شرح زاد المستقنع باب القسامة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسامة].

تعريف القسامة ومشروعيتها

القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة.

والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولاً: أننا لا نقتل أحداً إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمداً عدواناً، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء.

ثانياً: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظاً ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزُكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص.

إذاً: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلاناً؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلاناً قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يُطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحاً يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زُكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص.

لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبداً، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئاً مخالفاً للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس. فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة.. لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـشريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني )، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته...إلخ.

الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك )، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كلٍ منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط.

ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـأبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها. فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف.

إذاً: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قُتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب : احضروا خمسين رجلاً منكم يحلفون خمسين يميناً ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلاً إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيماناً فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية.

ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذباً إثباتاً أو نفياً، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبداً؛ لأنه يثبت أن فلاناً قتل، فيُقتل هذا المسكين ظلماً، ومن هنا صار أمرها عظيماً، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجراً، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم.

ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.

حادثة عبد الله بن سهل وحويصة بن مسعود في القسامة

هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولاً قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا.

إذاً: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر.

كذلك من اللوْث أيضاً قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفواً، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضاً لوث.

إذاً: عندنا حالتان:

الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلاً: وجدنا شخصاً مقتولاً ملطخاً بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم.

وبناءً على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضاً لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة.

وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهلرضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته)، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يميناً، فيقتل به قصاصاً.

ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلاناً كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضاً: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث.

قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون على رجل منهم، فيُدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله...!) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوّم أخلاقهم، وقوّم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يميناً؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلاناً قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة.

فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفِّه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، فدل على فائدة وهي: أولاً: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلاناً قتل فلاناً، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلانَ بن فلانَ، فإذا كانوا خمسين رجلاً فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يميناً على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي.

قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود)، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!)، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناءً على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلاً: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعاً للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقناً لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام.

ومن هنا حدثت القضية لـعمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: البينة على أنه قُتل، أي: أعطوني بينة على أن الناس قتلوه، أو أن فلاناً قتله، وهم ليس عندهم بنية؛ لأنه قتل في زحام، فقالوا: يا أمير المؤمنين! ليس لنا بينة، فصاح علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! لا يبطل دم في الإسلام، يعني: أن هذا الدم لا يذهب هدراً، فهذه نفس محرمة، فأمر أن يودى من بيت مال المسلمين.

ومن هنا: بني على هذه القضية مسألة القسامة، أن ولي الأمر أو القاضي يتدخل حقناً للدماء، وثبت بهذا الحديث مشروعية القسامة، وجرى عليه عمل الأئمة رحمهم الله سلفاً وخلفاً، فالكل متفقون على مشروعية القسامة من حيث الجملة، وإن كان هناك خلاف في التفصيل في بعض المسائل التي تتعلق بإثبات القسامة، والحكم بآثارها.

القسامة: مأخوذة من القسم وهو اليمين، وهذا الباب المراد به: أيمان مكررة لاستحقاق دم على صورة مخصوصة.

والقسامة وقعت في الجاهلية، وأقرها الإسلام، وهي من الأمور الخاصة التي جاء فيها دليل السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتت على خلاف الأصل، وهي أصل في باب الأيمان في القتل، لكنها في الأصل مستثناة؛ لأن الأصل في القتل أولاً: أننا لا نقتل أحداً إلا إذا أقر واعترف أنه قتل عمداً عدواناً، وتوافرت فيه أهلية الإقرار بالقتل، وسيأتي إن شاء الله بيان أهلية المقر في كتاب القضاء.

ثانياً: أن توجد بينة، وهي شاهدان عدلان من الذكور، يشهدان أن فلاناً قتل فلاناً، ويكون ذلك برؤيا منهما، أي: أنهما رأيا قتل ذلك الشخص، وهناك شروط سنذكرها في الشهادة: كأن يتفقون على صفة القتل، وطريقة القتل، وتتفق الشهادة لفظاً ومعنى، بحيث لا يكون هناك خلاف بينهم، فإذا ثبتت الشهادة على الوجه المعتبر، وزُكي الشهود، ولم تكن هناك تهمة ولا ظنة بالشاهدين، ولا أمر يقدح ويوجب رد شهادتهما؛ فإنه في هذه الحالة نحكم بوجوب القصاص.

