي، فنظرنا فوجدنا أن الكتاب بيد عبدالله، فحينئذ نقول لمحمد: أنت مدعٍ، وحينئذ لا يمكن أن تقبل دعواك إلا إذا أقمت البينة وإلا حلف خصمك وانتهت القضية.

فمن ادعى عيناً في يد آخر فحينئذ يطالب الخارج بالبينة والداخل لا يطالب إلا باليمين في حال الإنكار إذا سأل خصمه أن يحلف اليمين وإلا لم يلزمه شيء.

تعارض البينات

قال رحمه الله: [وإن أقام كل واحد بينة أنها له، قضى للخارج ببينته ورفض بينة الداخل]

هذه المسألة مشهورة عند العلماء، وهي مسألة تعارض البينات، فلو اختلفا في بيت أو في كتاب أو في أرض -أي: سواء كان عقاراً أو منقولاً- وعرفنا من المدعى عليه أحدهما القائم على مصالح هذا الشيء، كساكن في البيت في الداخل، وجاء الخارج وأقام بينة، ثم الداخل أقام بينة، هذا عنده شاهدان يشهدان أن البيت بيته، وأنه لن ينتقل منه إلى الآخر إلا بعوض؛ لأن البيت بيته وأنه ملك له، والآخران أيضاً شهدا بأن البيت بيت فلان وملك لفلان، فهذان شاهدان وهذان شاهدان، والشريعة اعتبرت الشهادة حجة، فماذا يفعل في هذه الحالة؟ طبعاً من العلماء من قال: تسقط البينتان، يعني بينة الداخل وبينة الخارج، أي: إذا تعارضتا سقطت هذه وسقطت هذه فألغيتا؛ لأننا لو عملنا بهذه بناء على أن الشرع يعتبرها حجة، فكذلك يجب علينا أن نعمل بالأخرى؛ لأن الشرع يعتبرها شهادة وحجة ليس عليها أي غبار ولا فيها أي مطعن، فلا يمكننا أن نفضل حجة على حجة، وإن فهم القضاء بالحياد لأحد الخصمين لكن إن وجد المجرم قال سقطت البينتان.

لكن هناك أحوال بعض العلماء يستثنيها، يقول: لو كانت إحدى البينتين شهودها معروفون بالضبط وبالإتقان وبالعدالة، وهذا تغليب ظن قوة الحجتين، قالوا: فترجح، لكن هذا ضعيف؛ لأن العلم المستفاد من حيث الأصل حجية، والحجية موجودة في الاثنين، فحينئذ مثلاً إذا كان الشاهد مرضياً فلا إشكال إذا قامت الحجتان.

ومن أهل العلم من قال: نقدم بينة الخارج على بينة الداخل، وهذا هو الذي رجحه المصنف رحمه الله، بمعنى أنه يقول: إذا كنت ساكناً في الدار وعندك حجة وبينة، والآخر خارج الدار وادعى عليك وجاء بحجة وبينة؛ قدمنا حجة الخارج، قال: لأن هذا الذي في داخل البيت لما أثبت لنفسه فالظاهر شاهد على حاله، وبالنسبة للخارج جاء بشيء يحتمله العرف، وهو أنه باع أو تصرف، أي أن الساكن في البيت قد باع للخارج، ومن هنا تقوى بينة الخارج وترجح على بينة الداخل، هذا تعليل بعض العلماء في ترجيح القول الذي اختاره المصنف.

ولكن في الحقيقة من أقوى القرائن: زيادة العلم، وهي أن بعض العلماء قال: إن بينة الداخل -الذي هو داخل الدار- جارية على الأصل، وبينة الخارج ناقلة من الأصل، والناقل عن الأصل جاء بزيادة، وحينئذ يقدم، وهذه المسألة مثل ما ذكروا إذا تعارض الحاضر والمبيح، قالوا: يقدم الحاضر على المبيح؛ لأن المبيح جارٍ على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، فإذا جاء المحرم فمعنى ذلك أننا نقلنا عن الأصل فصارت استفادة وزيادة علم هذا وجه.

فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تقدم حجة الخارج، وأن بينة الخارج ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، لأن هذا التعليل في كلتا الحالتين ضعيف، وأن الأقوى والمعتبر من جهة النص، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، فنحن نقول: هذان شخصان اختلفا في البيت، فإذا جئنا نقدم بينة الداخل على بينة الخارج خالفنا النص؛ لأن الذي في الداخل مدعى عليه، والذي في الخارج مدعٍ، فحينئذ الأصل الشرعي يقتضي أن ينظر في بينة الخارج لا في بينة الداخل؛ لأن الذي في الداخل مطالب باليمين -إذا لم توجد بينة- ولا يطالب ببينة، إنما الذي يطالب بالبينة هو الخارج، ومن هنا نرجح أن هذا القول قوي من جهة النقل لا من جهة العقل والتعليل؛ لأن الذي ذكرناه في الأول تعليلات، فنرجح هذا القول الذي نص عليه المصنف رحمه الله وهو تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، ويكون الترجيح مستفاداً من جهة أن بينة الخارج مبنية على النص، حيث إن المدعي مطالب بالبينة والمدعى عليه لا يطالب بالبينة، فحينئذ نقول: لما جاءتنا بينة الخارج لزمنا بحكم النص أن نعمل بها، ومعارضة بينة الداخل، ومثله ليس له أن يأتي بالحجة، فتُقدم حجة الخارج على الداخل، هذا بالنسبة للمسألة إجمالاً ووجه ترجيحها، وعلى كل حال لا يخلو الفقهاء من بعض المخارج، كان بعض مشايخنا يقول: فليخرج، ثم إذا خرج يقيم دعوى جديدة، ويأتي ببينة حتى يصبح الأمر على الدور، ومن هنا قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، فإنما أسقطنا البينة الثانية؛ لأنها تؤدي إلى الدور، (وما أدى إلى باطل فهو باطل)، والفقيه يجد له مخرجاً.