شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب القضاء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب القضاء].

تعريف القضاء

القضاء يطلق في اللغة على عدة معانٍ:

الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]، وقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] .. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها.

الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] .

الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر:66] أي: أعلمناه.

الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14] أي: أصبح أمراً محتماً لازماًعليه.

الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12].

أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد.

وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل. وهذا من أنسب التعاريف.

مشروعية القضاء

القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، وقال سبحانه تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] ، فأمر بالقضاء.

والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.

وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.

وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.

والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.

فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل.

قيل لـأبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟

قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح.. يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.

وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس : يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك. وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.

وقيل: لما قيل لـأبي حنيفة : لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك. يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.

القضاء فرض كفاية

قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية].

وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

القضاء يطلق في اللغة على عدة معانٍ:

الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]، وقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] .. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها.

الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] .

الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر:66] أي: أعلمناه.

الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14] أي: أصبح أمراً محتماً لازماًعليه.

الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12].

أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد.

وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل. وهذا من أنسب التعاريف.

القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، وقال سبحانه تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] ، فأمر بالقضاء.

والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.

وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.

وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.

والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.

فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل.

قيل لـأبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟

قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح.. يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.

وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس : يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك. وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.

وقيل: لما قيل لـأبي حنيفة : لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك. يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.

قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية].

وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

قال رحمه الله: [يلزم الإمام أن ينفذ في كل إقليم قاضياً].

يجب على إمام المسلمين وولي أمرهم أن يختار القضاة للأمصار والأقاليم وفي الأماكن على حسب الحاجة، فيعين من هو أهل للقيام بهذه المصالح.

والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث القضاة -وممن بعثهم علي رضي الله عنه- وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده اختاروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء وأرسلوهم قضاة في الأمصار والأقاليم، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار القاضي، ولعظم مسئولية القضاء لا يختار له كل أحد، بل ينبغي أن تتوافر فيه الصفات المعتبرة.

قال رحمه الله: [ويختار أفضل من يجده علماً].

لأن الله سيسأله عمن يختاره، وسيقف بين يدي الله ويسأل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعما اختار لهم، إن نصح فقد نصح، وإن لم ينصح فإنه مسئول محاسب عن ذلك.

إذاً: من واجب النصيحة أنه إذا وجد الناس على فضل بحث عن أفضلهم وأكملهم، وهذا مبالغة في النصيحة لعامة المسلمين، وكل من ولي أمراً من أمور المسلمين -حتى ولو كان مدرساً- وأراد أن يختار أحداً للقيام بمصلحة من المصالح فعليه أن يختار الأفضل، فهذه هي النصيحة التي هي الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) أن ينصح لعامة المسلمين باختيار الأفضل علماً -أن يكون عنده علم ودراية-؛ لأنه لا يمكن إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا بالبصيرة، وهي النور الذي يقذفه الله في القلوب، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [النساء:162] فالرسوخ والبينة طريقان لاستبانة الحق ومعرفته؛ لأن الجاهل بالحق لا يمكن أن يقضي به، فلابد أن يكون لديه علم.

ويعرف علم الرجل بشهادة العلماء وبشهادة من هو أعلم بأن فلاناً عنده علم، فإذا شُهد له -أو عرف بالسماع عنه- أنه مبرز في علم القضاء فإنه يختار لذلك.

[وورعاً].

الورع أن يكون عنده انكفاف عن محارم الله عز وجل، فيدع ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس، وإذا كان القاضي ورعاً عف عن أموال المسلمين، وكف عن أذيتهم بلسانه وعن أذيتهم بقوته وسلطانه، وكان أخوف ما يخاف من الله عز وجل أن يقف أحد منهم خصماً له بين يدي الله سبحانه وتعالى.

وهذا الورع هو الذي يقف به في وجه الظالم لكي يكبحه عن ظلمه كائناً من كان، ويجد أنه بهذا الورع أقوى من القوي في قوته، ويجد أن الضعيف في عينه صار قوياً بهذا الورع، وأن القوي صار ضعيفاً.

نماذج من القضاة القدوة

القضاة من أئمة السلف رحمهم الله ودواوين العلم والصلاح سطروا المواقف العظيمة الجليلة الكريمة.