إذاً: لا بد من وجود البينة: شاهدين عدلين، أو إقرار من الشخص، هذا هو الأصل، فلا يعطى الناس بدعواهم، كأن يأتي شخص ويقول: فلان قتل أبي، أو فلان قتل أخي، فلا نقبل منه مجرد الدعوى، وإنما نأتي بالشخص المدعى عليه، ونقول له: هل قتلت فلاناً؟ فإن أقر وقال: قتلته، أخذناه بإقراره؛ لأنه ليس هناك أوثق من شهادة الإنسان على نفسه، فإذا أقر فقد شهد على نفسه، ومن شهد على نفسه، فالأصل أنه لا يشهد بالضرر على نفسه، فيؤاخذ بإقراره، لكن لو قال: لم أقتله، نقول للمدعي: أحضر البينة وشهودك على أن فلاناً قتل أباك أو أخاك، فإن أحضر البينة والشاهدين، فنحكم بالقصاص، ما لم يُطعن في الشاهدين، ويتبين أن هناك عداوة للمشهود عليه، أو أن هناك قادحاً يمنع من قبول شهادتهما، فحينئذ نرد الشهادة، لكن لو زُكوا وثبتت عدالتهما وضبطهما، وأنهما أهل للشهادة بالقتل، حكمنا بالقصاص، إذا طلب أولياء المقتول القصاص.

لكن باب القسامة خرج عن هذا الأصل، كما خرجت أيمان اللعان عن الأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الأصل، وأشار إلى الاستثناء، فإذا قال العلماء: هذا على خلاف الأصل، فليس مرادهم أنه مخالف للأدلة، هذا لا يقصده العلماء أبداً، ولا يمكن للعلماء أن يثبتوا شيئاً مخالفاً للأدلة، إنما المراد بالمخالفة للأصل: أنها صورة مستثناة لا يقاس عليها غيرها، ولذلك يقال: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس. فلا يفهم البعض هذه العبارات ويظن أن العلماء إذا قالوا: هذا على خلاف الأصل، فإن معنى ذلك أنه رأي خارج عن الأدلة.. لا؛ فإن هذا لا يمكن أن يقوله العلماء مادام أنه قد ثبت به الدليل، ولكن مراد العلماء أن يبينوا ما هو أصل وما هو مستثنى من الأصل، فأعطوا كل دليل حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال في مسألة الأصل والمستثنى من الأصل، جاءه هلال بن أمية، وقذف امرأته بـشريك بن سحماء، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عن الجميع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، أو حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله! الله يعلم أني صادق، وأني لم أكذب عليها، وسينزل الله قرآنا يبرئني )، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم آيات اللعان، وقيل: نزلت في عاصم مع عويمر العجلاني، كما تقدم معنا في باب اللعان، فإنه قال له: سل لي يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته...إلخ.

الشاهد: أنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (البينة أو حد في ظهرك )، فالأصل: أنه إذا قذف زوجته أو قذف أي محصنة، فعليه أن يأتي بالبينة، أو إقرار من المرأة، فتقول: نعم إني زنيت، أو شهود يشهدون أنها زنت، فلما لم يقل ذلك، قال له: (البينة أو حد في ظهرك)، فنزلت آيات اللعان، فكان قوله: (البينة أو حد في ظهرك) أصل، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بالأصل، فلما نزلت آيات اللعان، نزلت على خلاف الأصل، بحيث اختصت بالزوجين ولم تشمل غيرهما، ومن هنا: لو قذف القريب قريبه، كأن يقذف أخ أخاه، وجاء شخص يقول: أنتم تثبتون القياس، إذن نجري اللعان بين الأخ وأخيه، كما نجريه بين الزوجة وزوجها، بجامع وجود القرابة والرحم في كلٍ منهما، فنقول: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس، وهنا تعرف فائدة الخروج عن الأصل، والاستثناء من الأصل، حتى لا يحصل الخلط.

