شرح زاد المستقنع باب حد المسكر [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو خمر من أي شيء كان].

تقدم الحديث عن ضابط الخمر، وبيّنا أنه عام شامل لكل ما أثّر في العقل، سواءً كان من المشروبات القديمة التي كانت تنتبذ من التمر والشعير والزبيب والعسل -كما ورد في أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- أو كان شراباً يتخذ من غير ذلك.

والأصل في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة على العموم، وجعل الحكم معللاً بعلة وهي الإسكار، فكل شيء أزال العقل وأثر فيه تأثيراً بيناً واضحاً فإنه آخذ حكم الخمر، ثم بينا أن تحريم الخمر يدور حول علة الإسكار وزوال العقل، وهذا يقتضي إلحاق المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها سواءً كانت نباتية كنبات الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، أو كانت غير نباتية مثل ما يسمى بالمخدرات الكيماوية، فهذا كله محرم، والأصل في تحريمه: أن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر؛ لأنها مؤثرة في العقل، وكل ما أزال العقل وأثّر فيه فحكمه حكم الخمر، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل مسكر ومفتر)، وهو يدل دلالة واضحة على عموم الحكم، وأن المخدرات بجميع أنواعها تعتبر محرمة شرعاً، وبهذا بيّن المصنف رحمه الله هذا الأصل: وهو أننا لا نقتصر على تحريم الخمر القديمة، بل العبرة بكل شراب يؤثر في العقل، ويذهب الشعور والإدراك، وهذه هي العلة، (والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً)، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل فقال: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام)، فجعل الحكم يدور مع علته وهي الإسكار، ومن هنا نأخذ بمذهب العموم، وأن العبرة بتغير العقل أو التأثير في العقل، سواءً كان عن طريق الشراب أو كان عن طريق المواد الجامدة كالحشيشة والأفيون المستخرج من نبات الخشخاش، والبنج، والشيكران، وغير ذلك من المواد الجامدة، ويلتحق بهذا: المشمومات، فما يشم من المواد الطيّارة المؤثرة في العقل حكمه حكم المشروبات المسكرة، وكذلك ما يحقن عن طريق الإبر، فإنه آخذ حكم المسكرات أيضاً؛ لأن العلة هي التأثير على العقل سواءً كان عن طريق المشروب أو المطعوم أو المحقون أو المشموم، فكل ذلك محرم شرعاً.

وإذا ثبت تحريمه فإنه محرم على الإنسان أن يتعاطاه، ومحرم على الغير أن يحقنه أو يناوله أو يعينه على ذلك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الخمر، وحرمة الوسائل المفضية إلى الخمر: كصناعة الخمور وترويجها، وصناعة المخدرات وترويجها، والدعاية إلى الخمور وإلى المخدرات محرم شرعاً، والقاعدة تقول: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل وهو: تحريم الوسائل المفضية إلى الخمر، وإلى كل مضر بالعقل حينما لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومستقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها، فلعن فيها هؤلاء العشرة، وإذا نظرت إلى هؤلاء العشرة وجدت فيهم من هو معين عليها، كساقي الخمر، وعاصرها، وحاملها، وبائعها، وآكل ثمنها، فكل هؤلاء أعانوا على الوصول إلى المحرم، وهكذا المخدرات يحرم تصنيعها، وترويجها، وتحبيب الناس إليها، حتى لو جلس مع أخيه وقال له: إنها تحدث النشاط، والسرور، وهي في الواقع: لا تزيد الإنسان إلا هماً إلى هم، وغماً إلى غم، فإن الله لم يجعل في محرم خيراً، ومن هنا نعلم أن الترغيب فيها ليس منحصراً أن يدعو إليها دعاية للجماعة، بل دعاية الأفراد كذلك، فلو أنه رغب شخصاً فيها، أو مدحها، أو وضعها في وسيلة إعلامية تروج إلى شربها، أو تروج إلى تعاطيها، أو تحببها إلى النفوس، فكل هؤلاء ملعونون-والعياذ بالله- بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وإذا حلت اللعنة على القلب -والعياذ بالله- تنطمس البصيرة، ويضعف فيه داعي الإيمان، ولذلك قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23]، فيصبح الإنسان من هؤلاء تمر عليه المواعظ فلا تؤثر فيه، ويذكر بالله فلا يتذكر؛ لأن الله يقول: (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)، فمن أشد الذنوب ضرراً على العبد الذنوب التي ورد الوعيد عليها باللعن، ومن هنا شُدد في الخمر من هذه الوجوه كلها تعظيماً لحرمات الله، وتعظيماً لحدود الله، وزجراً للنفوس المؤمنة عن هذه المحرمات الموبقات المهلكات، حتى يكون الإنسان على السنن التي فطر الله عليها خلقه من البعد عن هذه المؤذيات والمضرات.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يباح شربه للذة].

ولا يباح شرب الخمر للذة، وهذا بإجماع العلماء، والذين يشربون الخمر يزعمون أنها تنسيهم الهموم والغموم، ويدعون أنها تحدث الهزة والنشاط، ويدعون أنها تفرح القلب، وكل ما ادعوه باطل، ومن تزيين الشيطان، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل:24]، فهذا من صدود الشيطان، ويكون هذا في القلوب الضعيفة بسبب ضعف الإيمان، فيقلب الحق فيها باطلاً، والباطل حقاً، فهو يروج لهم أن فيها لذة، وهي وإن كانت لذة ساعة فهي ألم دهر، وإن كانت متعة لحظة فإنها عذاب دهر، فكم قرحت من قلوب! وأبكت من عيون! وأصابت أصحابها من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! حتى أصبحوا مأسورين بها، لا يستطيعون الفكاك عنها، فأصبحت داءً تزيدهم هماً إلى همهم، وغماً إلى غمهم نسأل الله السلامة والعافية!

ومن قرأ بحوث أهل النظر من الأطباء، وأهل الاختصاص، وما تعقبه الخمر من الويلات والآهات والمفاسد والشرور في دنيا الإنسان وفي جسده، وصحته الروحية، وما يعقب ذلك من الآلام؛ يجد أن هذه اللذة التي تُشرب الخمر من أجلها أحقر من أن تورد صاحبها هذه الموارد، فقد أجمع الأطباء على أنها تدمر الأعصاب، وتدمر الجهاز العصبي بآفات ومفاسد عظيمة، وتذهب تركيز الإنسان، وتفسد ذهنه وحافظته وفكره وشعوره وأحاسيسه، وإذا شربها اختل عقله؛ فأصبح أحط من البهيمة -والعياذ بالله- حتى إنه لربما اقترف الأمور العظيمة، ولذلك شربها بعضهم فزنى بأمه، ومنهم من شربها فوقع على بنته نسأل الله السلامة والعافية! فأي لذة هذه؟! أي لذة يعقبها هذا الويل، وهذا البلاء، وهذا الشقاء، وهذا العناء؟!

ومن هنا: ذكر المصنف رحمه الله أن من شربها للذة -وهذا على ما يعرف عند الناس، وتحقيقاً للأصل الذي سيبني عليه عقوبة شرب الخمر- فإنه قد وقع فيما حرم الله عليه بإجماع العلماء رحمهم الله.

قال المصنف رحمه الله: [ولا لتداوٍ].

ولا يجوز شربها للتداوي، وهو العلاج، والخمر كانوا في الجاهلية يعتقدون أنها تداوي وتشفي، وأنها تزيل العلل، وأنها تريح البدن من آفات تكون في شرايين القلب وفي العروق وفي المعدة، ونحو ذلك مما كانوا يظنونه، ولو كان ذلك موجوداً فإنه بعد تحريم الخمر سلبت الخمر هذه المنافع كلها، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنها داءٌ وليست بدواء، وأن الله لم يجعل فيها شفاءً. وعلى هذا قالوا: إن جميع ما كان فيها من المنافع التي كان يُزعم أنها موجودة سلبت منها فأصبحت داءً، وليست بدواء، وهذا صريح قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم في صحيحه: (إنها داءٌ، وليست بدواء)، وفي لفظ: (ليست بدواء، ولكنها داء)، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يعتقد ذلك.

في القديم كانوا يظنون أن فيها دواءً، وفي الطب الحديث ثبت أنه لا دواء في الخمر، وأن الخمر ليست علاجاً؛ ولذلك لا تستخدم الخمر علاجاً في الطب الحديث كشراب مخصوص لعلاج مرض، سواءً كان نفسياً أو كان جسدياً، ففي الطب الحديث لا يوجد هذا.

التفصيل في استخدام المخدرات للمعالجة والعمليات الجراحية

يوجد عند الأطباء مسألة: استخدام المادة المخدرة، وهي مادة الكحول المعروفة، تستخدم في جوانب من الطب، ومن أشهر هذه الجوانب جانبان:

الجانب الأول: ما يعتبرونه مذيباً للمواد القلوية والدهنية.

الجانب الثاني: يستعملون فيه الخمر مسيغة للطعم، حتى يكون طعم الدواء مقبولاً.

وهناك جوانب أخرى اعتنى أهل الاختصاص ببيانها، وتبعه المتخصصون بطب الصيدلة، ولعلوم الصيدلة عدة ملاحظات على هذا الاستخدام أو هذه الجوانب التي ذكروها، ومنها استخدامها كمادة حافظة، وغير ذلك من الجوانب التي ذكروها.

بالنسبة لهذين الجانبين:

الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواءً فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها.

وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله.

أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه مُحتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثاً جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين.

إذاً: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم.

أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي، وبناءً على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان:

الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبداً أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضياً بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل.

الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يُخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويُرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك.

ولو كان لا يُخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات.

إذاً: ما يُخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيُحقن بمادة مخدرة موضعية.

إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين:

الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعاً.

يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تُخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعاً، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور.

فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعاً، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.

خلاف العلماء في التداوي بالخمر

مسألة: التداوي بالخمر: اختلف فيه العلماء المتقدمون رحمهم الله برحمته الواسعة.

قول جمهور العلماء

القول الأول: قول جمهور العلماء أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهذا هو أحد القولين عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله وأحد القولين عن الإمام الشافعي ، وهو مذهب المالكية في المشهور، والحنابلة رحمة الله على الجميع، فعندهم لا يجوز للمسلم أن يتداوى بالخمر لا قليلاً ولا كثيراً، وأن الله عز وجل لم يجعل فيها شفاءً للأمة.

قول المخالفين للجمهور

القول الثاني: يجوز التداوي بالخمر، وهذا القول هو القول الثاني عن الإمام أبي حنيفة ، والقول الثاني عن الإمام الشافعي ، لكن جمهور أصحاب الإمام الشافعي اختاروا القول الأول المحرم مثل الحنابلة، واختار هذا القول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله، الذين يقولون: يجوز التداوي بالخمر، ذكروا لذلك شروطاً:

الشرط الأول: ألا يوجد بديل عن الخمر مما أحل الله، فقالوا: إن وجد بديل عن الخمر لم يجز التداوي بها، فهم يتفقون مع الجمهور أنه لوكانت الحالة التي يراد علاجها لها دواء مباح فإنه لا يجوز له أن يتداوى بالخمر، وتكون مسألة إجماعية.

الشرط الثاني: أن يخبِره بالحاجة إلى الخمر، وأنها علاج ودواء لهذا الداء طبيب عدل يوثق بقوله وأمانته، وبعضهم يشترط إسلامه، فلو أخبر بذلك طبيب غير مسلم، قالوا: لا تقبل شهادته؛ لأنه متهم، والغالب أن العداوة الدينية تحمل على الاستهتار في أمور الشرع، فقالوا: لا نقبل قوله، ومن هنا كان الإمام أحمد رحمه الله يعالجه طبيب يهودي فيقبل قوله إلا في أمور تتعلق بالدين، فإذا قال له: أفطر، لا يفطر، وإذا أمره بأمر محرم أن يفعله لم يقبل قوله، حتى يرجع إلى أطباء المسلمين، فلم يكن يقبل شهادته في هذا؛ لأنه متهم في قوله وخبره.

الشرط الثالث: أن يكون تعاطي الخمر في حدود الحاجة والضرورة، فلا يزاد عليها، فإن زاد عليها وقع في الحرام، فيكون تعاطيه للمادة المخدرة في حدود الحاجة والضرورة، وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية: ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها.

الشرط الرابع: أن يشربها بقصد الدواء والعلاج لا تلذذاً، بمعنى أنه أثناء شربه لها يعتقد تحريمها، ويكره هذا الشرب، ويحس كأنه مكره عليه تلافياً للاستباحة؛ لأن الاستباحة تكون بالباطن كما تكون بالظاهر، فهو وإن أُذن له في الظاهر، لكنه في الباطن إن مال قلبه إلى حبها فأحب شربها وتلذذ بذلك خرج عن كونه مسترخصاً، وأصبح يعصي باطناً، وإن كان قد أبيح له في الظاهر. فقالوا: يجوز التداوي بالخمر إذا تحققت هذه الشروط.

أدلة الجمهور القائلين بحرمة التداوي بالخمر

واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها -كما في رواية مسلم- فقال: (يا رسول الله! إني أصنعها للدواء -يعني أصنعها دواءً وعلاجاً- فقال صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخمر ليست بدواء، وهذا خبر مبني على الوحي الذي لا يمكن أن يأتيه الخطأ، وحكم عليه الصلاة والسلام بالوحي من السماء أنها داء، وأنه لا دواء فيها ولا علاج.

ومن هنا: فدعواهم أنها دواء ليست بمسلمة، هذا الدليل الأول.

الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها فرأى الجرة، وإذا بالخمر تفور منها حتى خرجت منها، فقال: (ما هذا؟! فقالت: يا رسول الله! إن فلانة تشتكي بطنها، وقد نقعت لها) -يعني: نبذت لها النبيذ- من أجل أن أعالجها بهذه الخمرة. (فضرب عليه الصلاة والسلام الجرة برجله حتى انكسرت) -أي: حتى انسكب منها الخمر- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاءً) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في شيء حرمه عليها، والخمر مما حرم الله، وهذا الحديث نص في المسألة؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه عليه الصلاة والسلام ذلك إلا وقد أطلعه الله عز وجل على أنه لا خير في الخمر، ولا دواء ولا علاج، فأكد هذا معنى الحديث الأول، والحديث رواه: أبو داود ، وأحمد في مسنده، وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده أيضاً، قالوا: هذا كله يؤكد أن الخمر داء، وليست بدواء.

الدليل الثالث من النقل: استدلوا بالأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقاً في صحيحه، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وقال الحافظ ابن حجر: إنه على شرط الشيخين، وفيه: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) قالوا: إنه أكد الأثر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة الفتوى، فبين أن الله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.

وهذا الأثر الصحيح موقوف لفظاً مرفوع حكماً؛ لأنه يقول: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) فمثل هذا لا يقال بالرأي، حيث يجزم ويخبر عن الله أنه لم يجعل الشفاء فيما حرم، فهو: موقوف لفظاً، مرفوع حكماً، قالوا: إن هذا يؤكد ما ورد في السنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء... ) خبر عن الله عز وجل أنه رفع الدواء عن الخمر، ولم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في المحرمات، ووجه الدلالة من النص تارة فيكون أعم بحيث يشمل موضع النزاع، يكون موضع النزاع سبباً في ورود النص فيشمله ويشمل غيره، فحديث: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) خاص بالخمر، فهو خاص بمسألتنا، لكن هذا الحديث الثاني مع الأثر يدل على أن الله عز وجل لم يجعل لهذه الأمة شفاءً فيما حرم؛ فهو أعم، ويشمل مسألة النزاع-وهي التداوي بالخمر- ومسألة التداوي بأي محرم كان، وأنه لا شفاء في المحرمات، مثل: التداوي بالسموم والنجاسات، وكل هذا يكون الأصل فيه التحريم والمنع لهذا النص، وبين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في هذه الأمور المحرمة التي ثبت النص بتحريمها.

كذلك أكدوا دليل النقل بدليل العقل، فقالوا:

أولاً: إن تحريم الخمر قطعي؛ لأنه ثبت بنص في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا احتمال فيه، وكون الخمر دواءً ظني موهوم مشكوك فيه، يعني: يتوهمون أنها دواء مع أن السنة تنفي هذا، فيقولون: هو ظني متوهم، بل لو قلت: ما هو موجود أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليست بدواء)؛ لصح الكلام، لكن نقول: إنه متوهم، نعطيه ولو (1%) تنزلاً مع الخصم! وليس إثباتاً للحكم؛ لأننا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصدق غيره ممن يخالفه، فلو قلنا: إنه موجود على ما ذكروه فهو وهم، وهذا أضعف درجات العلم، والقاعدة أنه: (لا يجوز ترك القطع لوهم وشك) لأنه يجب البقاء على اليقين، وعلى القطع.

ثانياً: أن الخمر فيها مفاسد، ويترتب على استعمالها ضرر عظيم، فوجدنا أن ضرر الخمر أعظم من ضرر الداء الموجود؛ لأنها لا تقتصر على الإضرار بالبطن والأجهزة المتعلقة بالهضم، بل إنها تضر أجهزة الهضم والقلب، وتضر أجهزة الأعصاب، فضررها جسدي وروحي، فلو جئت إلى الضرر الموجود في الداء وحده، وعادلته بالضرر المترتب على تعاطي الخمور لوجدت أن الضرر المترتب على تعاطي الخمور أعظم من الضرر الموجود في بعض الأمراض، والقاعدة الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى فإننا لا نرتكب الكبرى، ويجب الصبر على الصغرى دفعاً لضرر الكبرى، ولا يجوز استباح المفسدة الكبرى، دفعاً للمفسدة الصغرى.

فنحن نقول: إن الأطباء اتفقوا على أضرار الخمور والمسكرات، وأن لها تبعات على الجسد وعلى الروح، سواء التي يعالج بها للبطن أو التي يعالج بها لبعض الآفات، فنجد أن المضاعفات المترتبة على شرب الخمور أعظم من هذا الداء الذي يُعالج، فنتنزل معهم كمسلك جدل، فنقول: هب أن فيها دواء وعلاجاً فرضاً مع أننا لا نقول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء ليس بموجود فيها، ولكن هذا يسمى بالتنزل مع الخصم، فلو فرضنا وسلمنا-جدلاً- أن ما قاله صحيح، فنقول: الداء والضرر المترتب على استعمالها أعظم من الداء الذي يعالج، والقاعدة: أنه يرتكب أخف الضررين، وأنه إذا تعارض الشران وجب ارتكاب الأخف دفعاً للأعظم، ومن هنا نقول بتحريم التداوي بها دفعاً لما هو أعظم، ولا نجيز ذلك حتى لا يقع الأكبر من المفاسد.

لماذا يذكر العلماء أدلة العقل مع النقل؟ قد نبهنا على هذا، فإن بعض الإخوة يستشكل هذا ويقول: لسنا بحاجة إلى الأدلة العقلية مع النقلية! -الواقع أن الأدلة العقلية يذكرها العلماء- لأنه ربما كان اختلاف في ثبوت الدليل النقلي فيُحتاج إلى الدليل العقلي.

كذلك ربما جادلك من لا يؤمن بالشرع-والعياذ بالله- ولا يقبل دليل الكتاب والسنة، فأنت إذا تحصنت بالأدلة العقلية كان هذا أبلغ في دمغه، ورد كذبه أو زيفه، وكشف عواره؛ لأنه يكون عندك شيء يسلم به، فتقول له: إن هذا كما دل عليه النقل، كذلك دل عليه العقل، فهم يذكرون مثل هذه الحجج تأكيداً كما ذكرنا، وإلا فالأصل من لم يستغن بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا أغناه الله، ومن لم يحتج بهما فلا خير فيه.

ذكر بعض العلماء دليلاً ثالثاً عقلياً أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، وكان من أعلم الناس بالطب، فقال: (إن النفوس لا ينفع الدواء فيها إلا إذا أحبته وقبلته، وارتاحت إليه) يعني: الدواء ما يعظم أثره ولا وقعه على المريض إلا إذا كان هناك استجابة، وهذا أمر مقرر عند الأطباء، فالارتياح للدواء، والاعتقاد أنه قد وضعه الله عز وجل علاجاً لهذا الداء يساعد كثيراً على استجابة البدن، وحصول المصالح، واندراء المفاسد، والواقع في الخمر: أن نفوس المسلمين مشمئزة منها، كارهة لها، وأنتم تشترطون - يا أصحاب القول الثاني- أن يكون في قرارة قلبه كارهاً لها، فمعنى هذا: أنه ليس هناك استجابة وتوافق من المريض مع العلاج. وهذا من أجمل ما ذكره رحمه الله في الزاد، زأكد به ما بيناه من القول بالتحريم.

أدلة القائلين بجواز التداوي بالخمر

أما الذين قالوا بالجواز فقالوا: إننا نحتج بعدة أدلة:

الدليل الأول: من الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] قالوا: إنه إذا وجد الداء، أو المرض ولا يمكن علاجه إلا بالخمر فنحن مضطرون إلى الخمر، مدفوعون إليها بغير اختيار، ومأمورون أن نعالج أبداننا، كما في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه وأرضاه: أن الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا، وهاهنا، وقالوا: (يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله! ) قالوا: نحن مأمورون بعلاج البدن، فإذا كنا مأمورين بعلاج البدن، وثبت أنه ما يوجد إلا هذا العلاج والدواء -وهو الخمر- فإننا مضطرون إليه، ومدفوعون إليه بغير اختيار، والله يقول: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) أي: بين لكم ما حرم، ثم قال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فنحن حينما اضطررنا إلى هذه الخمر انتقلت من كونها حراماً إلى كونها حلالاً.

الدليل الثاني: من السنة، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة -أي: أصابهم الجوى وهو: نوع من المرض الذي يصيب البدن لاختلاف الطعام، واختلاف البيئة- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحّوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل..) الحديث.

وجه الدلالة من هذا الحديث: إن أبوال الإبل نجسة على مذهبهم، فهم يرون أن أبوال الإبل نجسة، كما هو مذهب الشافعية وطائفة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا الأبوال النجسة لوجود الضرورة وهي: العلاج، فمن هنا: يجوز شرب الخمر النجسة للضرورة والعلاج، كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ لأنها كانت علاج الداء والمرض، فيجوز شرب الخمر ولو كانت نجسة محرمة.

كذلك أيضاً استدلوا بالعقل، فقالوا: يجوز شرب الخمر دواءً كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار؛ بجامع وجود الحاجة في كلٍ، قالوا: أليست الميتة حراماً؟ قلنا: بلى. قالوا: لو أن إنساناً اضطر إليها ألا يأكلها؟ قلنا: بلى. قالوا: فالخمر حرام شربها، فإذا اضطر إليها جاز له شربها كما جاز للمضطر أن يأكل الميتة بجامع وجود الضرورة، والحاجة في كلٍ منهما.

هذا بالنسبة للأدلة التي ذكروها لجواز شرب الخمر للتداوي، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بتحريم التداوي بالخمور والمسكرات، والمخدرات أيضاً في حكمها، وذلك لما يأتي:

أولاً: لصحة دلالة العقل والنقل على ماذكره أصحاب هذا القول.

ثانياً: لا يصح استدلالهم بقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119]، ونقول: إن دعواكم وجود الضرورة إلى الخمر مردودة؛ لأن الأطباء لم يثبتوا كونها دواءً، وجاء الشرع أيضاً مثبتاً لهذه الحقيقة، ونقول: أنت تقول: إنك مضطر إلى الخمر لأنها دواء، لكن لا نسلم لك أن الخمر دواء، فأنت تضطر إلى شيء ليس بدواء! فإذا كان ليس بدواء فلست بمضطر؛ لأن الذي ألجأك واضطرك كونها دواءً، وقد ثبت بالشرع والدليل الصحيح الذي لا يمكن أن يكذبه أحد أنها داء، وليست بدواء، فكيف تقول إنك مضطر إليها؟!

إنما تكون مضطراً إذا كان فيها دواء، ولكن الواقع أنه ليس فيها دواء، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطباء أكدوا هذا في العصر الحديث أنه ليس فيها علاج للأسقام والعلل، بل تزيد الجسد سقماً وبلاءً وضرراً إلى ما يعانيه ويجده.

إذاً: استدلالهم بقوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ غير مسلم، ولا يشمل هذه الحالة؛ لأن الشرع نفى الضرورة فيها.

ثالثاً: استدلالهم بحديث العرنيين، الجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: نقول: يحتمل أن هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها، لأنك ما تستطيع أن تجعل حديث العرنيين متأخراً عن هذا الحديث؛ ليكون أشبه بالناسخ، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فهي أخبار متعلقة بالأمر الواقع: (إن الله لم يجعل)، فلا يصح أن يقول: الله جعل، وما يمكن هذا! هذا تناقض ولغو ينزه عنه الشرع، لكن على تسليم ما ذكروه، نقول: حديث العرنيين يحتمل أنه سبق حديث تحريم الخمر، وكانت رخصة أن يتداووا بهذه الأشياء، ثم سلبت المنافع من المحرمات والنجاسات، والخمر منها، وبقيت حراماً وداءً إلى يوم القيامة.

الوجه الثاني وهو أقوى: نقول: لا نسلم أن بول الإبل نجس؛ وذلك أن بول الإبل ثبت ما يدل على طهارته؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بعيره، وطاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان بوله نجساً لما لامس النجاسة عليه الصلاة والسلام، ولما صلى على الموضع النجس، فعن ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعيره إلا المكتوبة) فلو كان نجساً لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام، والأشبه أن بول البعير وروثه طاهر، وسنقرر إن شاء الله في كتاب الأطعمة أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، ولم يجزها في معاطن الإبل، وعلل ذلك بالشياطين، ولم يعلله بالنجاسة، وهذا يؤكد أنها طاهرة، وليست بنجسة.

إذا ثبت هذا؛ فإنه يسقط استدلالهم بالآية والحديث، ويبقى قولهم: إنه يجوز شرب الخمر كما يجوز أكل الميتة عند الضرورة، نقول لهم: إن أكل الميتة عند الضرورة حينما تصيب الإنسان المخمصة، معناه أنه سيموت، فلو لم يأكل الميتة فإنه سيموت قطعاً، فيباح له أكل الميتة، أرأيتم لو أكل إنسان جائع مشرف على الموت من الشاة الميتة ألا يحفظه ذلك بإذن الله من الموت؟

قطعاً إنه سيكون سالماً من الضرر، ومن الموت والهلاك، وهل المصلحة في أكل الميتة عند الضرورة مشكوك فيها أو مقطوع بها؟ مقطوع بها، فإذا أكل من الميتة عند الضرورة نجا، ويشهد الحس بأنه ينجو، ومن هنا فرق العلماء بين ترك التداوي وبين ترك الميتة، قالوا: لأنه إذا ترك التداوي ترك شيئاً يحتمل أن ينجح فيصيب الداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله)، فيحتمل أن يصيب الداء، ويحتمل ألا يصيبه، فنقول: التداوي محتمل، ولكنه وجدت أدلة على أنه يصيب في غالب الأمر، والواقع هنا أنه شهد الحس، وشهد الأطباء، وشهد أهل الخبرة، أن الخمر لا يصيب الداء، وإنما يزيد الداء والبلاء، ومن هنا نقول: فرق بين الأمرين: فالأمر الأول: يحقق مصلحة، ويدرأ مفسدة أعظم، والأمر الثاني: يحقق مفسدة، ويحدث مفسدة أعظم، وعلى هذا نقول: لا يستقيم الاستدلال من هذه الوجوه، والذي يترجح: أنه لا يتداوى بالخمور، ولا يتداوى بالمخدرات؛ لأن الأدلة دلت على عدم جواز ذلك.

يوجد عند الأطباء مسألة: استخدام المادة المخدرة، وهي مادة الكحول المعروفة، تستخدم في جوانب من الطب، ومن أشهر هذه الجوانب جانبان:

الجانب الأول: ما يعتبرونه مذيباً للمواد القلوية والدهنية.

الجانب الثاني: يستعملون فيه الخمر مسيغة للطعم، حتى يكون طعم الدواء مقبولاً.

وهناك جوانب أخرى اعتنى أهل الاختصاص ببيانها، وتبعه المتخصصون بطب الصيدلة، ولعلوم الصيدلة عدة ملاحظات على هذا الاستخدام أو هذه الجوانب التي ذكروها، ومنها استخدامها كمادة حافظة، وغير ذلك من الجوانب التي ذكروها.

بالنسبة لهذين الجانبين:

الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواءً فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها.

وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله.

أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه مُحتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثاً جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين.

إذاً: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم.

أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي، وبناءً على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان:

الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبداً أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضياً بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل.

الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يُخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويُرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك.

ولو كان لا يُخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات.

إذاً: ما يُخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيُحقن بمادة مخدرة موضعية.

إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين:

الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعاً.

يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تُخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعاً، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور.

فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعاً، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.

مسألة: التداوي بالخمر: اختلف فيه العلماء المتقدمون رحمهم الله برحمته الواسعة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3335 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3222 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع