المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
49 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
تأليف المستشرق الإنجليزي أدورد وليم لين
للأستاذ عدلي طاهر نور
تابع الفصل الرابع عشر - الصناعات
مياه الآبار في القاهرة مشربة بالملوحة، فيجلب السقاءون الماء من النيل للسكان متعيشين من هذه المهنة. وكذلك يجلبون الماء من الخليج الذي يشق العاصمة أثناء الفيضان، أو بالحرى مدة الشهور الأربعة التي تعقب هذا الخليج.
ويجلبونه من النيل في غير ذلك الوقت، وهم ينقلون الماء في مزادات من الجلد على الجمال والحمير، وقد يحملونه على ظهورهم في قرب صغيرة لمسافة قريبة (أنظر شكل رقم 57) ويطلق على المزادة التي يحملها الجمل لفظ (ري) والري زقان واسعان من جلد البقر.
ويسمى ما يحمله الحمار (قربة) وتكون من جلد الماعز.
ويحمل السقاء كذلك قربة من جلد الماعز إذا لم يملك حماراً.
ويسع الري ثلاث قرب أو أربعاً.
ويصيح السقاء عادة: (يعوض الله) فيدل هذا الهتاف على مروره.
ويكاد أجر السقاء على القربة التي يحملها ميلاً ونصف ميل أو ميلين، لا يتجاوز أكثر من مليمين ويوجد أيضاً سقاءون يزودون المارة بالماء.
ويسمى بعضهم (سقا شربة) (شكل 58)، ويحمل هؤلاء قربة ذات أنبوبة نحاسية طويلة ويصبون الماء للظمآن في طاس نحاسي أو قلة من الفخار.
وهناك طبقة كثيرة العدد تمتهن الحرفة نفسها ويسمى الواحد منها (حمليا) (شكل 59) وأغلب هؤلاء دراويش من الرفاعية أو البيومية، وهم معفون من ضريبة الفردة.
ويحمل الحملى على ظهره إبريقاً من فخار رمادي يبرد الماء، ويحمل أحياناً قلة من الماء المعطر بماء الزهر المقطر من زهر النارنج، ليقدمه إلى أفضل عملائه.
وكثيراً ما يضع في فوهة الإبريق غصناً من النارنج.
ويتناول الحملى من أفراد الطبقتين العليا والوسطى قطعة فضة إلى خمس فضة.
ولا يتناول من الفقراء شيئاً أو يتناول منهم قطعة خبز أو أي طعام آخر يضعه في جراب يعلقه على جانبه.
ويصادف المرء كثيراً الحمليين وبعض السقائين في ساحات الحفلات الدينية، كالموالد وغيرها التي تقام في القاهرة وضواحيها.
وكثيراً ما ينفحهم زائرو قبور الأولياء نقوداً في مناسبات كهذه ليوزعوا الماء على الراغبين من المارة.
وتسمى هذه الصدقة (تسبيل)، وتكون إكراماً للولي، أو في مناسبات أخرى غير الموالد.
ويسمح لهؤلاء السقائين في هذه الأحوال أن يملأ والإبريق أو القربة من (سبيل) عام، لأنهم لا يتناولون شيئاً من المارة.
وهم ينشدون لهذه المناسبة لحناً قصيراً، داعين الظمآن ليتناول من هذه الصدقة المقدمة باسم الله فيقولون: (سبيل الله يا عطشان) ويدعون لمن قدم الإحسان أن تكون الجنة والمغفرة من نصيبه فيقولون (الجنة والمغفرة يا صاحب السبيل) ويوجد آخرون، تماثل مهنتهم مهنة الحملى.
ومن هؤلاء، بائع عرق سوس المذكور في فصل سابق.
ويحمل العرقسوسي جرة حمراء من الفخار على جانبه الأيسر ويربطها بسير من جلد أو غيره ويسندها بيده اليسرى (شكل 60) كما يحشو فوهة الجرة بليف النخل ويحمل طاسين من النحاس أو قدحين من الصيني أو أكثر يقرعهما معاً.
ويتجول كثيراً من بائعي الشراب بالطريقة نفسها.
ويحمل بائع الشراب عادة وعاء (الشيشة) الزجاجي ملآن بمنقوع الزبيب في يده اليسرى، وإبريقا كبيراً من القصدير أو النحاس الأحمر، وقللاً زجاجية في يده اليمنى.
ويحمل بعضهم صينية مستديرة من النحاس الأحمر المبيض وعليها قلل ملأى من (التين المبلول) أو (البلح المبلول)، (وسطلة) نحاسية أو طاساً من الفخار الصيني.
ويباع السحلب أيضاً بالطريقة نفسها، والسوبيا كذلك، وهي من لب عبد اللاوي يبل ويدق ثم ينقع في الماء ثم يصفى ويحلى بالسكر، وقد تصنع من الأرز بدلاً من اللب.
وتحمل السوبيا في أوعية كأوعية الزبيب؛ غير أن الأكواب هنا توضع في وعاء من القصدير يشده البائع بحزام إلى وسطه. ذكرت قبلاً أن كثيراً من فقراء القاهرة يتعيشون من تنظيف الشبك.
ويحمل (المسلكاتي) أي منظف الشبك سلوكاً طويلاً لهذا الغرض يضعها في عصى مجوفة ثلاث أو أربع أو في أنابيب من القصدير، يشدها معاً ويعلقها على كتفه (شكل 61) ويعلق مع العصي أو الأنابيب حقيبة صغيرة من الجلد بها ألياف من القنب يلفها أعلى السلك لتنظيف الشبك.
ولا يتناول المسلكاتي على تنظيف الشبك الواحد أكثر من نصف فضة يتعيش الكثير من الطبقة السفلى رجالاً ونساء، في القاهرة وغيرها من مدن مصر، من التسول.
والكثير من هؤلاء كما هو المتوقع، دجالون كريهون، فبعضهم يشق مظهره على المرء ولكنه يجمع أموالاً وافرة.
وقد حدث منذ شهور قليلة حادث من هذا النوع شاع أموه في القاهرة.
ذلك أنه كان هناك فلاح ضرير تقوده ابنته في شوارع القاهرة وهما يكادان يسيران عاريين دائماً.
وقد تعود هذا الفلاح أن يدعوا يومياً إلى منزله سائلاً تركياً ضريراً، فيتناول العشاء معه.
وفي ذات ليلة غاب الفلاح عن منزله، ولكن ابنته أعدت العشاء للصديق التركي الذي جلس يأكل وحده.
وحدث أثناء ذلك أن مد يده إلى جانبه فوقعت على جرة ملآنة نقوداً.
فلم يتردد في حملها وهو منصرف.
وكان في الجرة مائة كيس وعشرة من قطع الخيرية، وهي قطع صغيرة ذات تسعة قروش، أي ما يساوي حينئذ أكثر من خمسمائة وخمسين جنيهاً.
فذهب المجني عليه إلى القلعة يطلب إنصافه، فاستعاد ماله ما عدا أربعين خيرية كان اللص قد أنفقها، وقد حرم التسول على الفلاح بعد ذلك.
وكثيراً ما يشاهد المرء في القاهرة الأطفال عراة تماماً.
وقد رأيت كثيراً فتيات بين سن الأثنى عشر والعشرين يتسولون في الطريق دون أن يسترهن غير قطعة رثة حول الكشح وقلما يتأثر هؤلاء من برد الشتاء أو حر الصيف لتعودهم ذلك من الطفولة.
ويستطيع الرجال أن يناموا في بعض المساجد.
وليست حال المتسولين، من وجوه أخرى، سيئة جداً كما قد يرى الأجنبي من مظهرهم.
ويكاد المتسولون بلا ريب أن يحصلوا على طعام أو نقود تكفي لسد حاجتهم الضرورية، وذلك نتيجة لميل المصريين إلى الإحسان، وتعود التجار تناول الطعام في دكاكينهم وإعطاء السائلين شيئاً منه.
وهناك متسولون ينفقون جانباُ كبيرا ًمما يجمعونه صباحاً في التمتع بتدخين الحشيش ليلاً فيتخيلون أنهم أسعد الناس ولا تخرج صيحات المتسولين في القاهرة عن دعاء الله.
ومن أكثر الأدعية شيوعاً قولهم: (يا محنن يا رب!) (لله يا محسنين) (أنا طالب من عند ربي رغيف عيش) (يا مانت كريم يا رب) (أنا ضيف الله والنبي).
وقولهم مساء: (عشاي عليك يا رب) وفي ليلة الجمعة: (ليلة الجمعة الفضيلة) وفي يوم الجمعة: (يوم الجمعة الفضيلة).
وكان هناك متسول، تعود أن يمر بداري يومياُ، يقول: (توكلت على الله! لا الله إلا الله) وإني أسمع الآن متسولة تصيح: (عشاي عليك يا رب.
من أيدي مؤمن كريم موحد بالله.
يا أسيادي!).
ويرد الناس المتسولة عادة، إذ أنهم كثيرون بحيث لا يمكن المرء أن يعطي كل من يسأله، بقولهم: (الله يساعدك).
(الله يرزق).
(الله يعطيك).
(الله يعينك).
ولا يرضى السائل برفض لا يتضمن ما سبق ذكره أو ما يماثله.
ومن المعتاد أن يرى المرء أشد الشوارع ازدحاماً سائلاً يطلب ثمن رغيف عيش يمسكه في يده بينما يتبعه بائع الخبز.
ويتجول بعض السائلين ولا سيما الدراويش، وهم ينشدون قصائد في مدح النبي صلعم، أو يدقون الصنوج أو طبلة صغيرة.
ويتجول الدرويش بين الريف للتسول.
وقد رأيتهم يعتلون الجياد.
كما شاهدت أخيراً أحدهم يتنقل بين الأكواخ على جواد يستجدي الخبز ويصحبه رجلان يحمل كل منهما بيرقاً، وثالث يقرع طبلاً (يتبع) عدلي طاهر نور -