ومن لم يعرف الأصول المقررة, والأصول الخارجة عن الأصول التي هي أصول في بابها، لكنها مستثناة من الأصول؛ فإنه لا يأمن من الخطأ، خاصة في الأقيسة ومعرفة النظائر، وعمر رضي الله عنه يقول لـأبي موسى: اعرف الأشباه والنظائر، ثم قس الأمور بها. فالأصل في هذا أننا نطالب من ادعى القتل أن يحضر بينة، وإلا رددنا دعواه إذا أنكر المتهم وحلف.

إذاً: في هذه الحالة جاءت أيمان القسامة على خلاف الأصل: وذلك أنه قُتل قتيل لبني هاشم -كما روى ابن عباس رضي الله عنهما- فقال أبو طالب : احضروا خمسين رجلاً منكم يحلفون خمسين يميناً ونبرئكم، فأحضروا تسعة وأربعين رجلاً إلا ولي يتيم هو المكمل للخمسين من العصبة، فقال: إني أدفع هذا القسط من الدية عن يتيمي، فحلف التسعة والأربعون أيمانهم في الجاهلية، وكانت أيماناً فاجرة، فما مضى الحول وفيهم نفس حية.

ولذلك يقولون: من المعروف في أيمان القسامة أنه لا يحلفها أحد كاذباً إثباتاً أو نفياً، فلا يمر عليه الحول وهو بخير أبداً؛ لأنه يثبت أن فلاناً قتل، فيُقتل هذا المسكين ظلماً، ومن هنا صار أمرها عظيماً، حتى كان أهل الجاهلية يخافون اليمين، وكذلك يمين القضاء كلها، فمن وقف في القضاء وطلبت منه اليمين، فحلف بها فاجراً، لقي الله وهو عليه غضبان، وهي اليمين التي تغمس صاحبها في النار، تسمى: الغموس، فإذا كانت في الدماء فهي أشد وأعظم.

ومن هنا جعل الله الفكاك من هذه المصيبة العظيمة، وهي ورطات الدماء، فإن أصعب شيء بين الناس ثارات الدماء، خاصة إذا كانت بين الجماعات، أو ثارات ومنازعات بين القبائل، أو بين الأحياء، أو منازعات وثارات بين القرابة أنفسهم في أفخاذهم، فلو لم تشرع هذه القسامة لحصل للناس شر عظيم، وبلاء وخيم، ولذلك حكمة عظيمة عالجت فيها الشريعة حقن الدماء، عالجت فيها الاسترسال في الدماء والثارات، وكان العرب في جاهليتهم الجهلاء يسترسلون في القتل بدرجة مستبشعة، حتى إنه إذا قتل الرجل من القبيلة، قد لا يرضون إلا بمائة نفس، ولا يرضون إلا أن يكون من عظماء القبيلة الأخرى، فيدخلون في تسلسل من سفك الدماء، حتى عصم الله دماء عباده بفضله سبحانه، ثم بهذا الشرع: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179] قال: (يا أولي الألباب) ولم يقل: المجانين، وأولو الألباب: هم أهل العقول الراجحة السوية، التي تعي وتفقه عن الله عز وجل.

هذه القسامة اضطرت الشريعة إليها، ولا يحكم بها إلا في حالة مخصوصة، وقد وقعت في الجاهلية، وكذلك وقعت في الإسلام، وذلك لما فتحت خيبر خرج عبد الله بن سهل وحويصة إلى خيبر، وافترقا في الطريق في حي من خيبر، فذهب حويصة وترك عبد الله في مكان آخر، فرجع حويصة فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه مقتولاً قد انتهى، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء هو وأخوه الأكبر منه محيصة وعبد الرحمن أخو عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبون بحقه، فهنا يلاحظ: أن هناك عداوة بين الأنصار وبين اليهود، وهي عداوة دينية، وأشد العداوات العداوة الدينية؛ لأنها عداوة يتقرب بها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، فهي أعظم من عداوة الدنيا.

إذاً: في هذه العداوة لوث، ومن هنا من فقه العلماء أخذوا هذا الحديث كلمة كلمة، وجملة جملة، وبنوا الأحكام على هذا التفصيل، فوجدوا أن هناك عداوة بين من يدعي وبين المدعى عليه، فهذا أول شرط لمسألة القسامة: أن يكون هناك لوث أو لطخ، أي: وجود عداوة بين الطائفتين أو الجماعتين، أو يثبت أن جماعة فلان هددوا جماعة فلان وقالوا: إنهم سيضرون بهم، وذلك باعترافهم، أو قالوا: سنفعل بكم، أو سنضركم، أو لن نترككم، أو ستذكرون، ستندمون، كلمات تدل على أنهم يريدون أو يتربصون بهم الشر.

كذلك من اللوْث أيضاً قالوا: لو وجد هذا القتيل في مكان وبجواره رجل معه سلاح، وثوبه ملطخ بالدم، فحينئذ هذه يسمونها: القرينة القاطعة؛ لأن الرجل مقتول، وليس هناك أحد معه آلة القتل إلا هذا القائم، ونحن لم نره يقتل حتى نقول: إنه هو القاتل؛ لأنه احتمال أن يأتي شخص يريد إسعافه وإنقاذه، فيحمل السكين عفواً، ثم تلطخ بدمائه، فالاحتمال موجود، والشبهة موجودة، لكن هناك غلبة الظن، فإذا وجد بجواره في هذه الحالة، حتى ولو لم تكن هناك عداوة فهذا أيضاً لوث.

إذاً: عندنا حالتان:

الحالة الأولى: أن تكون هناك عداوة، وحينئذ تكون الشبهة بالقتل، وبالقسامة يثبت القصاص، والذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة هو في هذا الحديث في مسألة القصاص، لكن إن قلنا: إن القسامة تثبت الدية في قتل الخطأ، فمثلاً: وجدنا شخصاً مقتولاً ملطخاً بالدماء، وبجواره شخص بسيارته وهي ملطخة بالدماء، فقلنا له: هل قتلته؟ قال: ما قتلته، وأبى أن يعترف، وليس عندنا شهود يثبتون أنه قتله، فحينئذ تكون القسامة على القول بأنها تجري في الخطأ كما أنها تجري في العمد، وهو الوجه الثاني عند أهل العلم.

وبناءً على هذا قالوا: لو حدثت زحمة عند بئر، ثم خرجت هذه الجماعة المزدحمة ووجد بينهم رجل ميت، فيحلف أولياء المقتول على هذه الجماعة، ويلزمونهم الدية، كذلك أيضاً لو كان في يوم جمعة، المهم أن يكون في مكان فيه زحام، فمات بينهم، فهم الذين قتلوه، وحينئذ يحلف أولياء المقتول: أن هذه الجماعة هي التي قتلت، ويستحقون الدية، لكن لا يستحقون القصاص، على القول بأن الخطأ يجري مجرى العمد في ثبوته بالقسامة.

وإن قلت: إن القسامة خرجت عن الأصل، فتقول: تنحصر في قتل العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبتها في حادثة العمد، وهذا أقوى من جهة الأصول، وأقيس كما يقول العلماء؛ وذلك لما وجد عبد الله بن سهلرضي الله عنه يتشحط في دمه، انطلق حويصة -الذي وجده على هذه الحالة- وأخبر قريبه، فمضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تحلفون خمسين يميناً، فتستحقون على رجل منهم-يعني من اليهود- فيدفع إليكم برمته)، وفي لفظ في الصحيح: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون دم صاحبكم) يعني: اختاروا أي رجل منهم، وقولوا: هذا هو الذي قتل، وتحلفون خمسين يميناً، فيقتل به قصاصاً.

ومن هنا قالوا: إذا وجد اللوث-العداوة- أو كان بين الشخصين عداوة، وأثبت أولياء المقتول أن فلاناً كان يتوعد قريبهم، أو عرف عن هذا الشخص أنه رجل سوء، وقد ذكر عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقرره واختاره: أنه لو كان هناك شخص في حي، وهو معروف بسفك الدماء، معروف بالبغي، معروف بالاعتداء على الناس، فوجد قتيل في نفس ذلك الحي، فإننا نقول لأولياء القتيل: احلفوا على هذا الرجل؛ لأن دلالة الظاهر تدل على أنه ليس في هذا الحي أحد يجرؤ على القتل إلا هذا الرجل، ولا يستمرئ القتل ولا يستخف به إلا هذا الرجل، قالوا أيضاً: كذلك العداوات المشهورة بين أهل الأحياء، أو بين الجماعات والطوائف، توجب اللوث.