فقد أثر أن المأمون لما جاء إلى المدينة ومعه الحمالون لمتاعه ما إن نزل واستقر حتى أتوا إلى قاضي المدينة؛ فما إن دخل إلى قصر عامله بالمدينة حتى جاءه رسول القاضي يقول له: إن القاضي يدعوك إلى مجلس القضاء، حضر خصوم لك. فما كان منه إلا أن بعث حاجبه، وقال له: إذا خرجت فمر الناس ألا يقوموا؛ فإني ماض إلى مجلس القضاء.

فلما مضى إلى مجلس القضاء وجاء إلى مجلس القاضي فرشت له السجادة، فقال له القاضي: يا أمير المؤمنين! لا تترفع عن خصمك، -وخصومه هم الحمالون الذين كانوا يحملون متاعه لما جاء مسافراً من دار الخلافة إلى المدينة- فإما أن تفرش لك ولهم وإلا جلست معهم على أرض المسجد. فجلس معهم على أرض المسجد، فلما جلس معهم قال: ما خصومتهم؟

قال: إنهم لم يأخذوا حقوقهم، فقال: إني قد أمرت وكيلي أن يدفع إليهم، قال: فلتدفع إليهم الساعة؟ قال: أفعل. فما كان من القاضي بعد أن انتهى هذا الأمر إلا أن ذهب وجلس وراء المأمون، فقال له: ويحك! ما الذي تفعله؟ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في حق الله وقضيت، فالآن أبقى في حق أمير المؤمنين.

وفي زمان الرشيد أثر عن أحد القضاة أنه كان من أصلح القضاة، فجاءته امرأة فقالت له: أنا بالله ثم بالقاضي من عم أمير المؤمنين عيسى بن موسى ، وكان له مكانته، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أبي خلف لي بستاناً فكان بيني وبين أخوتي، فاشترى من إخوتي نصيبهم وساومني أن يأخذ حقي فامتنعت، فما زال بي حتى كان البارحة أرسل أعوانه فهدموا الجدار فأصبحت لا أعرف حقي من حق إخواني، فأنا بالله ثم بالقاضي.

فكتب إليه: إلى عم أمير المؤمنين فلان بن فلان، تحضروا إلى مجلس القضاء أنت أو وكيلك، فقد حضرت امرأة تستعدي عليك. فلما جاء الكتاب إليه أخذته العزة بالإثم فغضب غضباً شديداً فنادى أكبر العلماء في قرية كانت في ضاحية فقال له: اذهب إلى هذا القاضي وقل له: نوليك القضاء حتى تقضي علينا؟! فقال له هذا العالم الموفق: أعفني من ذلك؛ لأنه يعرف أن هذا القاضي صارم لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: أعفني من ذلك، قال: والله! لا يذهب غيرك. قال: أما وقد أقسمت علي فإني سأبعث بفراشي إلى سجن القاضي؛ لأنه يعرف أنه سيسجنه. فما إن جاء إلى القاضي وقال له: إن عم الخليفة يقول لك كذا وكذا، قال: بئس ما جئتني به، أوتحول دون الحق، وتعين على الباطل؟! اذهبوا به إلى السجن. قال: قد علمت، وقد سبقني فراشي. فكتب إليه مباشرة؛ لأنه رد الشرع وأهان القاضي فرد له بالإهانة: إلى فلان بن فلان حضرت امرأة تستعدي عليك، فلتحضر إلى مجلس القضاء بنفسك.

بينما في المرة الأولى قال له: أنت أو وكيلك، فقال له هذه المرة: بنفسك.

فما كان منه إلا أن ازداد غضبه ثم نادى تسعة من العلماء من أعيان البلد وأمرهم أن يذهبوا، فلما صلى القاضي العصر جاءوا حوله وتحلقوا لكي يساوموه في المصلحة وما تقتضيه المصلحة، فلما تكلموا قال: بئس ما جئتوني به، هل هنا أحد من فتيان الحي؟ فقالوا: أنا أنا، فقال: كل منكم يأخذ بواحد منهم ويذهب به إلى السجن. ثم كتب إليه: إما أن تحضر إلى مجلس القضاء وإلا ختمت القنطر، فوالله! لا خير فيَّ إن لم أقم الحق عليك وعلى غيرك.

فلما مضى إليه الكتاب ما كان منه إلا أن غضب ولم ينظر في الكتاب ولم يقرأه.. ثم أمر بالباب أن يكسر وأخرج أولئك من السجن، فلما بلغ ذلك القاضي ختم القنطر، وإذا ختم القنطر لابد أن يذهب إلى هارون الرشيد ، فلما صلوا المغرب إذا به قد تهيأ أن يخرج، فخرجت القرية عن بكرة أبيها؛ لأن من نصر الحق نصره الله عز وجل، فصاح الناس، وسأل هذا: ما شأن الناس.. وهو جالس في مزرعته؟

قالوا: إن القاضي ختم القنطر وهو يريد أن يذهب إلى أمير المؤمنين. قال: وما شأنه؟

قالوا: لأنك لم تأت إلى مجلس القضاء. وكان يعلم أن هارون الرشيد رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، كانت له حسنات جليلة، فعلم أنه لو ذهب إليه سيهينه ويرده إلى مجلس القضاء، فما كان منه إلا أن ركب دابته ووقف للقاضي في طريقه قبل أن يخرج من القرية، فقال له القاضي: لا أرضى حتى يرجع كل من أخرجته؛ لأن هذا حق لله لست أنت الذي تخرجه. فردوا إلى مجلسه، فلما ردوا قال له: تذهب الآن مع المرأة وتدخل إلى المسجد. فمضى معها كما يمضي غيره من عامة الناس، ثم لما دخل القاضي وصلى الركعتين وجلس للخصومة جاء عم أمير المؤمنين فأراد أن توضع له الطنفسة، قال: تجلس على أرض المسجد ولا تجلس على بساطك وعلى فراشك، فأنت في مجلس خصومة.

فقامت المرأة ورفعت صوتها، فقال لها بعض أعوان عيسى بن موسى : اخفضي صوتك. فقال لها القاضي: انطقي؛ فإن الحق رفع صوتك.. قولي ما عندك، فصاحت المرأة بقضيتها، فقال: ما تقول؟

قال: أقول: قالت حقاً، قال: تبني جدارها الساعة، قال: أفعل، فقالت المرأة: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين وعن أمة محمد خير الجزاء.

هذه النماذج العظيمة القوية بها يحق الحق، ولا يمكن أن يكون القاضي إلا إذا كان صادقاً وكان أهلاً، فإذا غلب على ظنه أنه يحق الحق ويبطل الباطل فحيهلاً.. وإلا فلا.

ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء

قال رحمه الله: [ويأمره بتقوى الله].

أي: يأمر القاضي أن يتقي الله عز وجل؛ لأن أساس الأمور وصلاحها كلها في تقوى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً أو بعث سرية أمر وأوصى الأمير في خاصته ومن معه بتقوى الله عز وجل، فهي أساس ومنبع كل خير وبر.

قال رحمه الله: [وأن يتحرى العدل وأن يجتهد في إقامته].

أي: يوصيه أن يتحرى العدل حتى يعذر إلى الله عز وجل، ويقول: إني وليتك هذا الأمر فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل.. فالقوي ضعيف عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى ترد الحق إليه، وأن لا تأخذك في الله لومة لائم، وأن تتذكر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دمت تطلب الحق وتنشده؛ لأن القاضي إذا طلب الحق وتجرد للحق لا يزال معه من الله معين وظهير، ما لم تخن خائنة في قلبه والعياذ بالله.. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يزيغ قلوبنا.

قال رحمه الله: [فيقول: وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه ويكاتبه في البعد].

الأولى صيغة قولية، يقول له: وليتك.. قلدتك.. هذه من الصيغ التي يوجهها الإمام العام -ولي الأمر- لمن يوليه القضاء؛ لأن القاضي نائب عنه..

منفذ بالشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام

وما دام أن القاضي نائب عن الإمام، فلابد أن تكون هناك وكالة شرعية تكون باللفظ الصريح: وليتك.. قلدتك.. نصبتك، ونحو ذلك، أو أنت قاضي كذا.

أو يكتب إليه ويصدر أمراً بتعيينه ونحو ذلك، فهذا يقوم مقام اللفظ.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع