شرح زاد المستقنع باب الشجاج وكسر العظام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشجاج وكسر العظام] هذا الباب يختص بالديات المتعلقة بالشجاج فيما ورد التقدير فيه من الشرع، وكذلك أيضاً بيان حكم كسر العظام، وما يجب فيه من الحكومة والتقديرات الواردة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين. قوله: (الشجاج) جمع شجة، تقول العرب: شج المفازة إذا قطعها، وأصل الشج في لغة العرب: القطع، والشجاج لا يكون إلا في الرأس والوجه، ومن هنا تختص بالجناية على الرأس والوجه، وتشمل الشجة ما كان في مقدم الرأس عند الناصية، وما كان في وسط الرأس عند الهامة، وما كان في القذال وهو آخر الرأس، وكذلك أيضاً تشمل الشجة ما كان في أعراض الرأس، مثل أن تكون في العظم الذي يلي الأذن، سواءً من الأذن اليمنى أو اليسرى، فكل هذا تقع الجناية عليه وتسمى: بالشجة، فتارة تكون جرحاً للجلدة، وتارة تنفذ من الجلدة إلى اللحم، وتارة تنفذ من اللحم إلى العظم، وتارة تكسر العظم وتهشمه، وتارة تكسره وتهشمه وتنقله، وتارة تصل إلى خريطة الدماغ، كما إذا كانت الضربة في جهة الدماغ، هذا بالنسبة للشجاج في الرأس.

كذلك في الوجه، والوجه يشمل اللحيين، والخدين، والوجنتين، وكذلك أيضاً الجبهة، واستظهر طائفة من العلماء الأنف بطرفيه، فكل هذه المواضع الجناية عليها تكون على الترتيب الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، وفيه المقدرات الواردة في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في سنة الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم وهديهم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

وأما العظام فجمع عظم، ومراده هنا كسر العظام، أي: الجناية على العظم بكسره، فتارة تكون الجناية بهشم العظم وتارة تستفحل فتهشم العظم وتكسره، ثم ينتقل العظم بحيث ينفصل بعضه عن بعض، والعظم تارة يكون في الصدر، وتارة يكون في الذراع، وتارة يكون في الفخذ، وتارة يكون في الساق، إلى غير ذلك من المواضع التي تكون فيها العظام.

قوله: (باب الشجاج وكسر العظام) أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالجناية، والاعتداء بالشجاج وكسر العظام، ثم هذه الجناية تكون عمداً وتكون خطأً، ومن أمثلتها في العمد: هي أن تحصل الخصومة بين الرجل والرجل، فيأتي والعياذ بالله! فيضربه على رأسه فيشج رأسه شجة تدميه، يعني: تسيل الدم، أو شجة حارصة أو قاشرة تقشر الجلد ولا يسيل معها الدم، وتارة تكون شجة تكشف اللحم وتصيبه، وتارة تكشفه وتصيبه وتغوص فيه، وتارة تكون الشجة بالوصول إلى العظم دون قشرته حتى تحول القشرة دونه وهي السمحاق، كل هذا يقع بالعمد.

ويقع بالخطأ مثل حوادث السيارات، فلو أنه كان يقود سيارة فانقلبت به وبمن معه، فأصابت من معه شجة قشرت جلدة رأسه، أو أدمته، يعني: سال الدم منها، أو كسرت عظامه، فهذا من الخطأ، أو طبيب يعالج، فأخطأ في علاجه فترتب على الخطأ ضرر في العضو، وحصل منه جناية من هذه الجنايات، كذلك يعتبر من الخطأ أن يقوم رجل يحمل متاعاً ثم أسقط المتاع على غيره فشجه، وقس على هذا من الصور في الأخطاء التي تقع بين الناس، وكل هذا له أحكام خاصة في العمد اختلف العلماء في بعضها، يقولون: في بعضها القصاص، وبعضها لا يتأتى فيه القصاص؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه بالمماثلة، فمثلاً لو كانت الهاشمة: تهشم العظام، وتكسر العظام، فلا نستطيع بحال أن نضرب الجاني إذا كان متعمداً ضربة مثل ضربته بحيث تكسر نفس العظام وتصل إلى ما وصلت إليه الضربة الأولى في الجناية، ومن هنا يسقط القصاص وينتقل إلى الأرش.. إلى الحكومة.. إلى الدية، على حسب نوع الجناية، فهذه الأشياء التي سيذكرها المصنف في الشجاج تشمل عشرة أنواع، منها:

الخمس التي لا تقدير فيها. ومنها: الخمس المقدرة، فهي عشرة أنواع من الجنايات في الشجاج وما يتبعها، وهي الجائفة التي تكمل العدد العاشر، وفي بقية البدن لا تكون هذه الأشياء الخمسة التي لا تقدير فيها، كما سنبينه إن شاء الله في موضعه.

قال رحمه الله: [الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة ]

قوله: (الشجة الجرح في الرأس والوجه خاصة) وهذا عليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله، وأصله قضاء الصحابة رضوان الله عليهم، أنهم خصوا الشجة بالوجه والرأس، وله أصل في اللغة، ومن هنا قالوا: إن الجناية بالشجاج تختص بالضربات في الرأس والضربات في الوجه، على ما سبق بيانه، يستوي في هذا أن تكون في مقدم الرأس أو في وسطه أو في آخره، أو في جوانبه، لكن اختلف في آخر الرأس، فآخر الرأس مما يلي الرقبة وهو العظم المتدلي هل يعتبر من الرأس أو يعتبر من الرقبة؟ فالرقبة لا يعتبر فيها شجاج سواء من جهة ما أقبل أو ما أدبر، فالجناية عليها لا تأخذ حكم الجناية على الرأس والوجه، وبالنسبة للوجه يشمل ما ظهر وحصلت به المواجهة، وما كان تحت الحنك، أو تحت اللحيين، أو تحت الذقن مما لا مواجهة فيه فإنه آخذٌ حكم الوجه، ما لم يصل إلى الرقبة، فإن وصل إلى الرقبة ففيه الحكومة على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

قال: [ وهي عشر ]:

قوله: (وهي عشر) أي: الشجات أو الشجاج، أو الجنايات المتعلقة بالرأس والوجه عشرٌ، وهذا إجمالٌ قبل البيان والتفصيل، وبينا أن المراد به استحضار الذهن وتهيئته لما يذكر بعد.

هذه العشر منقسمة إلى قسمين: الخمس الأولى: التي فيها الحكومة وليس فيها مقدر ولا دية. والخمس الثانية: التي فيها مقدر، الخمس الأولى إذا أراد طالب العلم أن يضبطها؛ ليعلم أنها مرتبة تلو بعضها، فالمصنف رحمه الله من دقته وحسن بيانه ذكرها مرتبة، فراعى ترتيب الوقوع على حسب الجنايات.

ومن العلماء من عكس فقدم الخمس المقدرة على الخمس التي لا تقدير فيها، وهذا من باب العناية بالأهم، وهو الذي فيه مقدرٌ شرعاً، لكن طريقة المصنف أنسب وأدق في البيان والتوضيح.

الحارصة حقيقتها وحكمها

قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه].

الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يُحتج بتفسيره، كـالأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.

حقيقة الدامية وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم]

قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم.

قوله: (وهي التي يسيل منها الدم)

أي: أن الدم يسيل منها قليلاً.

يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلاً: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان.

وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.

حقيقة الباضعة وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم ]

هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمِبْضَعُ هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.

حقيقة المتلاحمة وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم ]

قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواءً في الوجه أو في الرأس، وسواءً في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.

حقيقة السمحاق وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة ]

فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم. وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعاً ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذٍ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم.

قال: [ فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة ]

أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد ، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقديرٌ شرعي، وحينئذٍ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما.

ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالاً، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه.

الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمساً من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدراً ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.

حقيقة الموضحة وحكمها

قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة]

الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسراً يسيراً أو كثيراً متفاحشاً، منحصراً في الموضع، أو متفرقاً في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.

حقيقة الهاشمة وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة ]:

الهاشمة: توضح العظم وتهشمه، والهشم الكسر للعظم، ويقال: هشم الشيء إذا فككه وكسره، ومنه هشم الثريد، ولذلك سمي جد النبي صلى الله عليه وسلم: بـهاشم ؛ لأنه هشم الثريد للناس بمكة من كرمه فكانت مفخرة له.

الشاهد أن الهاشمة هي التي تهشم العظم في الوجه والرأس، وفيها عشر من الإبل، وللعلماء في هذه العشر وجهان: الوجه الأول: أن خمساً من العشر لكونها أوضحت العظم، والخمس الثانية؛ لأنها هشمت العظم.

الوجه الثاني: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل ولا يفصل.

فائدة الخلاف بين الوجهين: أنه لو ضربه فهشم عظمه دون أن يجرحه، يعني هشم العظم داخل الجلد دون جرح، فعلى القول الأول لا يجب عليه إلا خمس من الإبل؛ لأنه لم يقع إلا الهشم، ولم تقع الموضحة، وعلى القول الثاني يجب عليه عشرٌ من الإبل، سواء كان هناك جرح وإيضاح للعظم، أو لم يكن هناك جرحٌ وإيضاح للعظم.

الموضحة: فيها خمس من الإبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل في ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن حزم ، وقد تقدم معنا وبينا أنه الكتاب الذي أجمعت الأمة على تلقيه وعلى قبوله، وضربه العلماء مثالاً للحديث الذي أغنت شهرته عن طلب إسناده، وحسن أئمة الحديث كالإمام الترمذي وغيره إسناد هذا الحديث، والعمل عند العلماء على حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه الذي هو كتاب النبي صلى الله عليه وسلم له في الديات ومقاديرها، هذا الكتاب جاء فيه: (وفي الموضحة خمسٌ من الإبل)، وسكت عليه الصلاة والسلام عن الهاشمة، فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام حديث صحيح يبين حكم الهاشمة، ولكن جاء عن أصحابه رضي الله عنهم، وقضى زيد بن ثابت وهو الصحابي الفقيه رضي الله عنه وأرضاه ولم يعرف له مخالف: أن الهاشمة فيها عشرٌ من الإبل، وبناءً على ذلك جرى العمل عند أئمة الإسلام سلفاً وخلفاً على هذا القول، هناك من خالف من العلماء رحمهم الله وقال: إن فيها حكومة، وذلك بأن يقدر المجني قبل الجناية ويقدر بعد الجناية -وسيأتي إن شاء الله بيان الحكومة- وهو مذهب مالك رحمه الله وغيره، والصحيح ما ذكرناه.

حقيقة المنقلة وحكمها

قال رحمه الله: [ ثم المنقلة وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل ]

قوله: (ثم المنقلة) المنَقَّلَة والمُنْقِلة هي التي تنقل العظم من مكانه، فيلاحظ أن الضرب في الهاشمة أخف من الضربة في المنقلة، فالمنقلة ضربة قوية تهشم العظم فتفصله عن بعض حتى ينتقل، ويعرف ذلك الآن عن طريق الأشعة، وكانوا في القديم يعرفون ذلك بالسبر، ويلاحظون العظم ويلاحظون انتقاله، ويكون ذلك من أهل الخبرة كالأطباء.

(خمس عشرة من الإبل) وذلك كما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن حزم، فإذا ضربه في رأسه أو ضربه في وجهه فكسر عظمه وانتقل هذا العظم المكسور، فإنه حينئذٍ يلزمه خمس عشرة من الإبل؛ لأن الكسور تكون متفاوته، فإما أنه يهشم العظم ولا ينتقل، أو يهشم العظم هشماً قوياً يفصله عما جاوره، وحينئذٍ ينتقل، فإذا حصل هذا الهشم بهذه القوة ففيه خمس عشرة من الإبل، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأولون الذين سبق بيان مذهبهم يقولون: المنقلة: خمسٌ من الإبل للموضحة، وخمس من الإبل للهاشمة؛ لأنها هشمت العظم، وخمس لكون العظم انتقل، هذه خمس عشرة من الإبل يجعلونها على هذا الوجه.

حقيقة المأمومة وحكمها

قال رحمه الله: [ وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية ]

قوله: (وفي كل واحدة من المأمومة والدامغة ثلث الدية) أُمُّ الشيء أصله، وأم الدماغ خريطة الدماغ، فإذا ضربه -والعياذ بالله- على دماغه ضربة أوضحت عظم الدماغ، وكشفت خريطة الدماغ، فإنها في هذه الحالة يقال لها: مأمومة، وأم الدماغ، هذه جناية، فإذا لامست الدماغ ووصلت إلى الدماغ يقولون لها: دامغة، والمصنف قال: المأمومة والدامغة.

وفي الحقيقة من العلماء من يذكر المأمومة ولا يذكر الدامغة؛ لأنهم يقولون: في الغالب إذا وصل إلى الدماغ يقتله؛ لأنها في مقتل.

وغالباً ما تحدث أضراراً توجب الديات مثل أن تخرسه -والعياذ بالله- فلا يتكلم، أو يصبح أصمّ لا يسمع، خاصة إذا جاءت على مواضع الحواس، فالشاهد عندنا أنه إذا ضربه على دماغه ضربة كشفت خريطة الدماغ، فحينئذٍ يجب عليه ثلث الدية، وهذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لـعمرو بن حزم (أن المأمومة فيها ثلث الدية).

الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة يستوي فيها الذكر والأنثى، يعني: من حيث تقدير الجناية، أما من حيث ما يجب على الجاني فالأنثى على النصف من الذكر، تقدر على الأصل الذي قررناه: أن الأنثى يكون لها النصف، ومن أهل العلم من يرى: أن عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث، وهذا في حديث السنن: (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها).

حقيقة الجائفة وحكمها

قال رحمه الله: [ وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى باطن الجوف]

الجائفة تكون في غير الرأس والوجه، تكون جائفة في البطن، وجائفة في الصدر، وتكون الجائفة في ثغرة النحر، وتكون جائفة فيما بين السبيلين، وهذه الجائفة فيها ثلث الدية، فلو طعنه بسكين ودخلت السكين إلى جوفه فأبانت أحشاءه فهي جائفة، وهكذا لو ضربه من ظهره فأظهر عظمه فهي جائفة، ولو ضربه على صدره فأبان جوف الصدر فهي جائفة، ولو ضربه بين السبيلين فنفذ إلى مجرى البول ففيه وجهان عند العلماء رحمهم الله: من أهل العلم من قال: إنها جائفة كالضرب في جهة العجان سواءً بالذكر أو الأنثى.

قوله: (وهي التي تصل إلى باطن الجوف)

باطن الجوف من جهة البطن ومن جهة الصدر ومن جهة الظهر، وغالباً ما تكون بالآلات الحادة، وممكن أن تكون بغير آلة حادة.

قال رحمه الله: [الحارصة وهي التي تحرص الجلد، أي: تشقه قليلاً ولا تدميه].

الحارصة، وتسمى: القاشرة، وهذه فسرها أئمة اللغة ومن يُحتج بتفسيره، كـالأصمعي رحمه الله وغيره، حيث قالوا: هي الجرح الذي يكون في الوجه أو الرأس، يقشر الجلد ولكنه لا يخرج معه الدم، فلو أنه ضربه على رأسه ضربة قشرت جلدة الرأس ولم يخرج الدم منها، فهذه تسمى: بالحارصة وبالقاشرة، فهي أصلها من الحصر وهو الشق، يقال: حصر الثوب إذا شقه.

قال رحمه الله: [ ثم البازلة الدامية الدامعة وهي التي يسيل منها الدم]

قوله: (ثم البازلة الدامية الدامعة) ثلاثة أسماء لها، النوع الثاني: أن يضربه على رأسه أو وجهه ضربة تقشر الجلد، ثم يخرج الدم ويسيل، فهي دامعة؛ لأن الدم يخرج ويسيل مثل دمع العين، ودامية؛ لأنها أدمته فأسالت الدم منه، والبازلة؛ لأنها بزلت الدم فأخرجته، هذه المرتبة الثانية من الجناية، الأولى تقشر الجلد، والثانية تقشر الجلد وتدمي، بمعنى: تسيل الدم.

قوله: (وهي التي يسيل منها الدم)

أي: أن الدم يسيل منها قليلاً.

يلاحظ هنا في الحارصة طالت أو قصرت، يعني مثلاً: لو أنه قشر جلدة رأسه بقدر أنملتين، أو قشر جلدة رأسه بقدر أنملة، فالحكم واحد، طولها وصغرها وكبرها هذا لا تأثير له، ما لم تتعد فتنزل، فتصبح في الرأس بازلة، وفي الوجه بازلة، أو حارصة في الرأس وحارصة في الوجه، أو تكون في موضعين من الرأس فتكون فيه ضربة في شقه الأيمن من الرأس، والثاني في الشق الثاني من الرأس، وكلاهما حارصة، فهما: حارصتان.

وهكذا إذا خرج الدم من اليمنى وخرج من اليسرى فهما: بازلتان، وداميتان، ودامعتان، فإن خرج الدم من واحدة ولم يخرج من الأخرى فحارصة وبازلة.

قال رحمه الله: [ ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم ]

هذه الدرجة الثالثة، فبعد أن قشرت جلده وأدمته بضعت اللحم، وأصل البضع القطع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما فاطمة بضعة مني) يعني: قطعة مني، وقوله عليه الصلاة والسلام حينما سئل -كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه- عن مس الذكر؟ قال: (إنما هو بضعة منك) فالبضع القطع، والمِبْضَعُ هي السكين التي يقطع بها، كسكين الجراح ونحوه، فالباضعة تقطع اللحم لكنها لا تغوص فيه، يعني: تأتي إلى مشارف اللحم فتقطع فيه.

قال رحمه الله: [ ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم ]

قوله: (ثم المتلاحمة وهي الغائصة في اللحم) المتلاحمة درجتها فوق الباضعة، والشق فيها أمكن، ويأتي بالضربات الشديدة سواءً في الوجه أو في الرأس، وسواءً في الخطأ أو في العمد، فتبضع اللحم ثم تغوص فيه، كما لو ضربه بسكين أو بآلة حادة، وغاصت هذه السكين في لحمه دون أن تصل إلى العظم فهي متلاحمة.

قال رحمه الله: [ ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة ]

فإن غاصت فلا تخلو من حالتين: إما أن تغوص ولا تكشف هذه القشرة وهي السمحاق، فلا تقارب العظم. وإما أن تكون نسبة اللحم كثيفة نوعاً ما فغاصت في نصفها أو غاصت في ثلثيها فهي متلاحمة، ما لم تنته من اللحم وتصل على مشارف العظم، هنا قشرة رقيقة أشبه بالماء أو بالزجاج حينما تظهر ترى العظم من ورائها، هذه تسمى: السمحاق، وهي فوق العظم، هذه السمحاق إذا جاوز اللحم وصل إليها، فإذا وصل إلى السمحاق فإنها درجة رابعة، وحينئذٍ يقال لها: الملطاة، ويقال لها: السمحاق، وتسمى: بالملطاة كما في مذهب الشافعية رحمهم الله، وقالوا: إنها لغة أهل الحجاز، والسمحاق: هي القشرة التي على العظم.

قال: [ فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة ]

أي: أن هذه الخمس الجنايات لا مقدر فيها في شرع الله عز وجل، وعن بعض الصحابة رضوان الله عليهم تقدير في بعضها عن زيد رضي الله عنه، لكن تكلم بعض العلماء في ثبوت ذلك عن زيد ، ولكن للعلماء في هذه الخمس وجهان: الوجه الأول يقول: هذه الخمس فيها الحكومة، وليس فيها تقديرٌ شرعي، وحينئذٍ نقدر هذه الجناية في المجني عليه، فننزله منزلة العبد ونقدره قبل الجناية، ثم نقدره بعد الجناية، ثم نوجب على الجاني أن يدفع الفرق بينهما.

ثم هذا التقدير يتأثر بالشين، يعني: ربما يأتي يضربه ضربة فيها حارصة فتشين وجهه، يعني: إذا شفي واندمل الجرح وبرئ تبقى آثار تشين الوجه؛ لأنها في الوجه تظهر، بخلاف ما إذا كانت في الرأس فهي مستترة، وللعلماء في هذا الشين وجهان: بعض العلماء يقول: تقدر الجناية حكومة، ثم يقدر الشين استقلالاً، يعني ينظر إلى أثر هذا الشين ويدفع له حقه فيه.

الوجه الثاني: إن هذه الخمس لها نسبة من الموضحة، إذا كان في الموضحة فيعطى خمساً من الإبل، فهذه الخمس نقسط الجناية التي دون الموضحة على حسبها، فنجعل لكل جناية من الجنايات قدراً ينزل عن حصة الخمس من الخمس، يعني: عن البعير، حتى تصل إلى حد الموضحة، والوجه الأول الذي اختاره المصنف رحمه الله أقوى، وهو أن فيه الحكومة.

قال رحمه الله: [وفي الموضحة وهي ما توضح العظم وتبرزه خمسة أبعرة]

الآن انتهينا من الجلد واللحم، وننتقل إلى الجناية على العظم، فإن وقعت الجناية، ووصلت إلى العظم ولم تصبه فإنها تكون الموضحة، أما لو وصلت إلى العظم فهشمته وكسرته كسراً يسيراً أو كثيراً متفاحشاً، منحصراً في الموضع، أو متفرقاً في نفس الموضع فإنه تكون الجناية بالهاشمة، والهاشمة بعد الموضحة، والموضحة فيها خمس من الإبل.