قال صلى الله عليه وسلم: (تحلفون خمسين يميناً، وتستحقون على رجل منهم، فيُدفع إليكم برمته، قالوا: يار سول الله...!) انظر إلى هذا الورع! انظر كيف ربى الإسلام هذه الأمة، فالأنصار كانت بينهم الثارات، حتى إنهم دخلوا ذات يوم إلى حديقة، تواعدوا أن يتقاتلوا فيها، فدخل في الحديقة رجالهم وأبطالهم وشجعانهم، فما خرج منهم أحد حي؛ من شدة ما كان بين الأوس والخزرج من القتال، وذلك يوم بعاث، فالشاهد من هذا: أن هؤلاء القوم الذين كانوا منغمسين في الثارات، وفي سفك الدماء، ومحبة الانتقام، انظر كيف أثر الإسلام فيهم، فقوّم أخلاقهم، وقوّم سلوكهم، وأصلح ظاهرهم وباطنهم بإذن الله عز وجل، وعلى من؟ على اليهود أعدائهم، ومع هذا كانوا أهل عدل حتى مع الأعداء، فإذا بهم يقولون: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟!) فما شهدنا قتله، ولم نر القاتل، فكيف نحلف خسمين يميناً؟! وقد قرر العلماء أن من غلب على ظنه أن فلاناً قتل قريبه، فيجوز له أن يحلف اليمين؛ لأن اليمين تجوز على غلبة الظن، والدليل على ذلك: مسألة القسامة.

فقالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! والله تعالى يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا [يوسف:81]) انظر كيف تورعوا مع وجود الدلائل والظواهر، ومع وجود الحمية لقريبهم، ومع هذا كله كفوا، وعفوا، ومع من؟ مع اليهود، فيا ليت المسلم يفعل عشر معشار هذا مع أخيه المسلم، حينما يتكلم في فكره، وفي منهجه، ويسفِّه، ويبدع، ويفسق، ويخرج المسلمين من الملة، دون أن يرعى فيهم حق الإسلام! فإن هؤلاء الأنصار اتقوا الله وتورعوا حتى مع أعدائهم، وهكذا يكون من يتأسى بالسلف الصالح حقيقة، ويكون على منهج الصحابة الذين هم أئمة السلف الصالح، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ونحن لم نشهد ولم نر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، فدل على فائدة وهي: أولاً: أن توجه الأيمان على أولياء المقتول على رجل، فإن حلفوا ثبت القصاص، وهذه يسمونها: أيمان الإثبات، فيحلفون ويقولون: والله إن فلاناً قتل فلاناً، يحضرون إلى مجلس القضاء ويقولون: إن فلان بن فلان، ويشيرون إليه؛ لاحتمال أن يكون أحد يشبهه في الاسم، ولذلك يقولون: إن فلان بن فلان الفلاني هذا قد قتل قريبنا فلانَ بن فلانَ، فإذا كانوا خمسين رجلاً فتقسم عليهم الأيمان, وإذا كان عددهم عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان حتى يكمل النصاب إلى خمسين، فهم مجتمعون، ومنفردون، فيحلفون على الإثبات، قالوا: (يا رسول الله! كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: تبرئكم يهود بخمسين يميناً) وهذه شهادة النفي، أي: على العكس، فإذا ادعوا، أحضرنا خصومهم، فإن قالوا: نحن ما نحلف، نقول لخصومهم: احلفوا خمسين يميناً على أنكم ما قتلتم، وتفصيل هذه اليمين أن يقول الحالف: والله ما قتلته، ولا أعنت على قتله، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هكذا؛ لأنه ربما يقول: ما قتلته، ويعني مباشرة، ولكنه تسبب في قتله، لكن عليه أن يقول: ما قتلته، ولا تسببت في قتله، ولا أعلم من قتله، فيحلف هذه الأيمان على هذا الوجه، فهي يمين نفي، ولما كانت يمين نفي.

قال صلى الله عليه وسلم: (فتبرئكم يهود)، فهي يمين براءة، وتكون من المسلم والكافر، لكنهم قالوا: (يا رسول الله! كيف نقبل أيمان كفار?!)، فامتنعوا من قبول يمين اليهود، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال بمائة من الإبل؛ لأن اليهود كانوا تحت ذمته، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا دم معصوم، ولا بد من وجود قاتل، فهو مقتول من شخص إما من المسلمين وإما من اليهود، ولا نعرف بالضبط من الذي قتله، وما استطاع أولياء المقتول أن يحلفوا، فإذا كان من المسلمين، أو من غير المسلمين، ممن تحت ولاية المسلمين، فحينئذ يضمنه بيت مال المسلمين، هذا وجه، وبناءً على هذا الوجه: يجوز للقاضي الاجتهاد إذا حصل مثل هذا، فمثلاً: وجد شخص مقتول، ولا يعلم من قتله، أو في الموت الذي يحصل من الجماعات أثناء الزحام والعمية، فإنه يودى من بيت مال المسلمين، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطر إلى دفع المائة من الإبل دفعاً للثارات؛ لأن الأنصار لن يسكتوا، ستأخذهم الحمية، وإن سكت الرجل فلن يسكت قريبه، وحينئذ سيحدث ضرر، وهؤلاء اليهود لهم ذمة، فلربما استطال أنصاري على يهودي، ولم يكن القاتل بعينه، فيدخلون في ثارات لا تنتهي، فمن هنا صار أشبه بدفع الضرر الأعظم عن المسلمين؛ لأنه سيؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، فكان من حكمته عليه الصلاة والسلام أنه قفل هذا الباب، ومن هنا لو أن القاضي رأى خصومة وقعت بين حيين، أو قبيلتين، أو جماعتين، أو فخذين من جماعة، وحدث فيها مثلما حدث في هذه القضية، فلا أيمان للإثبات، ولا أيمان للنفي، وهو يعلم أن أولياء المقتول لن يسكتوا، وسيتربصون، وستحدث أضرار، فإنه يودي من بيت مال المسلمين، حقناً لدماء المسلمين، ولا يبطل دم في الإسلام.

ومن هنا حدثت القضية لـعمر وعلي رضي الله عنهما، ففي زمان عمر الخليفة الراشد جاء رجل ووقف بعرفة فقتل من الزحام، فجاء أولياؤه إلى عمر، فقال عمر: البينة على أنه قُتل، أي: أعطوني بينة على أن الناس قتلوه، أو أن فلاناً قتله، وهم ليس عندهم بنية؛ لأنه قتل في زحام، فقالوا: يا أمير المؤمنين! ليس لنا بينة، فصاح علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! لا يبطل دم في الإسلام، يعني: أن هذا الدم لا يذهب هدراً، فهذه نفس محرمة، فأمر أن يودى من بيت مال المسلمين.

ومن هنا: بني على هذه القضية مسألة القسامة، أن ولي الأمر أو القاضي يتدخل حقناً للدماء، وثبت بهذا الحديث مشروعية القسامة، وجرى عليه عمل الأئمة رحمهم الله سلفاً وخلفاً، فالكل متفقون على مشروعية القسامة من حيث الجملة، وإن كان هناك خلاف في التفصيل في بعض المسائل التي تتعلق بإثبات القسامة، والحكم بآثارها.

قوله رحمه الله: [باب القسامة].

أيك في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بباب القسامة.

وكأن باب القسامة مرتب على باب القتل، فبعد أن بين لنا متى يكون القتل قتل عمد وقتل شبه عمد وقتل خطأ، وبين أحوال القتل ومن يقتص منه ومن لا يقتص منه، ثم تكلم على الجناية على الأطراف؛ شرع في باب القسامة؛ لأن إثبات الشيء أو طلب الإثبات -كما يسمى في القضاء- لا يكون إلا بعد وجود الجريمة، فلا نطالب بإثبات شيء غير ثابت في الأصل لا تتقدمه دعوى، فعلى هذا لابد أول شيء أن تثبت الجريمة على صفة معتبرة، ثم بعد ذلك يسأل عن إثباتها.

