أرشيف المقالات

إلى رجال التعليم

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
بقايا التركية في لغة مصر الرسمية للأستاذ أبي خلدون ساطع بك الحصري مدير دار الآثار العربية بالعراق لقد لاحظ العلماء الذين توغلوا في درس الحوادث الاجتماعية اللسانية، أن الكلمات ما تنتقل من لغتها الأصلية إلى اللغات الأخرى حسب العلائق التي تنشأ وتتوثق بين الأمم التي تتكلم بها، وقد تندمج هذه الكلمات في اللغة التي دخلت عليها؛ فتنتظم في سلك كلماتها الأصلية وتتكيف بمقتضيات قواعدها الخاصة؛ وقد تولد نسلاً جديداً في موطنها اللغوي الجديد، يختلف عن النسل الذي كان قد تولد منها في موطنها الأصلي اختلافاً كلياً أما أنواع الكلمات التي تنتقل بهذه الصورة من لغة إلى لغة، فتتبع - بطبيعة الحال - أنواع العلائق التي تحدث بين الأمم التي تتكلم بها: فالمعاملات التجارية تئدي إلى انتقال المصطلحات العلمية مع الآراء والمعلومات، والسيطرة السياسية تؤدي إلى انتشار الكلمات والتعبيرات المستعملة في الأنظمة الإدارية والعسكرية، والكلمات والمصطلحات التي تدخل على اللغة بسبب هذه العلائق المتنوعة، تبقى فيها عادة حتى بعد انقطاع تلك العلائق.
.
ولهذا السبب نجد العلماء الذين يستكشفون الحقائق في مجاهيل التأريخ يستندون في بعض الأحوال إلى (مقارنة الألسن) و (تتبع الكلمات) في استدلالاتهم المتعلقة بالحوادث التاريخية والتطورات الاجتماعية. لعل الآثار التي تركتها التركية في مصر، ولا سيما في لغة الدواوين الرسمية، من أبرز الأمثلة وأقربها إلى ما أسلفنا.
إذ أننا إذا استعرضنا عناوين الوظائف الرسمية في جداول الميزانية ودليل التليفون وتصفحنا بعض النشرات الرسمية، وتتبعنا بضعة أعداد من الجرائد اليومية، فسجلنا الكلمات والتعبيرات التركية التي نصادفها خلال هذا البحث السريع.
.
دهشنا من كثرة الكلمات والتعابير الباقية من عهد الحكم التركي في مصر نستطيع أن نقول إن معظم النعوت والألقاب المستعملة في مصر هي من بقايا ذلك الحكم.
ولا سيما الكلمات والتعابير التي تدل على الرتب الملكية والعسكرية، فكلها ترجع إلى منشأ تركي بدون استثناء فإن كلمات (بك، أفندي، باشا، هانم) تركية الأصل.
مع هذا تستعمل في مصر كالكلمات العربية، ويقال لذلك (بكوية وبكوات) و (باشوية وباشوات، أفندية، وهوانيم) ومما تجب ملاحظته أن الألقاب ألغيت في تركية أخيراً واستبدلت بكلمة (باي) للرجال و (بايان) للنساء فمن يتتبع الجرائد التركية الآن لا يجد فيها أثراً للكلمات التي بحثنا عنها؛ غير أن من يتصفح الجرائد المصرية يصادف في كل نسخة منها مئات ومما يستلفت الأنظار أن الألقاب الرسمية التي تستعمل في مصر عند ذكر أصحاب الرتب أو مخاطبتهم - مثل: صاحب العزة، صاحب السعادة - أيضاً تمت بقرابة إلى العهد التركي، بالرغم من مظهرها العربي: فأن الأتراك عندما أرادوا أن يضعوا لقباً خاصاً بأصحاب كل رتبة من الرتب الملكية والعلمية، اقتبسوا من العربية كلمات كثيرة، مثل (رفعة، عزة، سعادة، عطوفة، دولة، فخامة، فضيلة، سماحة، سيادة، عناية، عصمة.) وأضافوا إلى كل واحدة منها حرف (لو) الذي يعرف في قواعد الصرف التركي باسم (أداة المصاحبة) فقالوا (.

عزتلو، سعادتلو، دولتلو، فخامتلون فضيلتلو، سماحتلو.
)
إن هذه النعوت والألقاب استعملت في مصر مدة غير قصيرة بصيغتها التركية، ثم استبدلت فيها (أداة المصاحبة) التركية بتعبير (صاحب الـ.
)
العربية؛ فتحولت بذلك هذه الألقاب إلى (صاحب العزة، صاحب السعادة، صاحب الدولة، صاحب الفضيلة.
)
فنستطيع أن نقول: إن هذه الألقاب تركية بمدلولاتها الحالية، وإن كانت عربية بألفاظها الأصلية.
وإلا فلا يوجد أي سبب معقول لاعتبار (الفضيلة أو العزة أو السعادة) من النعم التي يستطيع أن يحصل عليها الإنسان عن طريق إنعام الملوك والحكومات.
. وأما أسماء الرتب العسكرية المستعملة في مصر، فبعضها تركية بحتة مثل شاويش، باششاويش، أونباشي، يوزباشي، بيك باشي،.
فان اللفظة الأولى كلمة مفردة، والأربع الباقية كلمات مركبة، تعني (رئيس الشاويشية، رئيس العشرة، رئيس المائة، رئيس الألف.
.)
وهناك أسماء رتب عسكرية مؤلفة من كلمة تركية وكلمة عربية، حسب الاستعمال التركي: مثل (بلوكامين) بمعنى أمين الرهط، و (ميرالاي) بمعنى آمر الكتيبة.
. وأما كلمة (صاغ) التي تدل على إحدى الرتب العسكرية في مصر، فتركية أيضاً؛ غي أنها لا تستعمل في التركية للدلالة على رتبة من الرتب العسكرية أبداً.
لأن معناها اللغوي عبارة عن (أيمن)، نظراً لرتبته العسكرية.
وأما كيف صارت هذه الكلمة لقباً لإحدى الرتب العسكرية في مصر، فلا يتضح إلا بمراجعة تاريخ الألقاب العسكرية في تركيا: إذ يوجد في الجيش التركي رتبة عسكرية تسمى باسم (قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح).
وبما أن القطع العسكرية كانت تقسم إلى جناحين، كانوا يقسمون هذه الرتبة قبلاً إلى درجتين فيسمون الأولى (صاغ قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح الأيمن)، ويسمون الثانية (صول قول أغاسي) بمعنى (آمر الجناح لأيسر).
غير أنهم وحدوا الدرجتين مؤخراً، فحذفوا كلمات (صاغ) و (صول) من هذه الألقاب، واقتصروا على تسمية الرتبة بـ (قول أغسي) أي (آمر الجناح).
ويظهر أن لفظ (صاغ قول أغاسي) كان يستعمل في مصر أيضاً؛ غير أنه أختصر مؤخراً، بدون ملاحظة معاني الكلمات التي يتألف منها، فجرى الاختصار عن طريق حذف الكلمتين الأخيرتين، والاحتفاظ بالكلمة الأولى وحدها.
وبما أن الصفة في اللغة التركية تتقدم على الموصوف، كما أن المضاف إليه يتقدم على المضاف، صار هذا الاختصار بمثابة حذف كلمتين (آمر) و (الجناح) والاحتفاظ بكلمة (الأيمن) وحدها، وبهذه الصورة أصبحت كلمة (صاغ) التركية، التي تدل على (اليمين) أو (الأيمن)، اصطلاحاً على الرتبة من الرتب العسكرية المصرية غير أن الكلمات التركية المستعملة في الجيش المصري لا تنحصر في أسماء الرتب العسكرية التي أسلفنا ذكرها.
بل أن المصطلحات العسكرية التالية أيضاً تمت إلى منشأ تركي صريح؛ بلوك، تابور، آلاي، أورطة، قيشلاق، قره قول، طوبجي، نوبتجي.
. إن كلمة (اورطة) تستحق النظر والتأمل بوجه خاص: فأن هذه الكلمة من التعبيرات الدارجة في تشكيلات مصر الدارجة وهي تدخل في التراكيب مثل الكلمات العربية، فيقال مثلاً (الاورطة الثالثة) و (استعراض الأورطتين) وأعلام الاورط، كما يقال (اورطته، اورطتيه، اورطتيهما.
)
.
.
مع إنها من الكلمات التركية المهجورة في تركيا نفسها فان استعمالها في الجيش التركي قد بطل منذ عهد بعيد، يرجع إلى تاريخ إفناء الانكشارية، وإحداث النظم العسكرية الجديدة: ومن المعلوم أن المدة التي مضت منذ ذلك التاريخ تناهز القرن الكامل هذا، ومما يجدر بالانتباه أن قاموس الاصطلاحات العسكرية المصرية يحتوي على بعض الكلمات الفارسية أيضاً - مثل، بيادة، سوارى، ياور، سردار.
- غير أن هذه الكلمات لم تدخل على العربية من الفارسية مباشرة، بل دخلت عليها بواسطة التركية.
ولذلك يجب علينا أن نعتبر هذه الكلمات أيضاً من بقايا الحكم التركي بالرغم من أصلها الفارسي كذلك كلمة (حكم دار) أيضاً تشبه الكلمات المذكورة آنفاً، إذ أنها مركبة من كلمة (حكم) العربية وكلمة (دار) الفارسي، فمعناها اللغوي عبارة عن (صاحب الحكم).
غير أن معناها الدارج في تركية إذ أن تعبير الـ (حكم دار) لا يستعمل في التركية إلا للدلالة على (الملوك) هذا وإذا استعرضنا عناوين الوظائف والخدمات المختلفة نجد بينها أيضاً عدداً كبيراً من التعبيرات التركية أولاً، سلسلة كبيرة من التعبيرات التي تحتوي على كلمة (باش) التركية: باش كاتب، باشمفتش، باشمهندس، باشمعاون، باش محضر، باش صراف، باش حكيم، حكيمباشي، خاخامباشي، باش ساعي، باش فراش، باش طباخ، باش جنايني، باش بستاني، باش ميكانيكي، باش آدلاء، باش رئيس البحرية، باش رئيس المطافي.
فإذا أنعمنا النظر في هذه التعبيرات نجد أن كلماتها الأساسية عربية، غير أنها موصولة بكلمة (باش) وفقاً لقواعد اللغة التركية، وإذا بحثنا في عن منشأ التراكيب نجد أن نصفها الأول مستعمل في التركية أيضاً غير أن نصفها الأخير لم يستعمل في التركية أبداً.
فنستطيع أن نقول إن القسم الأول منها (من باش كاتب إلى خاخام باشي) مقتبسة من التركية.
وأما القسم الثاني (من باش ساعي إلى باش رئيس المطافي) فمستحدثة في مصر نفسها.
قياساً على التراكيب المماثلة المستعملة في التركية ثانياً، سلسلة غير قصيرة من التعبيرات التي تحتوي على أداة (جي) التركية: تليفونجي، تلغرافجي، بوسطه جي، نوفكجي، نيشانجي، تعليمجي، مخزنجي، محاسبجي، قهوجي، سفرجي، عطشجي، عربجي، قمشجي، اجزاجي، تيمارجي، جاشمبجي، مطبعجي، استفجي، جزمجي، مكوجي، اشرجي، ناضورجي، مفتاحجي.
وما يجب عليه التنبيه إليه أن التراكيب الأربعة الأخيرة ليست مستعملة في التركية، مما يدل على أنها استحدثت في مصر قياساً على أمثالها وعلاوة على كل ما تقدم نذكر فيما يلي الكلمات التركية التي صادفناها في النشرات الرسمية: فنار، ليمان، أورمان، كوبري، قزان، طولمبة، بوري، باشبوري، أوضه، قاووش، آغا، ترزي.
وهذه الكلمات تدخل في تراكيب بعض التعبيرات مثل: مصلحة الليمانات والفنارات، حديقة الأورمان، أوضة المحامين، الطلمبات الأميرية، تعمير القزانات مصلحة الكباري، كما نذكر فيما يلي الكلمات الفارسية التي صادفناها في تلك النشرات، والتي انتقلت إلى مصر بواسطة التركية أيضاً سراي، شنكل، كليم، نيشان، أورنيك، ماهية، رفت، خانة،.
ومما يجدر بالذكر أن الكلمة الأخيرة تدخل في تراكيب كثيرة مثل: أجزخانة، كتبخانة، دفترخانة، بطركخانة، سلخانة، جبه خانة، يمكخانة، أدبخانة، عربخانة، شفخانة، مهندسخانة. بعد أن القينا هذه النظرة السريعة على اللغة الرسمية في مصر يجدر بنا أن نقوم بمقارنة عامة بين دواوين سورية والعراق في هذا الموضوع من الغريب أن هذه المقارنة تظهر لنا تبايناً عظيماً في الأمر: إذ بينما نجد أن دواوين مصر مضيافة لجميع هذه الكلمات الدخيلة والمصطلحات الأعجمية نجد أن دواوين سورية وللعراق - بعكس ذلك - مجردة منها ومتعصبة عليها.
. هذا.
.
مع أنه قد مضى على انفصال مصر عن تركية عهد طويل، في حين أنه لم يمض على انفصال سورية والعراق عنها إلا زمن قصير، ومع أنه لا يشاهد في مصر أثر للقوانين الموضوعة في العهد الترك، في حين أن عدداً غير قليل منها لا تزال نافذة في سورية والعراق.
ومع أن أنظمة الحكومة المصرية مختلفة عن الأنظمة التركية اختلافاً كلياً في حين أن أنظمة سورية والعراق لم تتباعد عنها إلا تباعداً جزئياً.

وما أن الذين يعرفون التركية بين موظفي الحكومة المصرية قليلون جداً، في حين أن عددهم كثير في سورية والعراق.
.
ومع أن اللغة الفصحى منتشرة في مصر انتشاراً كبيراً، ودراسة الآداب العربية متقدمة فيها تقدماً عظيماً، في حين أن كل ذلك لا يزال محدوداً في سورية والعراق فيجدر بنا أن نتسائل عن أسباب هذه الأحوال والحوادث المتناقضة: كيف أن مصر حافظت، ولا تزال تحافظ، في دواوينها الرسمية على هذه المصطلحات الأعجمية، بالرغم من قدمها في الانفصال وتقدمها في فصاحة القلم واللسان؟ وكيف أن حكومات سورية والعراق - بعكس ذلك - تخلصت في دواوينها من جميع تلك المصطلحات، بالرغم من قرب عهدها في الانفصال وحداثة دخولها في مضمار فصاحة الإنشاء والبيان؟ إننا نعتقد بأن أسباب ذلك تعود إلى تباين الظروف التي حدث فيها انفصال هذه الأقطار العربية المختلفة عن الدولة العثمانية: فان انفصال مصر حدث قبل أن يستيقظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح، وللغة العربية استولت على الدواوين المصرية بصورة تدريجية، دون أن تضطر إلى الاصطدام مع اللغة التركية والقيام عليها بحركة عنيفة.
وهذا ما جعل مصر متساهلة مع الكلمات التركية ومضيافة لها، بل لا نغالي إذا قلنا: غير منتبهة إلى أعجميتها. وأما انفصال سورية والعراق عن الدولة العثمانية، فلم يحدث إلا بعد حوادث كثيرة أدت إلى أيقاظ الشعب يقظة مقرونة بشعور قومي واضح واللغة العربية لم تصبح رسمية هناك إلا بعد أن حدثت مشادة بينها وبين التركية وبعد أن مازج هذه المشادة شيء غير قليل من العنف من الطرف الواحد ومن الثورة من الطرف الآخر.
فقد قامت في سورية والعراق، وفي أواخر العهد العثماني، جمعيات عديدة تطالب بـ (حق التعلم والتعليم بالعربية)، تارة بالطرق السياسية، وطوراً بالطرق الثوروية.
ولم تنل تلك البلاد هذا (الحق) بصورة فعلية إلا بعد الحرب العالمية، فعندما تألفت الحكومة العربية بجد وحماس؛ فلا نغالي إذا قلنا أن المصطلحات التركية خرجت من الدواوين هناك مع خروج الموظفين الأتراك منها. والحكومة العراقية التي تأسست بعد سقوط الحكومة العربية السورية أيضاً حذت حذوها ف هذا الباب؛ وزيادة على ذلك وجدت أمامها متسعاً من الوقت لإتمام عملها في تكوين مجموعة المصطلحات الإدارية والعسكرية من الكلمات العربية التي لا تشوبها شيء من الأعجمية هذه هي سلسلة الحوادث والأسباب التي وجهت الأمور في سورية والعراق إلى اتجاه يختلف عن الاتجاه الذي سارت عليه في مصر في هذا المضمار.
مع هذا، لابد من الإشارة إلى أن هذه الأسباب تعود إلى النشأة الأولى وظروف الانفصال فأدت إلى إبقاء هذه المصطلحات في لغة الدواوين المصرية إلى الآن.
غير أنه يجدر بنا أن نتساءل: هل هذه الأسباب ستضمن دوام هذه المصطلحات بعد الآن أيضاً؟ إنني لا أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي.
فلا أستبعد أن يصبح معظم ما كتبه آنفاً (حكاية ماض) - في عصر مصر الحديث - بعد مدة وجيزة من الزمن بغداد أبو خلدون ساطع الحصري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١