وكان المفروض أن يؤخر باب القسامة إلى باب القضاء؛ لأنه متعلق بالحجج والبينات، ولكن نظراً لأن القسامة لا تكون في شيء غير القتل -وهي خاصة بالقتل- فمن دقة الفقهاء رحمهم الله أنهم يذكرون الخاص في بابه الخاص، ويذكرون المتعلق الخاص في بابه، ولا يذكرونه في الأبواب العامة.

وباب الشهادات العام سيأتي الكلام فيه عن ضابط الشهادة عموماً في القتل، وفي الحدود والجنايات، وفي الأموال وفي الحقوق ونحوها، ولكن في باب القتل هناك نوع من الإثبات خاص به، من المناسب أن يذكره المصنف رحمه الله في بابه، ولا يذكره في الباب العام، وعلى هذا يكون ترتيب المصنف ترتيباً منطقياً راعى فيه تسلسل الأفكار، حيث بيَّن القتل والجريمة، ثم بعد ذلك بين ما يتعلق بإثباتها.

يرد الإشكال أن المصنف رحمه الله ذكره بعد باب الجناية على النفس والأطراف، ولا شك أن هذا له عذره فيه، فقد ذكر الجناية على الأطراف لأنها مرتبة على الجناية على النفس؛ ولأنه قسيم مشارك، ثم بعد ذلك ذكر القسامة باختصاصها بهذا الحكم الذي بيناه، وهو متعلق بباب القضاء، فكان الأولى والأجدر أن يؤخر، ومن هنا يكون منهجه منهجاً صحيحاً راعى فيه ما ذكرناه.

ثم من المعلوم أن القسامة لا تثبت إلا في قتل مخصوص وعلى صفة مخصوصة، ومثل هذا -عند الفقهاء رحمهم الله- يسمى الباب الخاص، ويؤخر عن الأبواب العامة.

قال رحمه الله تعالى: [وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم].

قوله: (وهي) أي: القسامة، فالضمير عائد إليها، وحقيقتها عندنا -معشر الفقهاء- أيمان، وهي جمع يمين، وأصل اليمين: الحلف، والأصل في اليمين القوة، يقال: أخذها باليمين: أي: بقوة، كما قال الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

يعني: بالقوة، ثم تطلق على اليد، وهذا إطلاق حقيقي وليس بمجازي، وكذلك أيضاً هنا تطلق على الحلف، وهو القسم، قالوا: سمي القسم يميناً لأنه يقوي جانب المقسم، فالشخص إذا حلف وأقسم قوي جانبه، وضعف جانب مكذبه؛ لأن كل من يخبر عن شيء فهو متردد بين أن يكون صادقاً أو يكون كاذباً، أو مخطئاً، ومن هنا إذا حلف فإنه يقوي ما يقوله، ويقوى جانبه في الخبر.

وقوله رحمه الله: (أيمان) جمع، وعبر بصيغة الجمع؛ لأن القسامة خمسون يميناً يحلفها أولياء المقتول على الصفة التي سنذكرها، فنظراً لكونها أكثر من واحدة، جمعها رحمه الله، وهذا الإجمال بينته السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال -كما في الصحيحين- للمدعين: (تحلفون خمسين يميناً )، ولذلك قال المصنف: (أيمان)، والمراد باليمين هنا: اليمين الشرعية المعتد بها، وهي اليمين بالله سبحانه وتعالى.

وهل تكون مغلظة أو غير مغلظة؟ الأصل ألا تغلظ اليمين إلا إذا دل الدليل على تغليظها، وتغليظ اليمين أن يقول: والله الذي لا إله غيره، أو والله الذي لا إله إلا هو، فإذا أضاف هذا القيد فقال: والله الذي لا إله إلا هو فقد عظّم يمينه، وإذا فجر فيها كان فجوره -والعياذ بالله- أعظم وأشد جرأة على الله سبحانه وتعالى مما لو قال: والله، فالأصل فيها أن تكون باليمين المجردة: والله. وبعضهم يقول: يضيف قوله: والله الذي لا إله إلا هو ما قتلناه، ولا نعلم من قتله. هذا بالنسبة لمن يدعى عليهم، وهي ما تسمى عند العلماء بيمين النفي.

والقسامة -التي هي الأيمان المكررة- التي ذكرها المصنف، تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أيمان إثبات.

والقسم الثاني: أيمان نفي.

أما أيمان الإثبات فتكون من أصحاب الدم، وهم الذين جني عليهم وهم أولياء المقتول، فأيمانهم أيمان إثبات، لابد أن يحددوا القاتل ويصفوه بما يتميز به عن غيره، وإن كان موجوداً في مجلس الحكم والقضاء، يقولون: والله إن هذا -ويشيرون إليه- قتل مولينا أو فلان بن فلان. ويذكرونه بما يتميز به أيضاً. هذه يمين الإثبات.

أما أيمان النفي: فتكون من المدعى عليهم؛ لأن الطرف الثاني وهم المدعى عليهم، إذا امتنع أولياء المقتول من الحلف طالبناهم أن يحلفوا، فيحلفون بالله خمسين يميناً أنهم ما قتلوا ولا يعلمون من قتله، فتكون اليمين على الأمرين، أما اليمين الأولى -وهي يمين الإثبات- فقد أشار إليها عليه الصلاة والسلام بقوله: (تحلفون خمسين يميناً وتستحقون بها دم صاحبكم) وفي اللفظ الآخر أيضاً في الصحيح (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم، فيدفع إليكم)، وفي لفظ أحمد (تحلفون خمسين يميناً) أو (تقسمون خمسين يميناً على رجل فيدفع إليكم برمّته) هذه كلها أيمان إثبات.

أما أيمان النفي فقوله: (فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (تبرئكم يهود) أي: يحلف المدعى عليهم -وهم الطرف الثاني الذين وقعت فيهم الجريمة، وادعي أنهم هم الذين قاموا بالجريمة، أو فيهم من قام بالجريمة- يحلفون خمسين يميناً.

فقوله رحمه الله: (أيمان) يشتمل على أيمان الإثبات من المدعي، وأيمان النفي من المدعى عليه.

ومن هنا كانت القسامة متضمنة للنوع الثاني من شهادة النفي، فالأصل عند العلماء أن شهادة النفي لا تعتبر حجة إلا في مسائل منها هذه المسألة؛ لأنه يحلف المدعى عليهم أنهم والله ما قتلوه، ولا يعلمون من قتله، أو يحلف الشخص الذي يدعى عليه أنه قتل، يقول: والله ما قتلته، ولا أعلم من قتله.

قوله رحمه الله: (أيمان مكررة) إن كانت من شخص واحد، سواء في الطرف الأول، إذا قلنا: الطرف الأول فهم أولياء المقتول؛ لأنهم هم الذين يبدءون أولاً، وإذا قلنا: الطرف الثاني، فهم الذين يدعى أن فيهم القاتل، فأولياء الطرف الأول تكون الأيمان مكررة منهم -طبعاً- على صور، منها:

ألا يوجد ولي للمقتول إلا شخص واحد، كأن يكون المقتول ليس له إلا ابن، ذكر عاصب، فحينئذ -بالإجماع- تتوجه إليه الأيمان ويحلف الخمسين كاملة.

ومن حيث الأصل هناك من العلماء من قال: لا يقبل فيها أقل من شهادة اثنين، فلا يقبلون شهادة الواحد، كما هو منصوص عليه في بعض المذاهب كمذهب المالكية، لكن وعلى هذا يكون قول الجماهير على أنه يكررها.

وأيضاً الصورة الثانية: تكرر الأيمان إذا كان أولياء المقتول -مثلاً- ابن وأخ شقيق فبعض العلماء يرى أنها تقسم بالميراث وبعضهم يرى أنها تقسم بالعصبة، فعلى التقسيم بالعصبة يحمل الأخ الشقيق أيضاً.

لو توفي في الأيمان المكررة من الوليين مثل ابنين أو أخوين شقيقين، الابنين تقسم اليمين بينهما، فيحلف أحدهما خمساً وعشرين والثاني يحلف خمساً وعشرين، فهي مكررة من هذا الوجه.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3335 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3222 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع